الشاعر الفلسطيني أنس العيلة ونصوص من مجموعته الشعرية «مُهروِلاً على ساقٍ واحدة» الصادرة حديثاً عن دار النهضة العربية في بيروت؛ 2023
***
دعساتٌ في شارعٍ ضيّق
البلد الّذي تضاءل مثل غيمة صيفٍ
سيتناثر عمّا قريب
مخلّفًا بقعًا صغيرةً على الخريطة!
ستعضّ أطرافه بأسنانك مليًّا
بأظافرك النابية
وتشدّه إلى عظام القفص الصدريّ
علّه يتسع لرقصةٍ جماعيّةٍ
لمشوارٍ صباحيٍّ بحثًا عن الأوكسجين
أو لسباقٍ رياضيٍّ مُرْتَجَل
علّه يكفي لدرس سَوْقٍ
لدعسة بنزينٍ جريئةٍ…
أو لزيارةٍ جبليّةٍ في ربيعٍ قادم
البلد الّذي سيتلاشى مِنْ تحت قدميك
كحفنة ترابٍ في الهواء
ستزرعه بأشجار زيتونٍ جديدةٍ
وبتلات لوزٍ وخرّوب
لتذهب في التراب عميقا!
لكن لن تجد اسمه في القواميس
ولا في دليل السفر
ستجده في سجلّاتٍ قديمةٍ
صورًا على الحائط
بأسماءَ ورموزٍ لا يتداولها أحد.
……..
البلد الّذي تحفظ صفاته
كسمات الجلالة
وتعرف حتّى طرقه الترابيّة
ويبدو أليفًا لَكَ مثل وجه أطفالِكَ
سيتبدّد مثل غبارٍ صامت
أو سيراوح بالأحرى مكانه
ليظهر لَكَ بتضاريسَ جديدةٍ
رُسِمَتْ على شاشةٍ
في مكتبٍ بعيد!
***
الأمّ الراحلة
الرفوةُ في ساقِ بنطالي القديم
بقيتْ إرثًا حيًّا
ليديكِ الماهرتين بخياطة
التمزّقات الصغيرة
الّتي غالبًا ما تفاجئنا في الملابس الّتي نحبّ!
كنتِ جالسةً أمام نافذةٍ مشرعةٍ
على هواءٍ أليف.. يأتي من بحرٍ لم يعد لنا
تمرّرين الخيط في ثقب الإبرة
بيدٍ خفيفةٍ ترتعش
وتتحدّثين بصوتٍ متعبٍ
تسمعه مرّةً
فيسكن الجسد إلى الأبد
كم استغرقتُ في النظر إليكِ
بأنفاسٍ طويلةٍ
وبعينين واسعتين
تعانقان الوقت
الّذي كان يأتي وقع خطاه
من ساعة الحائط القديمة
ولم يكن هذا كافيًا
ومرّ مثل أيّ وقتٍ مضى
وحتّى بسرعةٍ أكبر
…….
الرفوة في البنطال القديم
ظلّت مثل توقيعٍ شخصيٍّ
من خيوطٍ بيضاءَ
تتعانق فيما بينها…
مثل ذكرى قديمة
تنبض في قماشٍ مهترئٍ
مطويٍّ بعنايةٍ
على رفّ الخزانة البعيد عن متناول اليد!
***
جاتوه المساء
تقطعين المسافات في دائرةٍ صغيرة
ذهابُكِ إلى المطبخ
وعودتُكِ إليه،
الأواني اللامعة على الرفوف
سلّة الخضار الطازجة
وأكياسٌ مفتوحةٌ يسقط بها نهارُك
تنهمكين في طهي وجباتنا المفضّلة
بالنكهات المألوفة
الّتي سوف تلاحقنا.. وتطبع مصائرنا
تبحثين في الكتب
عن أطباق حلوى جديدةٍ
جاتوه المساء.. بالقرفة والفانيلا
سوف يترك مذاقًا دائمًا
يعلق مثل ذكرًى على طرف اللسان
كنّا نتعارك عليه.. في كرٍّ وفرٍّ
وأحقادٌ تندلع بيننا
لا تقودنا إلّا إلى النعاس!
