رواية الفطر لـ محمد العجمي صدرت في ٢٠٢٣ عن دار عرب اللندنية
***
على الرغم أن المحقق لم يصل إلى أشياء مفيدة من شهادات السكان وتقرير الطب الشرعي، فما وجده من تضارب عقّد القضية أكثر، إلا أنه ظلّ يحافظ على ابتسامته المعتادة. دعاني لكوب قهوة في مساء اليوم التالي للحادثة، حيث سيلتقي صحفي المغارة الشرقية.
حاول هذا الصحفي أن يتقرّب من ضبّاط التحقيق لينال ثقتهم، وعلى الرغم أن مؤشر الثقة الذي استخرجته له كان أقل من خمسين بالمئة؛ فهو إلى الكذب أقرب منه إلى الصدق؛ إلا أن المحقق لم يشأ أن يضغط عليه كثيرا. قلت له في تقريري الذي رفعته عن الرجل بأنه لا يحب الإنسالات، ويرى أن الانسان يخدمها أكثر مما تخدمه. كيف يكون ذلك لا أعرف! أخبرني المحقق بأنه فقط لا يحبّ إنسالات الشرطة. ليس هو فحسب، فالكثيرون يحذرون من التعامل مع الروبوتات الأمنية. ولكن هل نحن سوى أدوات؟!
كان يحمل معه عددا من الوثائق التي استطاع أن يحصل عليها بطريقة أو بأخرى خلال محاولات قديمة لتأليف قصة عن المرأة. وعندما دخل علينا المقهى؛ أخذ على الفور يعرض ما لديه، بل وأخرج مقصّا كان يحمله في جيب معطفه، وراح يقطع بعض الأخبار القديمة عن أعمال إبداعية ولوحات فنية كانت المرأة تنشرها في الماضي. لم تكن تلك الوثائق عموما بالمهمة، فلم تضف كثيرا إلى القضية، بل كان أكثر من الشرطة؛ يبحث عن أيّ معلومات عن سيّدة الغصن العلوي.
اختار المحقق مقهى «خلايا العسل» عند الزاوية الشمالية الغربية من مبنى الشرطة الجنائية؛ قريبا من مربع السجن القديم حيث مجسّم غطاء القلم الذي تنحته طابعة ضخمة أعلى منه. المجسّم جديد نوعا ما، فقد أقيم على أنقاض تمثال لأبي العلاء المعرّي وهو يصافح روبوتا صغيرا فوق رأسه غيمة تمطره أرقاما وحروفا. التمثال تمّت إزالته قبل عقد من الزمن؛ إثر خلاف شديد بين الأحزاب وداخل البرلمان حول رمزيّة التمثال وتحيّزه إلى فئات دون غيرها.
المقهى يحمل الاسم نفسه عندما كان المكان لا يزال جزءا من السجن القديم؛ تحوّل إلى هذا المقهى بعد نقل السجن من وسط المدينة. توجد لافتة كبيرة إلى اليمين من مدخل المقهى؛ تشرح تاريخ الجناح والقوانين التي كانت تنظم اللقاءات الغرامية.
المقهى أدخل مؤخّرا عددا من روبوتات الرتبة الثانية، والتي تتحرك إلى طاولات الزبائن وتقوم بإعداد طلباتهم مباشرة. إنها آلات تتحرك فوق خطوط محددة على الأرضية، وتعود عندما تنتهي لتصطف قريبا من النوافذ المطلة على المربع. وأمّا روبوتات العسل فهي نحلات أنثوية تجلس في الخلايا فقط. حيث يمكن للزبون أن يطلب الخدمات الخاصة التي تقدم هناك.
الشارع عادة ما يكون هادئا، ولكن منذ بدء الحملات الانتخابية؛ بات شبيها بأسواق المال. وذلك بسبب الأكشاك المنتشرة هناك لبعض المرشحين، والدعايات الانتخابية التي تبثّها شاشات مختلفة في الساحات المتّصلة بالشارع. وخطباء يدعون الناس لمترشحين يستأجرون من يتكلّم باسمهم في أكثر من مكان. وآخرين يستطلعون آراء الناس عن المرشحين، بالإضافة إلى ملصقات الأحزاب.
