الخبز الحافي: الفيلم والرواية يؤرِخان لذاكرة العوز والقهر
أن تتهجي المعاناة مفرداتها فى شهقة كبرياء وتتدثر بغطاء الأوراق وحبر القلم.. أن يَنطلِق شيطان الكتابة من قنينة مخبأة بالطرقات المظلمة والحنايا الداكنة.. أن يُشهِر القلم سيف البوح الكاشِف عن نقاط الضعف ومكامن العِلّة.. فأنت تتحدث إذن عن الروائي المغربي الراحل محمد شكري؛ أحد رواد السرد العربي والمغربي الحديث.. ذلك الأديب المُشاكِس والكاتب الحاذِق، الذي انتزع صفة العالمية من خلال أعماله الابداعية القليلة التي مازالت قِبلة القراء والباحثين والمترجمين حتى الآن.
سُمى شكري بـ«الكاتب الصعلوك»، حيث غيرت الكتابة وِجهَة حياته من الصعلكة إلى الشهرة الطاغية، فهو أكثر الأدباء العرب ترجمة، إذ نال شهرة كبيرة جعلته محلّ احتفاء واختلاف كبير داخل الأوساط الثقافية العالمية، وذلك لكونه كاتب افترش طُرقات الأوطان بكلماته اللاذعة، وحطم أوثان الواقع بمناجل الكلمة.. لم يبحث يوماً عن الشهرة، بل هي التي ركضت خلفه. لم يكترث إلى المال، رغم احتياجه المُلِح له، لكنه أتاه من حيث لا يَحتسِب.. عاش واقع التسكُع عن طيب خاطر بعد أن ضنّت عليه الحياة بالكثير.
والواقع ظلت سيرة شكري الذاتية والأدبية مساراً للحكايات والأقاويل، وانقسم حوله النقاد والمؤلفين والقراء- عرباً وغربيين- ما بين منبهرين وحاقدين، كما أثارت مواقفه جدالات مستمرة بخصوص قضايا أدبية وقيمية متشعبة، فكيف تمكن هذا «الريفي» المغربي القادم من قري الناظور أن يجعل طنجة عالمه الروائي الخالص ومسكن شخصياته، حتى توحد كليهما بالآخر؟
لم يكن أيضاَ طريق الكتابة مفروشاً أمامه بالورود، لكنه محى أُميته القهرية بإرادة سطعت في لحظات حالكة، فكانت الكتابة سبيله للتطهُر من زلاّت القهر والفقر، حيث استطاع أن يُنشئ مفاهيماً جديدة فى الكتابة الإبداعية قد لا تخص سواه، مُتخِذَاً منها سبيله للتداوي، كي يتمكن من التصالح مع سياط الواقع الغائرة على جسده الهزيل.
كان شكري طفلاً بائساً، انطفأ داخله الصبا، حتى انجرفت كهولته باكراً على حافة العدم والمرض. وبالطبع كانت «الطفولة» هي العتبة الأولى لفهم الخلفية النفسية والانسانية لهذا الكاتب المتفرد، الذي تجرع كؤوس التعاسة تحت نير الاستعمار والفقر، حيث عايش كواليس المجاعة التي ضربت الشرق المغربي أثناء الحرب العالمية الثانية، فعمل وهو ما دون العاشرة كصبي مقهى، ثم حمّالاً، فبائع جرائد وماسح أحذية، كما عمل بعد ذلك خادماً وبائعًا للسجائر المُهربة..
لم يكن شكري يتحدث العربية، فكانت لغته الأم «الأمازيغية» وقليلاً من الإسبانية والفرنسية، لكنه في سن العشرين قرر أن يتعلم القراءة والكتابة، مُغادِراً بذلك واقع التسكع والتهريب والسجون، الذي غرق فيه، حيث تفرغ تمامًا للكتابة الأدبية، وكرس أغلب نصوصه لرصد الواقع ونقل صور الأشياء اليومية وتفاصيلها دون إضافة الرتوش، فكان يمنحها حيزًا شعريًا واسعًا، على عكس النصوص التي تقوم بإعادة صياغة أفكار أو قيم معينة بأنماط شعرية محددة.
شخصيات شكري وفضاءات نصوصه ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقع اليومي، وتتحرك على مسرح الحياة، حيث تبنى كواليس «العالم الهامشي» كقضية للكتابة ومرتكز للهموم، فكتاباته تكشف للقارئ عوالم مسكوت عنها في الكتابة الأدبية العربية، كما احتلت مدينة «طنجة» حيزاً هامًا ضمن كتابته، فكتب عن وجوهها المنسية وظُلمتها وفقراءها، الذين انتمى إليهم ذات يوم، إذ تعد رواية الخبز الحافي -الصادرة عام 1972- أشهر كتاباته على الإطلاق.
