الخلود.. قصة قصيرة ، بقلم وجدان أبو محمود
لن تموتْ …
هذا ما تؤكِّدهُ لتلامذتكَ كلَّما توافدوا إليكَ، مهلِّلينَ ، لبحثٍ علميٍّ جديدٍ، تنطِقُها بتُؤَدَةٍ ، تشحذُ افتتانهم بالشَّبابِ ، ثمَّ تُنَحِّي الموتَ منَ أحاديثكَ التَّالية ، تكبتُ تخوّفكَ منه مع يقينكَ بأنَّه حقيقةٌ بديهيّةٌ ، أشعرُ فيما أُتابعكَ أنَّ هنالكَ قهقهةٌ، سرّيَّةٌ ، تسري في ذبذباتِ الهواءِ من حولكَ ، وتتقطَّرُ في جمجمتي بسريَّةٍ تامَّةٍ: «لن يموت»، كانتْ العبارةُ المعذِّبةُ تطنُّ في رأسي بقهرٍ … بغلٍّ … بحرقةٍ .
أيُّها العجوزُ المعتَدُّ بنفسِهِ أنتَ لَمْ تَرْضَخْ حتّى للشيْبِ! للشَّفَةِ السُّفلى المرتجفة، للرُّعاشِ وآلامِ المفاصلِ ، للتَّجاعيدِ التي نالَتْ من جسمِكَ وحفَرَتْ فيهِ عميقاً ، لازلتَ تُحارِبُ بطريقةِ دون كيشوت أعداءَكَ الافتراضيينْ من كائناتٍ مجهريَّةٍ وآفاتٍ جسمانيَّةٍ واختلالاتٍ جينيَّةٍ قاهرةٍ ، تُناضلُ بشراسةٍ في سبيلِ زيادةِ المسافةِ بينكَ وبينَ القبرِ المُنْتَظِرِ، سنتيمتراً إثرَ الأخر ، في سبيلِ إطالَةِ عمرِ مادَّتِكَ ، أمَّا أنا فلازلتُ أسألُ نفسي في كلِّ يومٍ إن كانَ متوسِّطُ عمر خلاياك هو عشرة أعوامٍ كمّا تقول! ألا يعني ذلكَ أنَّ جسدكَ الآن ، و الذي تناضلُ في سبيلِ تعزيز وجوده المادّي ، ليسَ ذاتهُ قبلَ عقدٍ من الزَّمانِ؟!
طيّب يا عزيزي إن كانتْ البكتيريا أكبرُ عمراً من التُّرابِ وإن كانَ عمرُ الكونِ حتّى هذه اللّحظة هو 13,7 مليار عام كما تكرِّرُ في كلِّ مناسبةٍ … فما الذي يمكنُ أنْ تشكّلَهُ أنتَ ودراساتكَ وأحلامكَ و عمالكَ وطموحاتكَ ومورِّثاتكَ وكلُّ الأفكارِ المعتملةِ في رأسك !؟ وما نسبةُ الثواني التي تقيسُ التغييرَ فيك من عمر الزّمن ؟!
تدخلُ ممرِّضَتكَ مع نتائج الفحوصاتِ والتّحاليل الدَّورية ، تفتحُ المغلّف ، تنبسطُ عضلاتُ وجهكَ ، تَعبُّ نفسَاً عميقاً ، وتستريح ، تمدُّ لها ذراعك ، فتلفُّ حولها مقياسَ الضَّغط ، و تلفُّ في رأسكَ عشراتُ الخواطر …
«عَكْسُ الشَّيخوخَة» هو الهدفُ الأخيرُ لكَ على هذهِ الأرض ، كنتَ واثقاً أنَّ من أعدَّ أُسطورة جلجامش لدغدغةِ فكرةِ الخلود ، لم يعلم حتماً أنَّ الفكرةَ قدْ أنجَبَتْ كائناً شفَّافاً بحجمِ ظِفْرِ الخَنْصَرِ اسمهُ «قنديلُ البحر» وبإمكَانِهِ العيش للأبدِ ، تعَاظَمَتْ رَغَبَاتُكَ باضطّرادٍ مع نَجَاحَاتِكَ ، وبتَّ تسعى لأن تَتَقَنْدَلَ مثلهُ و«إلى الأبد» مُجَلَّلاً بُمَنْجَزَاتِكَ العلميّةِ و نضالكَ البحثيّ الطَّويل ، أذكرُ صوتكُ منذُ عشرةِ أعوامٍ و أنتَ تقرأُ بصوتٍ عالٍ كلماتَ شكسبير :
«على عمقِ خمسِ قاماتٍ كاملةٍ يقبعُ والدي ومن عظامهِ يُصْنَعُ المرجان ، وتلكَ هي اللآلئ التي كانتْ عينيهِ… فلا شيءَ منهُ يذبل».