يرفع المقهى لافتة كبيرة في الأعلى تحمل صورا لمجموعة من المرشّحين في الانتخابات الحالية، وقد كتب في الأسفل: «المستقبل في قلوبهم». أغلب الأعمدة القريبة من المكان هي الأخرى مليئة بصور مرشّحي الانتخابات، ولكن العديد منها طُرّزت بدبابيس شُكّت فيها حشرات أو أجزاء من حشرات، وأحيانا الدبابيس تصنع رموزا تعبيرية تدلّ على مشاعر متناقضة.
روبوتات القهوة بالمحل والتي تمّت برمجتها بحيث تلاطف الزبائن وهي تقوم بتقديم الطلبات، كانت تعرض خيارات إضافية لاستعراض البرنامج الانتخابي لبعض المرشّحين. الروبوت الذي جاء لخدمتنا عرّف نفسه بالنادل كريم. لم يكن أكثر من أسطوانة بيضاء أطول من المتر بقليل، مع واجهة مفتوحة من جهة المقدمة، حيث توجد توصيلات إعداد القهوة بحسب النوع الذي يمكن طلبه عبر الحوار مع النادل أو بالاختيار من الشاشة التي تمثّل الوجه. ذكّرني تصميمه بمصارعي السومو؛ بوسطه العريض، وأطرافه المستدقة عند نهايتها والعريضة في بدايتها. يبدو أن التصميم متعمّد؛ ليشجّع الزبائن على الأكل.
يستخدم النادل كريم ذراعيه الداكنين اللذين يقدمان قدح القهوة، كما يقومان ببعض الحركات أحيانا بعد كل قرار يتخذه العميل؛ لصنع تعابير معينة تصنع مناخا إيجابيا عموما.
طلب المحقق قهوة منزوعة الكافيين مع ملعقتي سكر، ولكن كريم قدم نصيحة طبيّة على الفور بأن يجعلها نصف ملعقة؛ من أجل تخفيف الحموضة أيضا. ولكن الضابط ردّ بأنه يحتاج لبعض الطاقة لأنه لم يتناول شيئا منذ الصباح. فنصحه النادل بأن يطلب وجبة.
سأله المحقق: «هل يمكن للروبوتات أن تضرّ البشر؟»، فأجاب على الفور: «القهوة قد تضر البشر. الروبوتات لا تفعل!».
«أنت بائع سيء إذن».
«كنت فقط.. آه نعم. أعتذر إليك يا سيدي. سأنادي أحد موظفي الخدمة. أستأذنكما».
انصرف النادل مخزيا؛ يطرق رأسه بقبضة يده، فقال المحقق ساخرا: «هل يضرب نفسه ليعيد الكهرباء إلى وجهه؟ ربما لو زوّد بخصائص إضافية كان سيكون أكثر حرصا في الملاطفة أو أقلّ حماسة».
«ولكنه كان صادقا عندما نصحك بتقليل السكر يا سيدي». قلت له ذلك وأنا أستعد لاستعراض آخر تقاريره الصحيّة، ولكنه ردّ بهدوء الظلال: «أحب العبث مع هذه الروبوتات لا أكثر».
لست متأكدا مما يقصده بالعبث، ولكنه بدا منبسطا عندما عاد إلينا كريم بعد هنيئة ليقول بهيئة الاعتذار: «بسبب خطأي فقد حصلت على خدمة خليّة العسل لك ولمساعدك، مجانا». شكره المحقق وهو يطلب فقط قهوته. ثم التفت إليّ وسألني بمكر؛ فيم إذا كنت بحاجة إلى العسل!
كان سيطلب مني ما وجدته عن روبوت سيّدة الغصن العلوي، ولكن استبقت سؤاله بأني وجدت القليل. كنت أهمّ أن أخبره بما وجدتّه حتى تلك اللحظة، ولكن قطع عليّ ذلك وصول صحفي المغارة الشرقية الذي انضمّ إلى الطاولة وهو يضع ملفّا متوسط الحجم في يده، معتذرا عن التأخير. في الحقيقة لم يتأخّر مطلقا. كان في موعده، ولكن نحن من جاء قبل الموعد.
عاد النادل كريم إلينا من جديد عندما وصل الصحفي، ولكن انصرف عندما أشار الصحفي بأنه لا يحتاج شيئا. علّق بعدها قائلا: «هل من التهذيب أن نقول شكرا للروبوتات؟ ربما لو كانت النحلات التي بالخلايا هي من يخدم هنا؛ سأقول لها شكرا، أما دببة الباندا هذه فلا أظن!».
