مرآة الضوءمسرحُ أفلام

فيلم «أبواق الصمت».. حرب أكتوبر بعيون إسرائيلية | شيرين ماهر

الفيلم الاسرائيلي (أبواق الصمت) استعرض كواليس العشرة أيام الأخيرة التي سبقت حرب أكتوبر

الفيلم الإسرائيلي أبواق الصمت.. حرب أكتوبر

(أنتم لا تعرفون عقل السادات. إنه يعمل وفق منطق مغاير، تحكمه قوانين القرية، فهو يقدس كل شبر من أرض بلاده.. أعلَم أن المصريين ليسوا أغبياء، كي يشنوا حرباً غير متكافئة، لكنهم جرحى كرامة ويشعرون بالإهانة.. يمكنكم قراءة ذلك في قصائد شُعرائهم ومقالات كُتابهم.. اقرأوا ما كتبه «هيكل» بجريدة الأهرام في افتتاحية عدد اليوم، عندما قال أن كل مصري، وأولهم السادات، مستعد للموت جوعاً من أجل سيناء.. اقرأوا عقل هذا الرجل بمنأى عن تقديراتكم المنطقية، فهو يبارز منطق العالم بمنطقه الخاص..).  

حوار بالغ الحبكة ردده الممثل «يورام هاتاف» في الفيلم الاسرائيلي (أبواق الصمت) الذي استعرض كواليس العشرة أيام الأخيرة التي سبقت حرب أكتوبر ومسار القرارات السياسية والعسكرية التي سبقت حرب أكتوبر، إذ تسببت هذه الحرب وما سبقها من كواليس انقسامية في تعديل نظام لجنة تقييم المخاطر في اسرائيل، وأصبحت لجنة التقييم تقوم بحشد قوات الاحتياط في حال اتفق اثنان فقط من إجمالي أعضاء اللجنة وليس برأي الأغلبية… وتزامناً مع الذكرى الـ 50 على انتصارات أكتوبر المجيدة، راودني الفضول نحو مطالعة كيفية تناول السينما الاسرائيلية لهذا الحدث المشترك. ربما دفعني إلى ذلك قناعتي بأن إسرائيل، في مثل هذا الحدث التاريخي المفصلي، غير قادرة على الادعاء، فالحقيقة راسخة أمام أعين العالم بأسره أن الجيش المصري استرد أرضه وكرامته بحرب نظيفة بذل فيها الغالي والثمين من أرواح ابنائه.. كذلك شغلتني مسألة- أعتقدها جديرة بالانتباه – وهي أن معظم أفلامنا وأعمالنا الدرامية التي وثقت هذه المرحلة، يحفظها الشعب الإسرائيلي، كما الشعب المصري، عن ظهر قلب. أما نحن فلا نقف على نفس الجانب من الاطلاع، لذا أقدمت على دخول كواليس المشاهدة، ومحاولة الوقوف على المنظور الاسرائيلي في تحليل الحدث.

أبواق الصمت
لقطة من الفيلم: رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مئير ووزير دفاعها موشيه ديان، وفي الخلفية صور الآباء المؤسسين للدولة الصهيونية (google.com/imgres)

الفيلم التليفزيوني الإسرائيلي “שתיקת הצופרים” المعنون باسم أبواق الصمت، امتلأ بمشاهد حوارية متعددة المستويات الدلالية، لكنني آثرت الاستهلال بنص حواري ردده الرائد فيكتور جاباى- رئيس القسم السياسي بفرع الشأن المصري التابع لهيئة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية، حينما كان يقارع كافة المعطيات التي اعتمد عليها رؤساءه، مُستبعدين احتمالية نشوب حرب مصرية، بينما استمات هو في إقناعهم بأن تحركات الجيش المصري والسوري، على مدار أحد عشر يوماً، قبيل يوم الغفران الموافق السادس من أكتوبر لعام 1973، لم تكن جزءًا من عملية تدريبية يقوم بها الجيش المصري، وإنما هي تحركات تطلق نفير الحرب، فما كان منهم سوى الإخفاق في سبر أغوار العقلية المصرية، لتصبح هذه هي الثغرة الفعلية التي عبرنا من خلالها إلى ضفة النصر.