والواقع لم تكن الخبز الحافي مجرد رواية صادفها الحظ، فذاع صيتها، وإنما كانت وثيقة اعتراف صادم حررها شكري، كاشفاً بين سطورها عن واقع الفقر والجهل والظلم، الذى ساد بلاده آنذاك، وعلى الرغم مما تميزت به الرواية -على المستوي الفني- من عوامل نجاح عديدة، أهمها نزعتها الواقعية الصارخة، إلا أنها ظلت تشبه اللعنة، التي طاردت شكري حتى في قبره، نظراً لكشفه الصريح عن كونه بطلها الحقيقي وكونها سيرته الذاتية منذ أن كان طفلاً مشرداً بشوارع طنجة، فيبدو أنه قد تحلى بقدر مبالغ فيه من الجرأة المحفوفة بالمخاطر، لكنه في النهاية كان متصالحاً مع ذاته واتخذ من الكتابة آداة لتشريح الواقع.
ظلت رواية الخبز الحافي ممنوعة من النشر في الوطن العربي قرابة عشرة أعوام، نظراً لجرأتها الصادمة في كشف غياهب العوالم المهمشة وواقع الفقراء والجوعى والجهلاء من ضحايا الاستعمار بين صفوف الشعب المغربي. وبعد أن تهافتت دور النشر على الرواية، صارت الأكثر مبيعاً في العالم العربي قاطبة، كما جرى ترجمتها إلى 22 لغة أجنبية، وحظيت بحفاوة نقدية شديدة بالداخل والخارج، حيث اختلط في نسيجها الواقعي بالمُتخيَل، والسردي بالحقيقي، مما أكسبها أبعاداً مثيرة للفضول، فأصبحت نموذجاً للون فريد من المزاوجة بين فن الرواية والسيرة الذاتية، تماهياً مع أدوات السرد الروائي وتفاصيل التوثيق الحياتي.
وفي عام 1983 جرى السماح بطبعها وتداولها في العالم العربي لأول مرة، حتى صارت بعدها محوراً للعديد من الدراسات العربية والعالمية، كما درّست في الجامعات وأُعِدَت عنها العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، حيث تتجول الرواية في دهاليز حياة محمد شكري الطفل كنموذج على حيوات فقراء «طنجة» تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، الذي تجاهل ما آلت إليه أوضاع الشعب البائس الراكض خلف كسرة خبز لا أكثر، ولأجلها يتصارع ويمارس عنفه القهري كمن يلجأ للموت هرباً من موت آخر يلاحقه.
تسافر بنا الرواية أيضاً إلى مشاهد مؤلمة كثيرة، إذ نرى جند الاستعمار ينفّذون مشيئات الأسلحة بصرامة وعنف، فيلاحقون أبناء الشعب المطالبين بالاستقلال، ويرمونهم في أقسى السجون والمعتقلات، فقط لتنظيمهم مسيرات تُطالب بالحرية، لكنهم لا يرضخون، بل يتمكّنون من الصمود، والشروع في الخلاص من كافة الشرور، والسير في طريق العلم والإبداع، ونموذجهم “محمّد شكري” نفسه.
ومثلما أثارت الرواية الكثير من الجدل، كذلك أثار فيلم الخبز الحافي -المأخوذ عن الرواية- لمخرجه الجزائري رشيد بن حاج، موجة نقدية ما بين مؤيد ومعارض، فهناك مَن انتقد الفيلم لنفس أسباب نقد الرواية، ألا وهي، الجرأة والمباشرة في العرض، وهناك مَن أشاد بالفيلم لكونه قبض على مضمون رسالة الرواية وصاغها في عمل سينمائي أضاف لجمهور شكري بل وأنصف سيرته الذاتية التي شابها الكثير من التَجني.
والواقع لم يكن هناك مفر من أن يتعامل «بن حاج» بحيادية مع جرأة النص الأدبي، خاصة وأن هذه الجرأة تعد ركناً أصيلاً في نسيج الرواية، مما صعب مهمته في التحايل عليه أو إسقاطه، لكنه حَرِص في المقابل على إبراز مضامين الرواية وإيضاح الأهداف الروائية من استخدام مثل هذه المباشرة في رسم لوحات صارخة شديدة الفجاجة، تعكس الواقع المُظلم الذي عايشه البطل كـ«ردة فعل» منطقية لواقع الاحتلال، ومن ثَم أمكنه الإبقاء على هذه الفكرة طيلة الأحداث وجعلها الأشد رسوخاً أمام المُتلقي.