كان يضحك بخفّة وهو يعلّق بالإيجاب على سؤال المحقق له فيم إذا كان طلب الخدمة الخاصة بخلايا العسل، وقد بانت على خدّيه تلك الهالات الداكنة التي ذكرتها في تقريري عنه، غير أن الجديد الذي لم أذكره؛ تقشّر الجلد في أصابع الصحفي وبعض الأجزاء من يديه. الهالات والتقشّر ينتجان في الواقع عن الإكثار من الأطعمة المعلّبة، وخصوصا التونة الرديئة التي عادة ما تكون مليئة بالزئبق.
العينان المتباعدتان لصحفي المغارة الشرقية أضفتا عليه سيماء اللصوصية، وعندما غادر أخبرت المحقق عن ذلك. لم يهتم لكلامي، إذ يبدو أن الشكوك التي أثارها الصحفي حول روبوت المرأة؛ كانت أكثر أهمية؛ حتى على الرغم من أني اقترحت عليه أن الرجل ربما يريد تضخيم الأمر لأجل قصّته لا أكثر.
«لا أعرف لماذا يظن الجميع أني مقرّب منها سيدي المحقق. جميعها إشاعات صدقني. لم أعرف كثيرا أو قليلا عنها. حتى بالرغم من بحثي الطويل وراء حكايتها. كل ما عرفته أنها لم تكن يوما من سكان مدينتنا، وأن لها حسابا مصرفيا أرجّح أنها تتقاضى فيه راتبا تقاعديا، وربما بعضا من حقوق ملكية فكرية قديمة.
لقد شاهدتها مرتين. أقسم لك بقلب أمي. أي نعم لم أتحدّث معها مباشرة، ولكني صحفي كما تعرف. يجب أن أقترب من شخصيات تقاريري لأقرب مسافة ممكنة. أوه.. نعم! هو لا يعرف شيئا، ولا يريد من الأصل أن يعرف شيئا. أنا أصعد إلى الأعلى أحيانا؛ إما مع عمال التوصيل، أو لأسلّمها أسطوانات الشعراء القدماء.
أضعها عند الباب فقط. نعم هي نفسها. أنا أصنعها بنفسي يا سيدي. لديّ جهاز لتسجيل الأسطوانات. لا.. أحدهم يعرضها في الشبكة. أنا فقط أحمّل الملفّات لديّ ثم أسجّلها. لا طبعا.. الصوت ليس حقيقيا. شاب مهووس طوّر خوارزمية لمحاكاة أصوات شعراء جاهليين وعباسيين من خلال قصائدهم. لا أعرف كيف يفعل ذلك. يطرحها مجانا. أنا أيضا لا أبيع تلك الأسطوانات وإنما أهديها لمن يريد.
نعم أخي الضابط… أنا من أشاع أنها مصابة باضطرابات عصبية وأنها ربما تكون هاربة من مستشفى للأمراض النفسية، لذا أعتقد ضرورة البحث عن تاريخها الصحّي. وأنا وليس المالك من اقترح دعوتها لحفلاتنا وأمسياتنا المشتركة.. أقسم لك. بل كنت أطرق بابها أحيانا لأجل ذلك. لا بالعكس… لم تكن صبيحة يوم أمس عادية بالنسبة لنا نحن سكان البناية. الرجل فقط يحاول أن يقلل من أهمية الأمر، وتحديدا لأنه لا يحب الصحافة.
لا لا يكرهني. ولكن ربما لا يحبني لأني أختلف معه في موضوعات كثيرة. ارتفعت أصواتنا قبل أسبوع على خلفية ملصق انتخابي وضعته قريبا من مدخل حي اللبلاب. لن ألومه لأنه يرفض انتهازية مرشّحي الانتخابات. فقط أحب أن أستثيره، فهو حريص على متابعة البرامج الانتخابية. نعم يختار المستأجرين لديه بعناية. ولعلّ الحظ خانه مع هذه المرأة. ربما تصويتنا لصالحها لم يكن موفّقا.
نعم يا سيدي.. يستعمل التصويت عندما يحتار في المستأجر الجديد. بل أحيانا إذا لم يعجبه مستأجر ما؛ يطلب منا التصويت؛ فإذا جاء ضد المستأجر؛ فستكون أمامه فرصة أخيرة ليغير آراءنا كي نعيد التصويت لصالحه. في الغالب سيكون عليه أن يقدم خدمات مجانية فيما لو كان يريد الاستمرار في الحي.