في مساءِ اليومِ ذاتهِ ارتفَعَ صوتكَ أكثَر فيما كانتْ حدقتاكَ غارقتانِ في مجلّةٍ علميَّةٍ و كأنِ لِتُسْمِعَني … وكأنْ لتذلّني :
«وقد احتفَلَتْ شَجَرةُ ميثوزيلا دونَ صخبٍ يُذْكَرْ بمرورِ 4840 عاماً على ميلادها ، وهي فصيلةٌ من الصّنوبرِيَّاتِ المخروطيِّةِ التي تتكتَّمُ مصلحةُ الغاباتِ الأمريكيَّةِ وبسريَّةٍ مطلَقَةٍ على أماكنِ تواجدهِا الدَّقيقة في صحراء موهافي».
شاهدتُ عندئذٍ الأغصان تنبثِقُ منكَ ، و شممتُ رائحةُ الرَّاتنجِ تعبقُ منْ أصابعكَ النّحيلة ، رأيتكَ مخضرَّاً … تخيَّلتُكَ شجرةُ الميثوزيلا ، أذكرُ جيّداً الدَّمعَ الذي فاضَ من أحشائي وعجزَ لحرقتهِ عنْ الخروج …
بالمناسبة أنا الذئبُ المحنَّطُ هنا أمَامَك ، ألا تراني ؟ دقِّق قليلاً ، إلى جوار الدَّرقةِ الدَّاكنةِ التي آوتْ في يومٍ من الأيَّامِ سلحفاةً برّيةً ضخمةً ، تحتَ حدوةِ الحصانِ و قرنِ الغزالِ المعلَّقِ على الجدارِ بمسمارين ، أنا الحيوانُ المتخشِّبُ ذو العينين الصفراوين والأُذنينِ الحادَّتينِ الكبيرتين … القابعُ معكَ في زاويةِ الحجرةِ الشَّاسعةِ ، ذاتِ اللَّمسةِ العصريَّةِ والسِّجادِ الفيروزي ، والذي تحرَّرَ بفضلكَ من الماضي والحاضر والمستقبل ، أتابِعُكَ وأنتَ تحتسي شاياً بالنَّعناعِ ، تُقَلِّبُ في كتابٍ ثخينٍ ، تضَعُ ساقاً على ساقٍ ، أحملقُ فيكَ بسرِّيَّةٍ مبالغٍ فيها ، أراقبُكَ ، فيما تنظرُ إليَّ بأجفانٍ رخوةٍ وكأنّي وهمٌ غيرُ موجودٍ ، منذُ ثلاثةِ عقودٍ و كُلُّ ما حولي يتغيَّر… الأثاث… السَّتائر… الفصول… الضُّيوف… حتَّى شكلُكَ ذاتهُ ، أنا دوماً الثَّابتُ الوحيدُ ، أنا الحيُّ وسطَ الجدرانِ الصَّلدة والأضواءِ الجانبيَّةِ الخافتةِ ، لم تَستغنِ عنِّي ليس لأنِّي «اكسسوارٌ متَمّمٌ للدّيكور» العام و حسبْ بل لأنّي أوَّلُ إنجازاتكِ أيضاً… صح ؟ بل ورمزٌ حاذقٌ لتفوّقِكَ البشريّ ، لقدْ كانَ موتي شهادةَ «قَتَلَ الخَوفَ» التي طالما فَخِرتَ بها شأنها شأنُ الميدالياتِ الكثيرةِ المُدَلَّاةِ من عنقكَ المُخَدَّد . قَتَلَتنِي يا سيَّدي ببراعةٍ ، لكنّي لَمْ أستسلمْ أو أنهزم كما اعتقدْتْ ، و لم أحتَجْ أيَّ وعاءٍ مادِّيٍّ آخرَ لأُودعَ فيهِ جوهري ، هربتُ مِنَ الموتِ وعدتُ إليكَ ، جئتُكَ مُتَرَبِّصَاً في جَسَدي ، برغمِ اختلافهِ… و برغمِ رائحةِ الفورمالين النفّاذة التي عشَّشَتْ وقتاً طويلاً في حناياه ، رحتُ أتَعَلَّمُ مِنْكَ المكائدَ وأَحوكها سِرَّاً ، ثمَّ أُرَبّي في أناةٍ الضَّغينَةَ التي دسستَها يوماً بيديكَ فيَّ ، أثقُ دوماً بكوني سأنالُ منكَ عندَ نهايةٍ ما .
