«عزيزي من وراء البحار» أو «الحب عبر المحيط» لـِ عايدة نصر الله
صدرت الترجمة الألمانية لرواية «عزيزي من وراء البحار» للكاتبة الفلسطينية عايدة نصر الله في ٢٠٠٨، عن دار ‘رومان كوفار فيرلاج’ الألمانية للنشر، تحت عنوان: الحب عبر المحيط. هذه الرواية كتبت في الأصل بالعربية، لكن النسخة العربية لم تُنشر بعد! تحاول الكاتبة في هذه الرواية استكشاف أبعاد الهوية المركبة للفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل (عرب 48)، كما جاء في مقدمة الرواية في نسختها الألمانية والتي كتبتها ماري لويز يونج -أستاذة اللغات وتاريخ الفنون والفلسفة- أنها تشكلت من خلال يوميات تنقل حياة الكاتبة في ظل حياة سياسية غير آمنة، والرواية تدور حول أسئلة مثل: من أنا؟، أين أنا؟ وهو السؤال الذي يداهم كثيرا من الفلسطينيين الذين يعيشون داخل إسرائيل.
تنشر مجلة قنّاص فصلا من هذه الرواية، مُهدى من المؤلفة عايدة نصر الله.
***
نيو يورك – بورتلاند ١١/١١/٢٠٠١
كان من المفروض أن أسافر لبورتلاند مع الكاتب الإيطالي روكو كاربوني، والكاتب الكوبي نورخي شبينوزا. عندها دخلت نفس دوامة الخوف التي عبرتها في السفر الأول، شعرت بضغط. فحصتُ ما إذا كان الكتاب سيسافرون معي بنفس الساعة وبنفس الطائرة، أم أن كل واحد سيسافر لوحده. لم أرد أن أمر بتجربة السفر لوحدي التي خبرتها من تل-أبيب وحتى نيوجرسي. وعندها سألت ثلاثتهم. وتبين لي بأن روكو سيسافر بتاريخ 13 الشهر، نورخي سيسافر في نفس اليوم الذي أسافر فيه، ولحظي العاثر ليس بنفس الطائرة.
“على الأقل سأفحص إذا كنا سنقضي تلك الفترة بنفس الفندق؟” سألت. وكان ذلك على الأقل صحيحا. هدأت. واتفقنا بأن نورخي العربي “القح” سينتظرني في المطار وهناك لن تتوه العربية، ومعاذ الله ان تضيع وتمس بكرامة الأندلسي الأصل نورخي.
سافرت وحدي بطائرة تشبه التراكتور الذي سأذكره بعد ذلك في إحدى الرسائل. ووصلت إلى بورتلاند على أمل أن ينتظرني أحد في المطار.
أضعت إحدى الحقائب. وأية حقيبة؟
الحقيبة التي حشرت بها كل الهدايا التي اشتريتها لأولادي. فتشت وفتشت ولم أجدها. ومن داخل اليأس جاءت موظفة وسألتني “هل أضعت حقيبة؟ فقلت لها نعم” فطلبت مني تسجيل التفاصيل الشخصية ولون الحقيبة وإذا كان هناك ما يميزها مثل قماش مربوط على يدها أو أي شيء. وعندها تذكرت حزام ثوب أمي التي أصرت على ربطه في الحقيبة. فقلت بنفسي” شكرا لك يا أمي التي عاندتني وأصررت على تزيين الحقيبة بحزامك. وشكرت بقلبي وعلانية الموظفة التي مسكتني متلبسة بالتيه، والتي لولاها، لم أكن حتى لأعرف أين أتوجه.
ربما كنت سأعرف، ولكن، كان شعورا حسنا بأن المساعدة تأتيني لوحدها. هذا هو حظي الوحيد حيث يجدني الناس ليساعدوني وليكفروا عن خطاياهم. نعمة من الله.
بعد ذلك خرجت من المطار، نظرت حولي، لم يكن أحد ينتظرني. انتظرت ما يقارب الساعة، وقلت “لماذا لا أتدبر الأمر بنفسي؟ سآخذ سيارة أجرة لتقلني إلى العنوان، وسيكون نورخي شبينوزا بانتظاري.
وهكذا كان. وصلت إلى الفندق حسب العنوان. دخلت الفندق، وضعت الحقيبة اليتيمة، ولكن شعرت للتو باختناق.
المدخل مليء بورود البلاستيك. والفندق كان من النوع القديم، ليس ذلك القدم الذي ينفحك بالروحانيات والحنين، وإنما نوع من العتق الثقيل، وربما كان ذلك بسبب الورود البلاستيكية التي ذكرتني بورود جارتي القديمة امرأة الشيخ فتحي.
