العراق خالد في ضميري لأنه يذكرني بأمي
قدم الفنان علاء بشير معرضه الأخير والموسوم (ذاكرة مشفرة) في لندن، ضم العديد من الأعمال الفنية الكبيرة التي تميزت بذات الأسلوب السريالي المعروف عنه، هذا المعرض كما معارضه السابقة الممتدة منذ ستينيات القرن المنصرم لم تزل تحمل في مضامينها التعبيرية هموم الإنسان وتعطشه للحياة والمآسي التي تحيطه ضمن تصورات يتبناها الدكتور علاء بشير، أفكاره الفنية والجمالية لا تنفصل عما يريده من انسجام مع قراءته للوجود والإنسانية معاً عن تقنياته في الرسم وأسلوبه ورؤاه؛ حول هذا المعرض كان لنا معه هذا الحوار:
** لا زلت وفياً لخطابك الجمالي والفني، من حيث الأسلوب الأقرب للسريالية، هل ترى هذا الأسلوب يمثلك، بما فيه الكفاية لقراءة أعمالك نفسيا وتعبيريا ؟
شكراً لسؤالك؛ أتصور أن مثل هكذا تساؤل يحمل أكثر من إجابة شخصيا لم أختر أية مدرسة فنية معينه لأعبر من خلالها عما أنجزه من نحت أو رسم أو تخطيط. وهذه رؤيتي اتجاه عوالم الفن منذ زمن بعيد لكني متأكد وسأعترف لك هنا بأنني متأثر وبشكل كبير ولا يوصف بمشاهد آثار حضارة العراق القديم وما تحمله من رموز ودلالات تعبيرية عبقرية خالدة. لأنها أعطتنا جميعا تصوراً عن الجمال والبناء والتاريخ الإنساني وهذا أمر مهم لكل من يمارس الفن ويعطيه أهمية كبيرة في نفسه والوفاء للخطاب والأسلوب الفني لا بد منه لتأكيد الهوية الفنية أضف أن خيال الفن مهما حلق بعيداً سيحط أخيراً في طريقة ثابتة لهذا تراني وفيا لهذا الفن.
** أود هنا أن أسألك كيف تبدو فكرة إحياء الفن والاستمرار فيه في ظل كل هذه المتغيرات، ممكن القول أنه نوع من المواجهة؟
دعني اعترف لك في الحقيقة هذا سؤال ليس من السهل الإجابة عليه لأسباب كثيرة منها أهمية إدراك دور الفن في تعميق البحث لضرورة إدراك جدوى وجود الإنسان في الحياة ودوره فيها، المسألة تحتاج لتعميق الأفكار آخذين بنظر الاعتبار الإعجاز المذهل لتكوين الإنسان التشريحي الفيزيولوجي وقدرة الدماغ في التفكير والادراك والوعي. هذه عوامل لا بد أن نضعها نصب أعيننا. الفن يمتلك قدرات ولكنها في النهاية لن تكون تعجيزية منذ زمن يبدأ من العام ١٩٦٠ أدركت أن الرسم وسيلة تعبير أقوى من الكلمة التي أنا مؤمن بقدسيتها وموقع الحرف في الكلمة، أضرب مثلا كلمة الله إذا عكستَ حروف هذه كلمة ستقرأ؛ هللا. والفرق بينهما عميق وشاسع. أريد أن أشير إلى أهمية الكلمة وموقع الحرف في الكلمة. ولما كنت اعتقد بأن الفن (الرسم) أكبر تعبيراً من الكلمة لأنه عابر للغات والحدود والمعتقدات والقوميات. لم لا نعترف بأن الفن هو وسيلة الإنسان كالعلم في السعي لمحاولة ادراك معنى وجوده في رحلة الحياة التي لم يخترها بإرادته.
التجربة في مفاصل الحياة لابد أن تمنح الإنسان بُعداً آخر وزاوية أخرى للنظر والتفكر في معنى الوجود وغايته.
الصورة: من أجواء المعرض | fb.com/ala.h.bashir
** أود أن أبقى معك في حدود معينة. طالما أن هذا المعرض يبحث في قضايا الإنسان ومصيره من وجهة نظرك، فما المختلف فيه أسلوبياً وتقنياً بالقياس لمعارضك السابقة والتي تضم ذات الفكرة؛ الاهتمام بالإنسان والوجود، هل يمكن أن أقول أنه امتداد لإحياء فكرتك؟
غالباً ما تظهر تفاصيل اللوحات التي أُنفذها في ذهني كأنني أنظر إلى سلايدات أختار واحدة منها أو أكثر وهي التي تحدد أسلوب العمل الذي أنجزه. وهكذا تتوالد الأفكار وتبدو الأعمال بمعنى أن ثمة تنظيم معين وهو نتاج جهد وتصور فني وجمالي ورؤية فلسفية للوجود والإنسان معا. كما تعمقتْ في ذهني فكرة أن الفن بهذا المفهوم لم ولن يكون وسيلة للترفيه والمتعة إنما هو وسيلة للبحث في جوهر رحلة الحياة ولا يتوقف عند مظهر وسطح الموجودات ويشمل ذلك السطح الخارجي الانسان.