وظف بن حاج حصاد رحلته السينمائية الطويلة بين الجزائر وفرنسا وايطاليا والمانيا وسويسرا، في أن يحيل ذلك العمل الروائي إلى عمل سينمائي يُحاكى مشكلات الاطفال المشردين الضائعين، الخارجين من حنايا البؤس والامية والفقر، ليمنحهم الأمل، فضلاً عن تجسيد أهمية قيمة العلم والمعرفة باعتبارها سبيل آمن للخروج من ظلمات التخلف والجهل والضياع ولوجاً الى النور.
يعد الفيلم أيضاً بمثابة شهادة تاريخية توثِق ويلات المجاعة والحقبة الاستعمارية القاسية التي عاشها المغرب، وتربي في كنفها الروائي “محمد شكري”، ليصبح ابناً لتلك الظروف التي صنعته. كذلك طَعَم “رشيد بن حاج” فيلمه بالعديد من المشاهد التسجيلية الواقعية، التي اُلتقِطَت للمغرب في تلك الفترة المظلمة من تاريخه قبيل الاستقلال.
الفيلم من إنتاج إيطالي، وصدر في نسخته الأولى عام 2004، حيث جرى عرضه بمهرجان القاهرة السينمائي الدولة في دورته الـ 29، كما حصل على جائزة “الجمهور” في المسابقة الرسمية لمهرجان مونبيليه للسينما المتوسطية. البطولة كانت للفنان الفرنسي من أصل مغربي سعيد التغماوي، والفنانة الايطالية مارتسيا تيديتشي، شاركهما كل من؛ فيصل الزغادي، كريم بلحاج وسناء علوي.
دارت أحداث فيلم الخبز الحافي خلال الفترة ما بين عام 1942 وحتى عام 2003، حيث استطردت في متابعة مغامرات الفتى محمد شكري مع الفقر، فكم كانت تمضي أياماً يسعى فيها للحصول على كسرة خبز عارية من أي طعام إضافي، ليسد جوعه، ولا يجدها. كذلك عانى محمد تسلط الأب وقسوته، حيث تسبب العنف الذي نشأ عليه في تدميره روحياً وقيمياً وأخلاقياً، مما جعله رافضاً لنظام الأسرة التقليدي، ساعياً إلى تحطيم سلطة الاب، الذي اعتبره سبب شقائه، حيث دفعه كرهه الشديد له إلى استبدال مجتمعه الذكوري بآخر نسوي. وبعد أن اشتد عوده، سقط ضحية لشتى أشكال الاستغلال الجسدي والنفسي، ومن ثَم تولدت لدية نزعة متنامية للعنف والانتقام، ترتب عليها اختلال في علاقاته الحياتية، ليجد نفسه مدفوعاً ومستسلماً لنوازع شهواته ونداءات جسده، بعد أن انطفأت داخله العديد من القيم تحت وطأة حياة شديدة الإظلام.
يبدع المخرج رشيد بن حاج في مشهد من أهم مشاهد الفيلم، عندما وثق خلاله لزوعة العوز وفجاجة الاحتياج، حيث اعتاد الصبي محمد أن ينبش سلال القمامة بحثاً عن كسرة خبز، فلا يجد ما يقتات به هو وعائلته. وأقصى ما كان يعود به لأخيه الجائع وأمه عديمة الحيلة، دجاجة نافقة أو بعض الأوراق الخضراء التي نبتت بين شواهد القبور. كان يفرح بما استطاع جلبه، وإن كانت هذه السعادة الساذجة تدلل على أنه لم يتعلم أصول الدين والحلال والحرام بعد، وأن المسلم لا يأكل الميتة، حتى وان كان جائعاً الى حد كبير، حيث أخبرته أمه بذلك وألقت ما أتى به في القمامة رغم بكاء ابنها الاصغر «عبد القادر» من شدة الجوع، وذلك للإشارة إلى أن الفقراء ربما كانوا رغم الاحتياج أكثر التزاماً من غيرهم.
يواصل بن حاج تكثيفه لنفس الفكرة بمشهد أكثر قوة يعكس مدى أن تٌفرِط قضمات الفقر في إيلامها، وذلك عندما سقطت قنينة حليب من يد إحدى فتيات الاحتلال أثناء سيرها، حتى سارع محمد لاعِقاً قطرات اللبن المُتسرِبة بين غبار الطريق وبلورات الزجاج المكسور، فإذا بلسانه ينجرح، ويختلط دمه بقطرات اللبن، ومع ذلك يستمر في لَعقِها مثل «قطة» أشقاها العطش والجوع، غير مُكترِث بقطرات الدم، التي سالت من فمه وسال معها ألم أبكم لا يُفصِح عن الوجع أو المهانة.. إنه العوز بكل ما تحمله الكلمة من مرارة، الذي يدفعه طيلة الوقت للركض بين الطرقات كـ«كلب» ضال يحاول سد رمقه.