لا أُخفيكَ من كونِ الوقفَةَ تتعبني أحيانَاً فأموتُ قليلاً لأستَريح ، أنزَلِقُ داخلي ، برفقٍ ، بخفَّةٍ ، أطفو وكأنْ لا جاذبيّة ، أنفلشُ وكأنْ لا حدودَ لوجودي ، أغفو هنالكَ في الحيِّزِ شديدِ الكثافة ، شديدِ الإضاءةِ ، والذي لنْ تتمكَّنَ حتّى مِنْ تصَوُّرهِ ، من ثُمَّ أعودُ إليكَ ، أقوى ، أعتى ، و أكثرَ رغبةً في الانتقامِ ، أنا أوسعُ من جسدي المحدود وأنتَ أضيقُ من نظريَّاتكَ المضحكة ، و مع ذلكَ فإنّني أخشاها ، أخشى أيَّ احتمالٍ قد يُمكِّنكَ من أن ترجعُ يافعاً في غفلةٍ عنِّي… أخشى حقَّاً ألّا تهلك.
تسألُ نفسكَ أينَ أعيش ؟ طيّب سأشرحُ لكَ ، أعيشُ في ذاكرتي أيُّها المحترم هنالكَ حيثُ خَفْقِ الأجنحة… قرقعةُ الحصى…. ظُلْمَةُ الكهوفِ وتلامسِ الأجسادِ الحانية ، في الوقتِ الذي تعيشُ فيهِ أنتَ في رائحتي النتنة حيثُ أبحاثك تلهثُ بمعادلاتها وقوانينها وأرقامها واستنتاجاتها لخلقِ الحياةِ مِنَ الموت ، في الحقيقة لا أعلَمْ إنْ كَانَت هذي الـ «حياة» ثمينةً بما يكفي للتَّضحية بحياتي أنا وبحياة أبنائي ، لا أعلمُ إن كانَ ما أعيشهُ الآن شكلٌ آخر متحوِّرٌ أو متطوّرٌ أو منفصلٌ عنها ، كلُّ ما أعلمهُ هو أنَّك لا تختلفُ عنِّي كثيراً بلحمي المُجَفَّف الذي لازالَ يكسو عظْمَاً ناشِفاً ، بالصَّرخةِ الجَامِدَةِ بينَ الفكَّينِ ، برائحةِ الفناء تنزُّ مِنْ عينيَّ .
أتَذكرُ وقتَ لمحتُكَ أوَّلَ مرَّةٍ ؟ التَقَتْ أعيننا بطريقةٍ صادمةٍ ، لا أعرفُ ما انتابَكَ حينها ، لكن عن نفسي فقدْ بدوتَ لي كائناً غضَّاً ، لا مخالبَ في قدميكَ المُسَطَّحتَينِ ، لا أنياب في حلقكَ ، ولا فَرْوَ يكسو جلدَكَ النَّاعم ، أثرتَ فيَّ موجةً هائلةً من التّعاطفِ ، لَمْ أَكُنْ جائعِاً بما يكفي لأُضطَرَّ لمهاجَمَتِكَ ، في الحقيقة كنتُ أعاني وقتها حسرةً وجوديَّةً بدأتْ قبلَ لقياكَ بأشهرٍ ، تضحك ! حسناً اضحك ، لكنّي أؤكّدُ لكَ بأنَّ ما عانيْتُهُ من أفكارٍ قَادَني نحو الصَّومِ عن أيِّ شكلٍ من أشكالِ الصَّيدِ ، رحتُ آكلُ من بقايا طرائدِ الآخرين كأيِّ ضبعٍ لا كرامةَ له ، أُحيطُكَ علماً يا صاحبي بأنَّ من عادةِ الذئاب ألاّ تأكلُ الجيفَ على الإطلاق… واضح ؟ القضيةُ كلُّها ناجمةٌ عن سببٍ لن تتفهَّمَهُ ، فقد نَشَأتْ بيني و بينَ شَيْهَمٍ صداقَةٌ لَمْ تَقبلها حتَّى الطَّبيعة ، كانَتْ أشواكُ الشَّيْهَمِ كالسّهامِ المسنونةِ لكنْ لَمْ يستخدِمها يوماً ضِدِّي ، فقد أقامَ طويلاً في جحرٍ قريبٍ من وكري ، حيثُ المكانُ حولنا يَزخرُ بوفرةٍ من الجذورِ والدَّرَناتِ و الأعشابِ البرّيةِ ، وفي المقابلِ فقدْ كنتُ أحميهِ إذا ما خَرَجَ ليلاً يتسقَّطُ مأكلاً، لقد دافعَ واحدنا عن الآخر سنواتٍ طوالٍ ، جعلتني أتفكَّرُ كثيراً في فطرتي ، إذْ لِمَ يحصلُ صديقي على طعامهِ من الأرضِ بسلامٍ ؟ ولماذا عليَ أنْ أَقتَلَ لأعيش ؟ لماذا لا أشبَعُ إلَّا مِنْ طعامٍ يتَألَّم … يتأوَّهُ … يئنُّ ؟ تساؤلاتي العبثيّة كانَتْ مهينةً لحيوانٍ مفترسٍ مثلي لكنّها تسبَّبتْ لي بكآبةٍ طويلةٍ ، لا سيَّما بعدَ كلِّ وجبةٍ يموتُ فيها على يديَّ أرنبٌ أو طائرٌ أو حتّى سحليّةٌ ، لنَ تتقبَّلَ الفكرةَ بسهولةٍ … أدركُ ذلك … وأعلمُ كم يشقُّ عليكم الاعتراف بكائناتٍ تتساءَلُ سواكم على هذا الكوكب ، المهم أنَّ ما حدثَ كانَ مخيّباً جدَّاً للآمال إذْ لَمْ أحْسَبْ يوماً أنَّ الطّقسَ سيسوءُ ، و أنَّ الأمطارُ ستشحُّ و الطّرائدُ ستنعدمُ ، وستمسي أرضي القاحلةُ كيلومتراتٍ ممتدةٍ من الجوعِ و البرد و القسوةِ ، كدتُ أقضي آنذاك لندرةِ الطّعام ، ومع ذلكَ فقد حرصتُ على الابتعادِ عنْ رفيقي حتى لا يخونني ضعفي ، ستتَّهمني بالحماقةِ ولاشكّ ، ستضحك ، وربّما لن تُصَدِّق ، لكنْ هذا ما حصل . صمدتُ طويلاً أمامَ نفسي إلى أنْ وجدتهُ في ليلةٍ أمامي ، كانَ ضوءُ القمرِ مبهراً ، ومسلَّطاً بقوَّةٍ ما على خطاهُ المتهادية من بعيدٍ ، جاءَ المسكينُ باحثاً عنّي ، تحامَلَ على وهنهِ ليطمئنَّ عليَّ ، حتَّى الآنْ لَمْ أعرفْ كيفَ أكلتُهْ، لمْ أكنْ أنا -أُقسمُ لك- وإنّما فطرتي الذئبيّة ، الوحشُ الرَّاقدُ بحذرٍ تحتَ جلدي ، شيءٌ شبيهٌ بالنَّوايا التي تُغَلِّفُ نظرتَكَ البلُّوريّةَ وابتسامتكَ الرَّقيقةَ ، إنّها السِّلسلةُ الغذائيّةُ الحقيرةُ التي جعلتْ عيناهُ عالقتانِ في بلعومي إلى ما بعدَ الموت.
وضعَتَ في تلكَ الظَّهيرةِ لحماً أمامي وابتعدتَ ، هل تتذكَّر ؟ هيّا حاولْ معي ، أيقنتُ ساعتها وبمنتهى السَّذاجة أنَّ هنالكَ خيرا ما في تلكَ الطَّبيعةِ المعقَّدة ، دنوتُ من الطّعامِ ببطءٍ ، سَحَبْتُهُ ، خَطَفْتُهُ ، وهرولتُ سريعاً نحو صغاري المنتظرين …
أكلوا بنهمٍ ، و كأنْ لأوَّلِ مرّةٍ ، غمرتني سعادَةٌ مطلقةٌ ، و شكرتُكَ بعواءٍ خافتٍ ، أحدهمْ كانَ يغطُّ في غفوةٍ هانئةٍ ، المبقَّعُ الضَّعيفُ ، أكثرهمْ جوعاً ، استسلمَ لأحلامهِ ، غرقَ في هناءتِها ، داعَبْتُهُ بفمي ، لعَقْتُ وجههُ مراراً، حرَّكتُهُ ، ودفعتهُ بقوَّةٍ نحو الوليمة ، لمْ أعرفْ أنَّكَ و فريقكَ قدْ بتّم خلفي ، تسلَّلتُمْ بمكرٍ ، لم تكنْ جائعاً حينما صوَّبتَ نحوي بندقيَّتكَ ، و ا حينما أحاطت بولائدي شباكك ، لَمْ تَحْسَبْ أنَّ الشباكَ ستعصُرُهم ، ستخنقهم، وأنتَ الذي أرَدتَهُمْ أحياءَ ، ذئابُ تجاربٍ … فئرانُ تجاربٍ … لا فرق ، كلُّ ما يعنيك كانَ كائناتٍ حيَّةٍ مثلك … تتألَّم … تتأوّه … تئنُّ . لَمْ أكنْ قدْ متّ لحظةَ غرزَ الجرو المُبَقَّع في وجهي نظراتهِ المتضرّعة ، كلُّ همهمةٍ أصدرها كانتْ ذبحةً في الرُّوح ، شرعَ يعوي بلا صوتٍ ويلعقُ دمي الذي لطَّخَ قوائمَهُ ، لاشكَّ أنَّك تعلمُ بأنَّ الواحدَ من صغارنا يولدُ أعمى وأصمّ ، في تلكَ اللَّحظة الخاطفةِ أدركتُ أنَّهُ يراني ، هل تتخيَّل ما يعنيهِ ذلك ؟ هل تعي أنَّ المشهدَ الذي رآهُ لأوّلِ مرَّةٍ كانَ الأخير ؟ أيقدرُ قلبكَ أنْ يحيطَ بحجمِ الرُّعبِ والمرارة التي ضخّتها بضعةُ ثوانٍ مرَّتْ كدهرٍ ؟ عندها تحديداً متُّ حتّى وقلبي ينبض ، حتّى وتوصيلاتي البيولوجيّة والحسّية تعملُ بكفاءةٍ بمفهومكَ القاصر ، لا زالَ صوتُ الصَّغيرِ يَتَرَدّدُ في مسمعي ، أعتقدُ أنَّهُ يُدَوِّي الآنَ في فضاءٍ ما … أكثر رحمةٍ وأكثر عدالةٍ ، أتعرف … تحتفظونَ أنتم البشر بأشياءٍ أكثرَ مِنَّا في طيَّاتِ أدمِغَتكمْ ، الحيل … الأساليب …. الذَّكاءاتِ العديدة ، نحنُ لا نحتفظُ إلَّا بصورَ بعضنا البعض ، روائحنا السَّاخنة ، همهماتنا ، مَلْمَسُ أَجْسَادِ أبنائنا و لونُ وبرهم الخفيف في أوَّلِ النُّموّ … نحنُ أغبى ، بإمكانكِ الآنَ أنْ تضحكَ … اضحك .
***
حكايتي معكَ انتهتْ بعدَ تلكَ الليلة تماماً ، حلمتُ خلالها أنِّي استفقتُ على رائحةِ موتكِ ، فأطلقتُ هرهرةً خفيتةً، حرّكتُ قوائمي على سبيلِ الاحتفالِ ، وخرجتُ من بيتكَ مزهوَّاً نحو بيتي ، لكن أتعلمْ حتَّى في الحلم لمْ يكنْ الثّأرُ لذيذاً … لم تكنْ الشّماتةُ إلّا سواداً إضافيّاً ينقّطُ في سوادِ الرُّوح ، غريبونَ أنتمْ أيُّها البشر قدْ يقتلُ أحدكم الآخر لشيء … لكلمة … لظنّ ، أسبابكم حاضرةٌ دوماً لغسلِ ذنوبكم ، كذباتكم هي الجمالُ الأخير الذي تغلِّفونَ فيهِ ما في دواخلكم من ظلامٍ ، في الصباحِ الأخيرِ لم أستيقظ على موتِكَ كما تمنَّيتُ وإنّما على لمساتِ طفلٍ نَبَتَ فوقي من العدَمْ ، كنتَ قَدْ شَغَّلتَ لَهُ التِّلفازَ على برنامجٍ كرتونيٍّ عجيبٍ ، مشاجرات قطٍّ و فأرٍ … ألاعيبهما … خدعهما … مغامراتهما ، المدهشُ في الأمرِ كانَ القطُّ الذي لا يموت ، يسقطُ في الهاوياتِ السَّحيقةِ ، تنهالُ عليهِ الصُّخورُ والحيطان ، يهوونَ على رأسهِ بالمطرقة ، يأكلهُ القرشُ ، يغرقُ في المحيط ، يبتلعُ المسامير ، والسُّمَّ أيضاً ، و لكنَّهُ لا يموت ، لكأنَّكمْ أنتم البشرَ مهووسونَ بالبقاء ، تحاذرونَ ذكرَ الموتِ لصغاركم أو التَّلميح له بأيِّ شكلٍ، تحاذرونَ اكتشافهمْ للكارثة، حضاراتكم الحديثةُ تنكرُ الفناءَ وبشدَّةٍ ، الطِّفلُ الذي لَمْ يكتَرِثْ للفأرِ أو للقطِّ الذي لا يموت انشغلَ بي ، وسألَ بأحرفٍ مقروضةٍ :
- و هل يخيفُ الذّئبُ الحقيقيُّ يا جدّي ؟
- طبعاً يا حبيبي ، إنَّهُ شرسٌ لاحمٌ ومن أكثر الحيواناتِ مَكْراً وشجاعة
- حقَّاً … ما أقواهُ
تطلَّعَ إليَّ بدهشةٍ ، لَمْ ينخدعْ بجمودي ، تبادلنا نظرةً مطوَّلةً ، أمعنَ فيَّ التَّفَكُّر ، أحسَّ بي ، أحسستُ بفورةِ أنفاسهِ ، أدهشني ذلكَ التَّفاهمُ السِّرّيُّ الذي نشأ بغتةً ما بيننا ، لربّما بدوتُ لهُ وحيداً … متحجّراً ، لربّما لمْ تسعفهُ الكلماتُ ليصفَ ما لَمَسَهُ ولمْ يَرَه أو مَا رآهُ ولم يلمَسْهُ ، طفوتُ وإيَّاهُ مع كلماتِكَ وهي تعيدُ ترتيبَ سماتي ، دنا منّي بعينيهِ ويديهِ وأنفهِ وأعصابِه ، ارتعَشْتُ بفعلِ راحَتِهِ ليِّنةِ الملمس ، وهيَ تجسُّ جلدي اليابس ببطءٍ شديدٍ ، تتحرَّى فيهِ أيّةَ حياةٍ ، ثُمَّ تتَحَسَّسُ أسناني ، تكتشفها ، تعيدُ رسمَها ، غطّاني بوشاحهِ المخطَّط ، زيَّنني بورداتٍ جلبها من المزهريّة ، طوَّحَ بي في مكانٍ عميقٍ من نفسي ، وهناك لَمَعَتْ بحرارةٍ صُورَةُ ولدي المخنوق ، علا صوتُ أنّاتهِ المستغيثة ، هدَرَتْ آخرُ أنفاسِهِ في صدري ، وفاحَتْ رائحةُ الدَّم ، أيقَنْتُ كمنْ صحا من سكرةٍ أنَّ أوانَ الانتقامِ قدْ حان ، ليسَ غدراً كما سيخطرُ لكَ … فأنا أنتظرُ تلكَ اللحظة بوضوحٍ وعلانيةٍ غير مسبوقةٍ ، تَحيَّنْتُ غيابَكَ أيُّها الجدُّ المجرمُ في الحجرةِ المجاورة ، فَتحتُ فمي بأقصى ما استطعت ، فركَ الطّفل عينيهِ ، هَتَفَ :
«الذئبُ يتحرَّك يا جدّي»
دوَّتْ مِنْ بعيدٍ قهقهتكَ بِسُعارٍ شبيهٍ بما انتابَكَ يَومَ أطلقتَ النَّار صوبنا :
«مستحيل … إنَّهُ ميت»
رمقني بودٍّ ، وعاودَ مداعبتي ، كانت فرصَتي للثَّأرِ ، اليدُ الغَضَّةُ في حلقي ، تزحفُ ، وتنبضُ بخفَّةٍ ، تنطُّ من زاويةِ لأُخرى كجندبٍ ضئيلٍ فيما فكَّايَ ينتظران هدأتَها ليُطْبِقا بِغلّ ، و لكنَّ العينانِ الحارَّتانِ حمْلَقَتا مِنْ جديدٍ فيَّ… بتحدٍّ … بشجاعةٍ ، لَمَحَ الصَّغيرُ الحياةَ في عينيَّ المتوهِّجَتَين ، غمغمَ مذعوراً :
«لكنَّهُ ينظُرُ إليَّ»
جاءَهُ صوتُكَ متململاً :
«قلتُ لكَ قتلتهُّ بيدي»
قوَّسَ فجأةً حاجبيهِ واستراحتْ تعابيرهُ المُنمْنَمة ، طوَّقني إثرَ تأكيداتكَ بيديهِ ، دمدمَ :
«أنتَ بطلٌ يا جدّي»
ثمَّ عانقني وهتف :
«لقدْ أحببتهُ»
أحَاطَتْ ذراعاهُ جسدي بحنانٍ مهولٍ ، تضاءَلتُ بينهما ، ما أشدَّ ضآلةِ أيِّ شيءٍ أمامَ الحبِّ ، آمنتُ عندها يا صديقي أنّني حيٌّ … حفنةُ عاطفةٍ لا تموت … خلاصةُ روحٍ مركَّزةٍ ، أخْمَدَ عناقَهُ فورَتي ، أطفَأ نبضَ النَّقمةِ بلمسةٍ واحدةٍ ، أحسَسْتُ بمشاعرٍ لا تُفَسَّر أثمنُ بكثيرٍ من معادلةِ الفناءِ والبقاءِ التي أغرقتني معكَ فيها ، في الواقعِ كادَتْ الجملةُ التي شكَّلَتْ نفسها في حنجرتي أنْ تُفْلِتَ منّي :
«أنا نادمٌ على سنواتِ الغلِّ … أنا آسف»
ابتسَمْتُ لهُ منتشياً ، مطمئنَّاً ، استسلمتُ لَهُ ، استَكَنْتُ ، تركتكَ «وإلى الأبد» ، ثمَّ تهاويتُ بسلامٍ في داخلي … موقناً أنْ لا مخالب في قدميه … ولا أنياب في حلقهِ ولا غلَّ يكسو قلبَهُ النَّاعم .
***
الخلود.. قصة قصيرة ، بقلم وجدان أبو محمود
الأديبة السورية وجدان أبو محمود؛ صدر لها عدد من المجموعات القصصية، منها: كسارة السكون، شغب بازلتي، قل شيئاً، سحر الكؤوس الفارغة، كرنفال الموت رقصاً.