** بتصوّرك، ما المتعة التي يحققها نجاحك للمتلقي؟ هل فكرت بهذه القضية يوما ما؟
حرصت دوماً أن أكون جزءا من المنظور وليس مشاهداً له من بعيد. وأُحاول قدر المستطاع أن أدعو المشاهد ليرى ما أراه ويسعدني إنْ نجحت في ذلك، لاعتقادي أنه يعزز من دور الفن وجمالياته في بناء مستقبل سليم للمجتمع. الفكرة المهمة عندي كيف يكون العمل في الأخير، وكيف يؤثر فينا جميعاً، هل يؤدي رسالته الجمالية والفنية.. هذا غاية ما أسعى إليه في هذا المعرض وما قبله.
أستعمل رموزاً واستعارات في أعمالي الفنية رافقت الإنسان منذ بدء الخليقة كالغراب الذي هو الشاهد الوحيد لأول جريمة يقوم بها الإنسان.
الصورة: من أجواء المعرض | fb.com/ala.h.bashir
**ألا تجد أن كل عمل لك وكأنه يسرد للمتلقي حكاية فيها من الغرابة ما يجعلنا منشدين لمعرفة أسبابها نفسياً واجتماعيا؟
صدقني أيها العزيز؛ منذ العام ١٩٦٠ وبعد حوار طويل مع أصدقائي من الفنانين والشعراء بخاصة الفنان الكبير الأستاذ حافظ الدروبي والصديق الأعز مظفر النواب أدركت أن الفن أصدق وسيلة تعبير إذا نجح في دعوة المشاهد إلى إدراك ما هو غير منظور، أي أن يدعوه للتفكر في جوهر ما يشاهده وأن لا يكتفي بالنظر لسطح الأشياء. مثلا أنا أعمل على فكرة أن من يُشاهد شجرة جميلة أن يتذكر جذورها وأن الإنسان له جلد يغطي جسده ربما يختلف بلونه عن الآخرين لكن قلوب البشر كلها متشابهة بالشكل والوظيفة وهكذا… أنت تعرف أن ثمة غاية في الفن فلتكن واضحة أمامنا ولنسعى إليها، هذه هي رسالة كل الفنون الإنسانية.
**يجول في ذهني تساؤل عن العلامات التي ترافق رسوماتك؛ هل هي كفيلة لتكوّن للمتلقي فكرة عن تفكيرك والتزامك الفني؟
ربما يتغير أسلوب عملي الفني بين الحين والآخر وذلك بسبب -كما اعتقد- يعود إلى حقيقة أن الأحداث توفر وتهيّئ لي فرصة الانتقال من موقع إلى موقع أعلى يسمح لي مشاهدة أوسع وأشمل كالذي ينتقل من الطابق الأسفل في البناية إلى الطابق العاشر، فلابد أن يرى ما لم يكن باستطاعته رؤيته حينما كان في الطابق الأسفل. كما أن التجربة في مفاصل الحياة لابد أن تمنح الإنسان بُعداً آخر وزاوية أخرى للنظر والتفكر في معنى الوجود وغايته. العلامات التي تتحدث عنها لابد منها لأنها لم تأت من فراغ هي بالنسبة لي ضرورة واعتقاد تعبيري في نفس الوقت.
** أتحدث هنا عن الكرسي باللون الأحمر والمرأة بجسد متكوّر والغراب الذي يرافقك، هيمنتْ على خيالك الفني. ما الذي تضمره هذه العلامات؟
أشكرك لطرحك هذا السؤال. أرى أنني لازالت بعيداً عن ما أريد أن أعبر به، عن محبتي واحترامي للمرأة العراقية لكبريائها وهي تكظم ألمها لما فعله وصنعه الرجل حين جعلها أرملة وثكلى وحين جعلها يتيمة وحين قتل أحلامها في العوز والألم والغربة. العراق خالد في ضميري لأنه يذكرني بأمي. وكما تعرف أيها الحبيب بأنني استعمل رموزاً واستعارات في أعمالي الفنية رافقت الإنسان منذ بدء الخليقة كالغراب الذي هو الشاهد الوحيد لأول جريمة يقوم بها الإنسان والغراب هو المعلم الأول للإنسان. والمرأة بالنسبة لي هي الأهم في هذه الحياة لأسباب كثيرة. والكرسي في نظري رمز للوجود المادي وهو الوهم في رحلة الإنسان المدركة. نعم دعني أكون صادقاً معك، قادني الفن إلى قناعة أن الإنسان وكل من حوله هو وجود مُشفر (الجينات) والموت هو حاله مشفرة أخرى خارج الادراك. نتعلم من الحياة درسا بليغاً ونعيد تكوين ما نراه عبر منظومة الفن.
لوحات من أعمال المعرض للفنان علاء بشير | fb.com/ala.h.bashir