أما أخاه الأصغر «عبد القادر» فلا يملك من أمره سوى بكاء لا يتوقف.. بكاء يفطر قلبه كلما دوى في جنبات قلة حيلته، بينما تشعل صرخات الصغير جنون أب أشعث همجي ينام ليلاً كخنزير، ويصول ويجول نهاراً كـ«ثور» هائج لا يلين قلبه ولا تستجيب فِطرته، حتى أنه تجرأ ذات مرة وكتم أنفاس ولده الأصغر، الذي لا يكف عن البكاء، فإذا بروح الصبي تفيض وتفر هاربة بين أنامله الجاحدة.
تبقى هذه الحادثة «جذوة» بُغض وكراهية تلتهم قلب «محمد»، فكان موت أخيه مأساة حياته، وتوحدت كراهيته لأبيه وللمُستعمِر، ليصبحا بالنسبة له ذات العدو، الذي يبغى منه خلاصاً. لم يغفر لأبيه الذنب ولم يتخفف من تفاصيل فراق أخيه، ولم يستطع الخلاص من المستعمر أو والده، لكنه تخلص من حياته في منزل لا يحمل سوى الذكريات السيئة، وتركه وهو يعلم أنه لن يُصادِف أسوأ مما صادَفه بالفعل. ثم تتطور أحداث الفيلم، وينتقل «محمد» من العمل في مقهى بمدينة فاس، الى بيع الجرائد الفرنسية مع صديقه في مدينة طنجة، حيث تتلقفه ظلمة الطرقات، وينغمس أكثر في أوكار الرذيلة والأعمال المشبوهة. ومع أول نقود يتحصل عليها، يقوم بشراء شاهِدة قبر لأخيه حتى لا يخطئ قلبه السبيل إليه، ولا تُفقِده ظُلمة حياته «الصلة» الوحيدة المُحتَفِظة بنقائها في واقعه المُعتِم.
يتعرض «محمد» للاعتقال أثناء مروره بالخطأ في مظاهرة، حيث يلتقى بأحد المتظاهرين المغاربة، فيقرر أن يتعلم الكتابة داخل السجن، عندما وجده ينقش على جدران زنزانته قصيدة لأبى القاسم الشابي إمعاناً في الصمود، فاستوقفته طريقة الحفر على الجدران التي تشابهت مع طريقة الحفر على شاهِدة قبر أخيه، حتى تولد داخله شغف للعلم، انقشعت معه غيوم حياته السفلية، فإذا به يشرع في تعلم الكتابة والقراءة بمساعدة هذا الرفيق، الذي تحمس لتعليمه، وأعطاه عنوان أحد المعلمين، لكى يستكمل تعليمه القراءة والكتابة عقب خروجه من السجن، وبذلك تبدلت حياته، وتحقق له الخلاص من أوحال الخطايا والعبث الدنيوي الذى أنزلق فيه، ليصبح روائياً مرموقاً فيما بعد.

يختتم المخرج رشيد بن حاج فيلمه بمشهد ذي دلالة على الصعيد الدرامي، حيث يجلس «محمد» في المقابر أمام شاهدة قبر أخيه عبد القادر بعد أن صار الأديب والكاتب المشهور، إلا أن المال والشهرة لم يفلحا في محو إرث الوجع وهزيمة السنوات ومرارة غياب كل الرموز الهامة في حياته.. فكم كلفته الحياة ثمناً باهظاً مقابل كسرة خبز عارية من أي طعام إضافي، وكم كانت حياة أخيه قُرباناً مُبالغاً فيه للحظة جوع طفولية بريئة. تطول جلسة شكري أمام قبر أخيه ويقطع الصمت حديثا طويلا بالنظرات.. وبمثل هذه النهاية المفتوحة الواصِلة بين أوجاع الماضي وهموم الحاضر، تتأكد الدلالة على أن المعركة بين الجهل والعلم.. النور والظلام.. الحرية والظلم لا تزال مستمرة.
***
الخبز الحافي: الفيلم والرواية يؤرِخان لذاكرة العوز والقهر؛ بقلم شيرين ماهر
شيرين ماهر؛ مترجمة ومحررة صحفية من مصر

خاص قنّاص – سينما مسرح الدراما