الأعياد وأفراح الحيّ القريبة
القبلات السريعة على جبينك
الطلبات المشفوعة
برجاءٍ طفوليٍّ حارٍّ
كانت كلّها سببًا كافيًا
كي تعدّي حلوى المساء
هي الآن
كلّ ما تبقى منك على ألسنتنا!
***
مهارة التنفّس في مكانٍ عامّ
الرجال الهرمون في ركن القاعة
بابتسامةٍ ترسمها التجاعيد
ينفخون أنفاسًا متقطّعةً
على كعكة ميلادٍ تسيل عليها الشموع…
يدفعون هواءً ضعيفًا من صدورهم
تتراقص الشعلات أمامه
وتذوي قليلًا… لكنّها لا تنطفئ
لم تسعفهم
نفخاتُ عازف الساكسفون الطويلة
الّتي تنساب من الراديو المعلّق
ولا بائع الكستناء الكهل
على مدخل المقهى
ينفخ بمهارةٍ لإخماد النار في يده
كلّما أخرج حبّةً من الموقد
ولا الشابّ المحنيّ على المنفضة
ينفخ هواءً أبيضَ ناعمًا
يثير الرغبة باللمس
أو استعادته
قبل أن يتلاشى ببطءٍ أمامه!
…….
الهرمون المبتهجون في ركن القاعة
يخنقون الشعلات المتبقّية
برؤوس أصابعهم المبلّلة بالريق
ويتبادلون الهدايا كأنّها غنائمُ حرب!
***
التجوّل في الريف بحاسّةٍ واحدة
أمام الشجرة الّتي تشرّبتْ
بول طفلٍ صغير
أصغي إلى التراب
وهو يمتصّ السائل الذهبيّ بشراهة
تاركًا خلفه رغوةً بيضاء
أصغي لصراخ دودةٍ
تنقلب على ظهرها
رغم أرجلها الكثيرة
الّتي لم تغادر فيء صخرةٍ منذ ولادتها
أصغي للهدير الّذي يُحدثه
سرب نملٍ أسود
يرسم خطًّا متحرّكًا لا فراغ فيه
أصغي لعناق كلبين
يشمّان بعضهما
ويتبادلان لحساتٍ خاطفةً على الرصيف
قبل أن يواصلا المسير
برفقة سيّديهما،
كلٌّ في اتّجاه
إلى زعيق خنزيرٍ برّيٍّ
يُساقُ إلى الشاحنة
جرًّا مِنْ عنقه
عرف بالحدس وحده أنّه يُقادُ إلى حتفه
أصغي إلى زلزالٍ نائمٍ
تحت العشب الأخضر
الّذي ينحني على قدميّ
أصغي إلى الهواء
الّذي يسقط فجأةً في جوفي
وإلى دفقة دمٍ جديدةٍ
محمّلةٍ بالضوء
والأوكسجين
يدفعها القلب
إلى الأعضاء
حتّى أطراف الأصابع
***
نصوص شعرية من مجموعة «مُهروِلاً على ساقٍ واحدة» لـِ أنس العيلة
أنس العيلة: شاعر فلسطينيّ من مواليد قلقيليّة 1975، يقيم في باريس. حاصل على بكالوريوس لغة عربية ودبلوم صحافة من جامعة بيرزيت 1998، ثم أكمل دراساته العليا في فرنسا في مدينة ليون. يكتب مقالات في الصحف الأدبيّة وبحوثا أكاديميّة باللغتين العربيّة والفرنسيّة. حصل عام 2012 على جائزة Les journées Brautigan في فرنسا عن مجموعته الشعريّة «مع فارق بسيط» التي صدرت بالفرنسيّة بترجمة من الشاعر المغربيّ محمد العمرواي، وقد وصلت إلى طبعتها الرابعة. عمل مع موسيقيين فلسطينيين وعرب، منهم الموسيقي محمد نجم، ولحُّنت العديد من قصائده. وعمل مديرا فنيّا لمهرجان شعريّ بالتّعاون بين المركز الثقافيّ الفلسطينيّ وبين معهد العالم العربيّ وبيت الشعر الفرنسيّ في باريس. يعمل حاليا مُحاضِرا جامعيّا، ومسؤولا عن قسم اللغات الساميّة في مكتبة جامعة باريس الثامنة. صدر له: «مع فارق بسيط، دار فضاءات، عمان 2006»، و«عناقات متأخرة، دار لارماتان، باريس 2016».