ملكت امرأة الشيخ فتحي حديقة من ورود البلاستيك غرستها داخل مزهريات كبيرة من الكراميكا من النوع البشع. وكل يوم جمعة في الساعة العاشرة صباحا كانت امرأة الشيخ فتحي تفرش جميع الورود وتنظف بدقة بالصابون والماء كل ورقة على حدة. لم يكن يوم الجمعة بالنسبة لها يوم “الملوخية”، مثل أغلب الناس في أم الفحم، والذي أصبح طقسا منذ أيام الحكم العسكري الإسرائيلي. حيث كانت النساء تحضر الدجاجة مرة في الأسبوع احتفالا بمناسبة عودة العمال من تل أبيب أو من المدن اليهودية الأخرى. وهكذا في الوقت الذي كانت النساء الفحماويات يحتفلن “بالملوخية” كانت امرأة الشيخ فتحي تحتفل مع ورود البلاستيك. وكان منظرها وهي مركزة في التنظيف يثير أعصابي. والظاهر أن تلك الإثارة غير المريحة عبرت السنوات تغزوني هنا في هذا الفندق الخانق في بورتلاند. أصابني هاجس داخلي “لا تدفعي للفندق الآن. انتظري”
فتقدمت إلى صاحب الفندق الذي يحمل وجها ذو لون أحمر “هل وصل هنا أحد باسم نورخي شبينوزا؟
فقال “لا”
وعدت لأسأله “هل وصل عندكم ثمة شخص يدعى كريستوفر ميرل؟
وأجاب “لا”.
عندها أحسست بغربة قاتلة. غربة المكان والإنسان. وحدي في مكان لا أعرف فيه إنسيا ولا جنيا. خرجت لتدخين سيجارة. كنت بحاجة للبكاء، ولكنه لم يتأت لي لأن حزني كان أقوى من البكاء نفسه. كلماتك عادت إلى الذاكرة “إذا خاف الناس من السفر/ فلماذا يسافرون؟
“لعنة الله على تلك الكلمات. لم تساعدني هنا”.
انتظرت ساعة ونصف وأنا أحاول تجاهل نظرات أصحاب الفندق الذين حاولوا كل جهدهم أن يكونوا لطفاء. ولم يكن مقبولا من جانبي الانتظار مع كل تلك الحقائب، وضعتهم في حالة المضيف وغير المضيف.
صاحب الفندق حمل وجها لأولئك الطلائعيين الأمريكيين، وربما الإنكليز والألمان معا من سنوات ال- 60 الذين كنت أراهم في أفلام الكاوبوي: وجه أحمر، عينان كحليتان، شعره خليط من اللون الأصفر والأحمر، وجه لرجل عز ومصلوب بربطة عنق.
فجأة أسمع رنين تلفون. يتقدم مني صاحب الفندق ويسألني “هل اسمك ناصرة؟
وصدمته بزعيقي “نعم”
وأكمل: “هل تنتظرين رجلا باسم نورخي”
قفزت للتلفون “أيوه يا نورخي، أين أنت، أنا هنا لوحدي”
وقال لي نورخي أنه سيأتي لياخذني لفندق آخر. وسألته بسرعه لئلا يضيع من التلفون “هل ستكون هناك؟
فقال “لا سأكون في مكان آخر”
ذهبت للفندق الآخر ووجدت كريستوفر ميرل، عندها أحست وكأني في البيت.
” ألو كريستوفر. حسنا أنك هنا، على الأقل يوجد من أعرفه هنا”
وتحول هذا التلفون لقصة حياة كريستوفر يرويها للكتاب الذين كانوا قد عرفوا عقدة الضياع بي.
مسالة المكان والهوية كانت قد أثيرت سابقا في غرفة 233 في أيوا، ولكنها كبرت أكثر هنا في بورتلاند وأنا وحدي. هل يكفي أن تعرف انسانًا واحدا كي لا تشعر بالغربة؟
دخلت الفندق، أعطيت تقريرا عن الحقيبة الضائعة، وضعت رأسي على الوسادة ولساني يقرأ جميع ما عرفته من آيات قرآنية وأدعية لكي تعود حقيبتي.
***
فصل من رواية «عزيزي من وراء البحار» أو «الحب عبر المحيط» لـِ عايدة نصر الله
الأديبة والأكاديمية الفلسطينية عايدة نصر الله.