أبهرتني كيفية حياكة النص بهذه الطريقة، التي عبرت عن قراءة عميقة لأسباب الهزيمة الإسرائيلية. وهي نقطة في غاية الأهمية، فليس دائماً المهم أن تنتصر، ولكن الأهم، إذا ما داهمتك الهزيمة أن تجيد قراءة الدروس المستفادة وتعترف- أولاً – أمام نفسك بأنك هُزمِت لسوء فهمك وعدم حسن إدارتك كواليس الصراع.. لذلك استمعت إلى هذا المقطع الحواري مرات ومرات وأنا مندهشة من طريقة المعالجة الدرامية والجرأة التي تعامل بها سيناريست أبواق الصمت للقيام بلعبة درامية مركبة تبدو، في ظاهرها، اعترافاً بالخطأ، لكنها ترمي إلى بٌعد أكثر عمقاً.. هذا الاعتراف الذي، قد يروق البعض ويظنوه رفعاً للراية البيضاء من جانب العدو، إنما هو في الواقع يحمل نقاطاً دفينة للتبرير والشرح، تقول: «كانت بيننا أصوات نافذة للعقول المصرية، لكننا أخفقنا، في الاستماع إليها. وأخفقنا في عدم الالتفات لمدى وجاهة ما يقولون». إنها بالفعل، معالجة شديدة الدهاء؛ لو جرى تفكيكها بمنطقية وحياد. فهي تٌحيل المسؤولية إلى أفراد بدلاً من الكيان، كما تنكر الهزيمة على الصعيد اللوجيستي.

الفيلم من إنتاج شركة تالاد، بالتعاون مع السلطة الثانية للتليفزيون والراديو في إسرائيل، وجرى عرضه عام 2003 أثناء الذكرى الثلاثين لحرب أكتوبر، كما تم عرضه بمكتبة الكونجرس للباحثين والمهتمين بتحليلات هذا الحدث، وقد حصل الفيلم على جائزة الأكاديمية الاسرائيلية كأفضل دراما تليفزيونية وثائقية لعام 2004. وهو من إخراج أورى أنبار، أما السيناريو والحوار أعده الكاتب المسرحي موتى ليرنر في ضوء رؤية توافقية طبقاً لما ورد بكتاب المنجل العارية للمؤرخ أورى بار يوسف. شارك في العمل مجموعة من الممثلين؛ من بينهم: روث جيلر التي لعبت شخصية رئيسة الوزراء الاسرائيلية جولدا مائير، والفنان عاصي ديان- نجل وزير الدفاع موشى ديان- الذى قام بشخصية والده بجدارة. كما قدم ناثان داتنر شخصية رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء إيلى زاعيرا، بينما قدم جيل فرانك شخصية رئيس الأركان دافيد اليعازار، في حين تألق وبحق الممثل يورام هاتاف فى دور الرائد فيكتور جاباى رئيس القسم السياسي بهيئة الاستخبارات.

يعد فيلم أبواق الصمت أحد أهم الأفلام الإسرائيلية الوثائقية، التي استعرضت إخفاق المخابرات الإسرائيلية والأمريكية في تقدير الموقف العسكري على الجبهة المصرية والسورية قبيل حرب أكتوبر نظراً لحالة الإرباك المعلوماتي والتكتيكي، التي أشاعتها القيادة المصرية، لدرجة جعلتها تتجاوز الأفضلية التقنية والتسليحية التي كانت تحظى بها اسرائيل. كما تناول الفيلم تحقيقات لجنة «أجرانات» التي عُقدَت لبحث ملابسات هزيمة اسرائيل في حرب 73، والتي ترتب عليها إقالة عدد من القيادات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية، إلى جانب إقالة غالبية السياسيين آنذاك، فيما دارت أحداث الفيلم ما بين غرفة الأبحاث بهيئة الاستخبارات التابعة لرئاسة الأركان الإسرائيلية، ومقر جلسة لجنة أجرانات، حيث امتازت تقنية التصوير بفكرة القص واللزق وكأنها أحد أشكال الوثوب السريع عبر الأحداث والزمن في آن واحد. كما استخدم المخرج تقنية الفلاش باك غير المتتابع لتصبح أحداث الفيلم أشبه بـ «البانوراما» العصبية، التي تلتقط، بالأكثر، درجات الانفعال المتفاوتة بين الشخصيات، على صعيد التخبط في اتخاذ القرار، من ناحية، والاستجواب أمام لجنة التحقيقات من ناحية أخرى. وهو ما برع في أدائه المصور جيورا بيت، إذ تشبه لقطات ومشاهد الفيلم «أضغاث الأحلام»، التي طاردت غالبية الشخصيات عبر مستويات مختلفة من الأحداث.

وعلى الرغم من ارتفاع المستوى الفني للعمل، إلا أنه بات مُختزلاً في المدخلات والمخرجات وترك المحتوى الأصلي فارغاً، ربما لتفادى التطرق إلى سرد تفاصيل الهزيمة، وتم الاكتفاء بشريط بيانات في نهاية الفيلم حول أعداد القتلى والجرحى والأسرى والمفقودين من صفوف الجيش الإسرائيلي. كما سعى صناع العمل إلى الدفع ببعض التبريرات والافتراضات التي تُظهر ملابسات هذا الإخفاق وكونه نابعاً من سوء التقدير وليس الإهمال. لكنني احترمت في العمل كونه لم يستخدم الإسفاف أو الاستعراض، بل اهتم برصد الحالة النفسية المتخبطة التي سيطرت على قيادات الجيش الإسرائيلي والاستخبارات قبيل وقوع الحرب وبعدها.