هناك قواعد ممتعة أخرى يفرضها الرجل علينا. أوه نعم.. حدّثكم عن “القدم العارية”؟! يحب أن تكون بنايته مميّزة؛ تقف لوحدها وسط الأشجار. يظن أن ذلك يجعلها أقرب إلى الطبيعة من الكتل الخرسانية المصطفة على شوارع المدينة.
ولكن تعرف سيدي المحقق؛ لا يبتعد حيّ اللبلاب كثيرا عن محطّة الحافلات وسيّارات الأجرة بمركز المدينة. البناية مميزة فعلا؛ تقف كصخرة مكسوّة تماما باللبلاب. ناهيك عن برج الاتصالات القريب؛ يمكن رؤيته من مسافة بعيدة؛ بشكله اللافت للانتباه؛ كشجرة جوز هند عملاقة؛ ينتصب فوقها أضخم علم للدولة بمدينتنا. أظن من الطبيعي أن تصبح صخرتنا محط الأنظار. وربما لولا الانتخابات الحالية لكان الاهتمام بالحادثة أكبر. أليس كذلك؟
لست متأكدا، ولكني أميل أكثر لفرضية الجريمة يا سيدي. لا أظن أن أحدا سيفكر في الانتحار بهذه الطريقة البطيئة جدا لدرجة الفظاعة. أستطيع أن أقول إن وفاتها استغرقت شهرا كاملا على أقل تقدير. هي ميّتة.. صحيح؟
كانت تذبل تدريجيا على مدى الأسابيع الماضية، إلى أن انطفأت بالكامل. بعض التسريبات ذكرت أن جسد المرأة كان جثة تجارب للمبتدئين. وما استعمال الفورمالين إلا للإبقاء على الجسد حتى لا تنتشر الرائحة بسرعة.
سيكون شرفا لي أن أساعدكم في حدود معرفتي، ولعلم المحقق؛ عقدي انتهى مع المؤسسة التي كنت أعمل لديها، وأشتغل الآن لنفسي. أعدك بأن لا أنشر شيئا إلا بعد موافقتك. لا.. أنا مهتم بها لأمر شخصي. الروبوتات عادت لتغزو حياة البشر بشكل مفزع ولا أحد يدق ناقوس الخطر. يجب أن نعرف ما الذي كان يجري في شقة تلك المرأة، وفيم إذا كان لتلك الآلة دخل في مقتلها.
المواصفات التي قدمها عمّال التوصيل للروبوت لا تدلّ على أنه مجرد آلة صمّاء تماما، فهو يبدي مشاعر واضحة، ويتقن استخدام طبقة الصوت تعبيرا عن الامتنان، وهو يستجيب أحيانا: شكرا، رافقتك السلامة، حظا موفّقا. كما أنه يستطيع أن يبدو متواضعا كالأطفال، ويستطيع أن يستخدم أصابعه بشكل دقيق بحسب كلام أحدهم، والمرأة فيما يبدو كانت تعتمد عليه كثيرا في شؤونها. وبما أنها لا تحب الناس؛ فقد كان يؤنس وحشتها.
لم أستطع في السابق أن أكتب شيئا عنها للجمهور، ولكن الآن يبدو أن القصّة ستكون مثيرة. لا لن أذكر اسمك في التقرير بالطبع. أقسم لك. أستطيع أن أكتب ما تريد، أو ربما سأقول: وذكر مصدر رفض التصريح عن اسمه… هيهه».
***
محمد العجمي
مفكّر وروائي عماني حاصل على بكالوريوس التربية من جامعة السلطان قابوس، ودرس علوم الحاسوب والفلسفة والنظرية النقدية، مع اهتمامات متنوعة شملت حقولا كعلوم البيانات والذكاء الاصطناعي والفلسفة الأوروبية وفلسفة العلم والفلسفة الجمالية، بالإضافة إلى الاهتمامات الأدبية والسينمائية. نشر عملين فكريين في حقلي الفلسفة والنقد الاجتماعي، وهما: أوراق الوعي تأملات في الفكر والثقافة (2015)، وداخل العقل النقدي محاولة لتأصيل النقد اليومي (2019). كما شارك في تأليف عدة أعمال مشتركة، منها زهرة على السوق العتيق (2021) عن دار نثر العمانية، وعمان في زمن كورونا (2022) عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء. أصدر روايته الأولى سر الموريسكي (2021)، والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب لدورة 2022، كما ترجمت إلى اللغة الإنجليزية عن دار عرب.