ينفتح قارئ المجموعات الشعرية (الأعمال الكاملة) لوديع سعادة، التي صدرت عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب” في مجلدين كبيرين، على تجربة بالغة الخصوصية والعذوبة والحساسية في المشهد الشعري العربي المعاصر. فالشاعر اللبناني المقيم في أستراليا منذ عام 1988 هو ذلك الذي يمكن تسميته شاعر التنقية بامتياز، والتحلية بدرجة مستكشف آبار جوفية أصيلة في باطن الأرض وفي أعماق السحب، ليس فقط بقدرته على تكثيف النص واختزاله وتخليصه من الشوائب العالقة، وإنما الأهم بحرصه على وضع القصيدة دائمًا في الموضع الذي تستحقه، بأن تكون فقط قصيدة، مكتفية بذاتها كشعرية صافية، مجردة من إرثها الوظيفي المنفّر، ودورها الدعائي البغيض.
عرف سعادة كيف ينجز المعادلات الصعبة جيدًا، فالطائر المهجريّ أو المنفيّ باختياره بمقدوره أن يحمل الوطن في قلبه خارج الأمكنة الغائبة، بأناسه وحقوله الوديعة وغاباته الشائكة وتاريخه وجغرافيته وتراثه المحفور وتفاصيل واقعه اليومية، وكذلك فإن القصيدة المقطّرة النقية، المشحونة بجمالياتها الخالصة ووهجها الموجود بذاته، بإمكانها خارج انشغالاتها التعبوية التقليدية أن ترسم فنيًّا، دون احتشاد قصديّ، بورتريه الشاعر كاملًا، كإنسان متفاعل مع الحياة بكل فصولها ومشاهدها، وكصاحب رؤية في سائر الأمور والقضايا من حوله.
إن هذه الحيوية الإنسانية النابضة في تجربة وديع سعادة الشخصية والشعرية يمكن استشفافها من مقولته المختصرة “كلُّ ما استطعتُ أن أفعله في حياتي: محاولة مصادقة الحياة!”، وقد جعلتْ هذه النزعة حضوره أكبر من مفهوم العواصم والأزمنة، فمنذ دواوينه الورقية الأولى “ليس للمساء إخوة”، “المياه المياه”، “بسبب غيمة على الأرجح”، “غبار”، وغيرها، مرورًا بأعماله التي نشرها إلكترونيًّا على موقعه الشخصي “من أخذ النظرة التي تركتُها أمام الباب؟”، “قُل للعابر أن يعود.. نسيَ هنا ظله”، وصولًا إلى “المجموعات الشعرية الكاملة” الصادرة حديثًا في القاهرة، وهو شاعر ماثل بقوة في الضمير الجمعي؛ اللبناني والعربي والإنساني عمومًا.
من بيروت، إلى لندن، إلى باريس، ثم إلى أستراليا، تنقّل الرحّالة وديع سعادة، وقد ترسّختْ أكثر وأكثر تجربته في عصر السماوات المفتوحة والإنترنت، حيث عالمية الفكرة المشتركة، والعلاقة المباشرة مع القارئ بدون وسطاء، فتسلل صوت الطزاجة والدهشة والبساطة والعمق والتحريض على الحياة عابرًا الحواجز والحدود، منتصرًا للعذوبة والألفة وملامسة الجوهريّ الباقي، في عالم متهاوٍ يكاد ينسحب تدريجيًّا من تحت الأقدام: “الذي غرق في الماء، صار سحابة/ ثم نزل قطرةً قطرة/ والسابحون في البحر، يسبحون فيه”.
لقد منح النشر الإلكتروني وديع سعادة تحللًا آخر كان متشوقًا إليه، إلى جانب فلسفته في كتابة القصيدة العارية من الحليّ والزخارف والأصباغ ومُكسبات الطعم، هذا التحلل هو الفكاك التام من أسر الناشرين وشروطهم التعسفية، وعدم احترامهم الشعراء بالقدر اللائق، وإنكار حقوقهم، والأمر لا يتوقف فقط عند المادة، لكن أكثر ما أثار استياءه “المعاملة” التي يصطدم بها الشعر والشاعر عند أبواب دور النشر العربية. من جهة أخرى، فقد مكّنه النشر الإلكتروني من تضمين قراءات شعرية صوتية وفيديوية له على موقعه الشخصي، بما أسهم في كسر نمط التلقي المـألوف، وأضفى على أعماله المزيد من الحميمية والدفء.
هكذا، التقت العوامل لتحرير وديع سعادة من المنفى وأي حيز ضيق “في هذه القرية التي تستيقظ، لتشرب المطر، انكسرتْ في يدي زجاجة العالم”، ليكون الشاعر الأكثر انخراطًا في المشهد العربي المعاصر، والأقرب إلى الذائقة العربية الجديدة المواكبة لتحولات قصيدة النثر وتطوراتها في السنوات الأخيرة، وقد أدرك الشاعر منذ وقت بعيد أن المنفى أمر نسبي، لا يُعوّل عليه في قياس التحقق والتلاشي، والحضور والغياب.
على المستوى الفني، والفلسفي كذلك، فقد طوّر الشاعرُ سبلَ التعاطي مع المنفى، وآليات التعبير عنه كمعنى مغاير، ففي كتابه “غبار” يتساءل عما إذا كان الإنسان كائنًا عاقلًا؟ ويرى أن تلك الصفة ناقصة، ما عادت دقيقة، لأن الإنسان كائن منفيّ، وبات صعبًا تحديد موطن للناس، فالمنفى اتسع، والأرض كلها صارت منفى، ويقول سعادة: “ما عاد هناك وطن. هذه تسمية أضحت من التراث. من الذاكرة الآفلة. البشر يقيمون في منفى لا في وطن. كان في الماضي منفى جماعيّ ومنفى فرديّ. صار الكلُّ كلِّيي النفي: منفيين في الخارج ومنفيين في الداخل ومنفيين في الجماعة ومنفيين في الذات”.
ويذهب إلى أنه لم تبق في الخارج أية إشارة إلى أن هذا المكان، أو ذاك، هو مكاننا، ولا في الداخل إشارة إلى أن الذات لا تزال تخصُّنا، فقد صار صعبًا، بل مستحيلًا، على المرء تحديد ذاته، فكيف تحديد مكانه؟ وإذا الذات نفسها منفيَّة، هل يمكن التحدُّث عن مكان؟! هو سائرٌ إلى مصيره الحتمي، حيث السُّكنى في الشعر، الذي يسميه “وطنًا وهميًّا”، ويؤمن به، لأنه الاختراع الوحيد المتاح: “إنهم يتساقطون، الواحد تلو الآخر، المتشبثون بالإقامة/ يتساقطون بأوطانهم التي صارت وهمًا، بانتماءاتهم التي صارت كذبًا، بأبوَّتهم التي صارت عبئًا، بايماناتهم التي تقتلنا، وتقتلهم، وتقتل الحياة/ العابرون لا ضحايا لهم. هل لذلك بات علينا، كي نمجّد الحياة، أن نمجّد عبورها بسرعة، أن نمجّد الانتحار؟”.
الموجودات والكائنات جميعها لها حق ونصيب في مبادرات وديع سعادة بالمودة والصداقة الحميمة، حتى كائن الموت، الذي يمد له يده ليصافحه، ويتحاور معه، ويأتنس به، كصديق مقرب. الشاعر يستضيف الموت مرحّبًا به، لأنه لا يريد أن يخشاه، ولأنه الطريق إلى الراحلين: “لا أرى رفاقًا سوى الآفلين. لا رفاق إلا الموتى”، وكذلك يعانق الإنسان الموت متماهيًا معه، لأنه يدرك أن الرقص معه قد يكون هو الخلود وليس الغياب: “كان الموت يرقص/ وفي الساحات كانوا يمتزجون بالأسفلت/ والمنحنون على الزهور تحملهم الطلقات إلى فوق/ ويصيرون في الفضاء زنابق”.
شعرية وديع سعادة هي الاعتقاد بنجاعة الهمس الطفولي “ليكنْ تراشقكما بالندى في الليل، فلا يراكِ الفضاء فيستدعيكِ، والعَبا همسًا، واقتلا همسًا، فربما الجيران يريدون أن يناموا”، وهي شعرية الإيمان بالتغيير الوهمي إلى درجة تصديقه، فالقصيدة ليس بإمكانها أن تعدّل شيئًا في العالم، لكن وهم التغيير بالشعر مثله مثل وهم إعادة صياغة الوطن، وبدونه فإن استكمال الحياة في هذا الواقع المرير أمر مستحيل.
ولإتقان هذه الألاعيب المبهجة، وإتمامها بتلقائية ومصداقية، على القصيدة المشاغبة تحطيم التابو بالضرورة، بوصفه الصنم الأول أمام تدفقها وسيولتها وزخمها، وهنا يتعاظم الرهان على الهامش باعتباره متنًا، وعلى العابر والمجاني والتفاصيل الصغيرة، فهي قضايا الإنسان الكونية، الدائمة المقيمة، بل إن الإنسان ذاته حصيلة أمور هامشية وقضايا صغيرة: “العابرون سريعًا جميلون، لا يتركون ثقلَ ظلّ، ربما غبارًا قليلاً، سرعان ما يختفي/ الأكثر جمالاً بيننا، المتخلّي عن حضوره، التارك فسحةً نظيفة بشغور مقعده، جمالًا في الهواء بغياب صوته، صفاءً في التراب بمساحته غير المزروعة/ الأكثر جمالاً بيننا: الغائب”.
ولتشبثه بتحطيم التابو، على كافة الأصعدة، فإن سعادة يرى أن قصيدة النثر العربية، التي هو واحد من فرسانها المغامرين، ليست نهاية المطاف في حركة الكتابة الشعرية، فقد عوّدنا التاريخ على التجدد وعدم التجمد. ومستقبل الشعر، ربما، في انفتاحه على أشكال الكتابة الأخرى، واستيعابه فنون السرد وغيرها من الثيمات الأدبية المعروفة والمستحدثة.
وقد قطعت قصيدته شوطًا طويلًا في سبيل بلوغ هذه التطورات عمليًّا، لاسيما ما يخص توظيف السردي شعريًّا، والمذكراتي، وأحيانًا الفانتازي، والسيناريو، والكادرات السينمائية، وتركيب النص الكلي، مهما بدا صغيرًا، من وحدات عضوية متشابكة متجانسة مرنة، تفيض موسيقية ووضاءة: “وأنتَ؟ ما اسمكَ؟ لا أعرف/ لكن ألم أرَ وجهكَ تحت شتاء آذار يذوب كحبّة سكّر، وأنتَ تسرع؟ ومرَّةً قعدنا؟/ كان الزغبُ ينبت في وجوهنا/ قالت أمّنا تطيرون غدًا/ زقزقنا/ وها على الثلج نقعد نتأمّل أقدامنا الصغيرة”.
عرفت تجربة وديع سعادة كذلك القصيدة الومضة (قصيرة القصيرة)، وهي لغة الجيل، ولقطة اللحظة الراهنة، ووجه الإيجاز الملائم للوجوه المتشرذمة كشظايا من حولنا، وإن تقليصه النص على هذا النحو لا يتعارض مع تعدد معانيه ووفرة عطاياه الدلالية، بخاصة مع إعطاء مساحة خصيبة للممحوّ والمسكوت عنه في النص الثري الذي لا يُنتقص منه شيء بسبب قلة عدد كلماته: “نتسلّق ضحكاتنا/ لأنّ صراخنا شاهقٌ جدًّا”.
ثمة خيوط سحرية سوريالية أيضًا في نصوص الشاعر، المتمردة على أية محاولة لتأطيرها، وهذه الخيوط ظاهرة في الواجهة في بعض الأحوال، وشاخصة في الخلفية في أحيان أكثر شيوعًا، ذلك أنه يعرف أن الغروب هو فسحة الهلوسات، وأن رصاصة الجنون، ورصاصة الحكمة، تصيبان المقتل نفسه: “أنا ولدٌ أرعن، راكب درَّاجة/ يُهرِّب زنزاناته في الليل/ يمشي مخمورًا/ حاملًا رَجُلًا مجنونًا منذ الصباح على ذراعه”.
ولا تقوده هذه الالتماعات اللاوعية في فضاء القصيدة إلى تهويمات ذهنية خاوية، أو هذيان عبثي غير محكوم، وإنما تأتي هذه الفيوضات المنثالة عادة كوسيلة رشيقة إلى ابتداع صورة شعرية ناضجة، باذخة التجديد والإبهار، ناسفة للتوقع والسكون: “في دمهِ طوفان، يبحث في عروقه عن خشبٍ، كي يبني سفينة”.
وديع سعادة، شاعر التقت إنسانيته وقصيدته، وتماثلت خطواته وكلماته، فراح يهتف بحماس للفراشة الحائرة التي تطير نحو الضوء، وإن كان سيقتلها هذا الضوء، كما انبرى في الوقت نفسه يوزّع نهره السائل الهادر بالطريقة التي أراد: “شيءٌ منه لعشب الحافَّة، شيء للحصى، شيء للبحر، شيء للبخار”.
*شريف الشافعي: شاعر مصري
الشِعر في العراء | د. هدى فخر الدين
وديع سعادة أو «كان ما يمكن» | احساين بنزبير
إيروسية الصمت عند وديع سعادة | ممدوح رزق
وديع سعادة.. الشاعر المعبّر عن الحزن | عزيز العرباوي
وديع سعادة والتآخي مع الطبيعة | د. علياء الداية
الشاعر الذي مشى في شوارع الدّهشة | عبد الجواد الخنيفي
خاص قنّاص – ملفّات