كانت شخصية الرائد فيكتور جاباى محورية بقوة داخل أحداث الفيلم، فهو صوت الغائب في الواقع، وضمير المتكلم في لغة دراما التمني. كما كانت هناك درجة عالية من اتقان أبعاد الشخصية، لإضفاء المزيد من الظلال النفسية، إذ لم يكن جاباى مجرد ضابط مخابرات في هيئة الاستخبارات العسكرية، وإنما كان مسئولاً عن الشأن المصري ومتابعة وحدات الاستماع السياسي للإذاعات المصرية، والصحف المصرية وكذلك كان مُجيداً للغة العربية، حيث راعى المخرج وضع صورتين كبيرتي الحجم للرئيس السادات على الحائط بجوار مكتب فيكتور، لرسم صورة ذهنية لدى المتلقي، توحي بمدى انغماس هذا الضابط في فهم العقلية المصرية وتحديداً الرئيس الراحل أنور السادات، فكان يطالع صورته من حين إلى آخر بنظرات ترقب وحذر، وكأنه يستغرق ملياً في التنبؤ  بما قد يدور في رأسه.

حافظ، أيضاً، مخرج العمل على تماسك هذه الصورة الذهنية، عندما اُصيب فيكتور بحالة من الإحباط جراء عدم إنصات رئيس هيئة الاستخبارات إلى تكهناته القوية بنشوب حرب وشيكة وفقاً لكافة المعطيات المتاحة لديه.. فيعود إلى مكتبه، مُلقياً نظرة صماء على صورة الرئيس السادات، وكأنه يُحادثه سراً قائلاً: «أعلم ما يدور برأسك، بل وأتأكد منه.. لَيتهُم يقرأونك بعيوني، فالجميع سيموتون غداً على الجبهة ولا عزاء لمن لا يستمع ولو لصوت وحيد على جبهة القتال ….».  هكذا وشت نظراته الصامتة المضطربة، التي توارت خلف أبخرة تبغه المحترق، وكأنها غيوم الهزيمة، تلوح في أفق عقله الساخط. كان يستوعب تماماً أبعاد المرجعية الفكرية للرئيس السادات وللشعب المصري، والتي تؤكد أن الحرب واقعة لا محال، لكنه لا يملك إقناع قائده بما يدور برأسه، وهو ما برهن على مدى تخبط البوصلة الإسرائيلية آنذاك في فهم الشخصية المصرية.

ولتدعيم هذه الفرضية حرص المؤلف على أن تكون شخصية رئيس هيئة الاستخبارات اللواء أيلى زاعيرا دائماً في مواجهة فيكتور جابلى، لرسم صورة متناقضة، تعكس ارتباك القيادات العسكرية الإسرائيلية آنذاك في تقديرها لأدوات الخصوم، فكثيراً ما كان زعيرا يرمق فيكتور بنظرة كبرياء، تصفع حماسته تارة، ثم يعقبها نظرة توجس، تحاول الإفلات من ذلك السيناريو المُنتظَر لو صدق، تارة أخرى. لكن سرعان ما كان يعاود زاعيرا حقن نرجسيته بمنشطات الثقة المطلقة، كي يُخرِس طوفان الوساوس المُتلاعِبة بـ «عقله»، الذي أسقط من حساباته شيئاً ما يُدعى «العزيمة». وهى التميمة التي جعلت جيشنا المنهك منذ هزيمة 67 يتشبث ويستوثق بنصر اعتبره «حقاً» بديهياً قبيل أن يكون «استحقاقاً» مُنتزَعاَ، حتى استفاق الجميع على نفير الحرب يدوي،  لتعود بعده سيناء من جديد إلى الأحضان المصرية.

أبواق الصمت مترجما إلى العربية (ٌYouTube)

ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها فيلماً إسرائيلياً، لكنها لن تكون الأخيرة، لأنني تأكدت أنه من الضروري أن نتابع الدراما والسينما الاسرائيلية، على الأقل فيما يتعلق بالأحداث المشتركة، بغرض قراءة وجهة النظر الأخرى، ليس من باب الفضول، فحسب، ولكن أيضاً من باب الفهم والتحليل وخلق رؤية أكثر شمولية للأحداث المفصلية في التاريخ المشترك.

شيرين ماهر؛ مترجمة ومحررة صحفية من مصر

أبواق الصمت

خاص قنّاص – سينما

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى