الزرقة التي فاضت من عيني المريض
سواعده مشدودة بقوس الزمن، الزمن الذي يتظاهر بثوبه الفضفاض وكأنه وتر يدندن على قلوبنا الراقصة في الدروب. هكذا كانت أنامل ذلك الجسد الساكن تتحسس الرقعة المفروشة على السرير، تمسح عنها ذلك التراب العالق في الذاكرة، متحسسة أغصان الشجرة المتدلية بثمارها الغضة، شامَّةً تلك الأزهار البيضاء في ربيع الأيام، ماسحة على نهدين مختبئين في ثوبهما الحريري، فاكَّةً عُقَد الحبال قبل السفر إلى المطلق.
كل ذلك كان يحصل ببطيء شديد، وكأنه يريد أن يتثبَّتَ من لقْطة محددة في شريط فيديو، تمتد الأحداث بشكل رتيب، تتقافز على أحداث أخرى مهملة لم تترك أثراً لامعاً، تاركة تلك الثقوب فارغة.. هنا حرَّك ذراعيه في الإتجاهين كأنهما مجاديف، رافعاً اللحاف برجليه كأنه شراع، طالقاً لحن أغنية بحرية تُغنَّى عند هيجان البحر، إنها الذروة بكل تجلياتها / الأفق بلونه الضبابي / الليل بوحشته / النجوم بدفئها / الأشرعة بصمودها / المجاديف بصبرها / الشوق بكل اشتعاله / الرغبة بحدّتها… فجأة عاد من سفره المؤقت إلى تلك البقعة التي تُجَهز له سفراً طويلاً لا جهات له.
بعدها شاهد من حوله تلك الزرقة التي تفيض من عينيه تتماوج تحته.
مرآة الذاكرة
لم يعد التفكير يأخذ مداه، فكل الاهتمام منصبٌّ في متابعة الجسد… في الصباح يَنظرُ إلى المرآة المتكلسة بفعل الزمن والتي أصبحتْ لا تعكس الأشياء بذلك الصفاء. خلال النهار يتابع آخر َصْيحات اللقاح الذي صار وبلا شعور منه وكأنه إكسير الحياة… لكن اللقاح أيضاً مرض آخر يسافر إلى تلك المنطقة الكئيبة التي تنزع فكرة السفر من أشواقه.
الرتابة اليومية التي تأكل دماغه، حكايا الآخرين وثرثرتهم التي سئِم منها ومن وجوههم وكتاباتهم المملة. تمر الإبتسامة من بعيد، تلوح له بخصرها المنحوت وشعرها المتطاير وعينيها الكونيتين لترتسمَ على إيقاع غجري في زاوية ما من الجغرافيا.
يكرر لقاؤه بالأصدقاء الذين يدربون أبنائهم على الأمل قبل تدريب أنفسهم وكأنهم في ورشة عمل… هكذا هم، كنوع من المقاومة يحاولون أن يصنعوا الفرح، ولكن الفرح نسمة هواء لم تمنحها الطبيعة في أيامنا المخاتلة.
دندنات العود والكؤوس المتلاطمة في هذا الليل، تنساب كأنها شال حرير على الرقة التي يتدلى رأسها من خفايا الحطام المنثور في ماء القلب.
رغم كل هذه الهذيانات، يفرح بالشجرة ذات الزهور الصفراء، شذرة في كتاب تعيد له تلك اللذة المفقودة في ذاكرته، حتى الألم اللذيذ الذي هو سيد المسافات، سيكون في مقدمة خطواته، يشاغبه ويدحرج خلفه رقصاته، يرشُّ جدرانه بالألوان و يضرب بكفوفه الطائشة وجهه الهلامي.
خاص مجلة قنآص

محمود علي؛ كاتب وأديب عُماني