الشاعر العراقي صادق الطريحي يكتب: قاربٌ عَبْرَ الفُراتْ
يا عابرًا قَرأ الفُرات بحدْسهِ، أَوَلا تَرى الأحداثَ والمُتلازماتِ!! لقدْ تَغيّرتِ النّصوصِ، وموعدُ الزّرعِ الحَصيدِ، وقدْ تبدّلتِ الدّلالةُ
قاربٌ عَبْرَ الفُرات
يا قارئًا، قَرأ الكتابَ وشرحَهُ، سَمِعَ المواعظَ والفصولَ لغايةٍ في نفسهِ[1]، عَبَرَ الفُراتَ بقادسٍ قَصَبيّةٍ مِنْ عَهدِ سًومرَ في العُلا، عَبَرَ الفُراتَ، عبورَ مَلّاحٍ خبيرٍ بالرّياحِ ونَوْئها! عَبَرَ الفُراتَ لينقذَ الأسماكَ، والكلماتِ، والأطفالَ مِنْ خَطرِ الجَفافْ:
يا أيّها الملّاحُ، هَلّا تنتبهْ!
أرأيتَ مَسالحَ اللّغةِ التي ترجو الظّهورَ بِظلّها!!
أشمَمتَ رائحةَ الصُّنانِ بنشرةِ الأخبارِ، أخبارَ الغُزاةِ وخيلِهمْ!
أسمِعتَ أنفاسَ المُدرّعةِ الرّصاصِ تَجرّها الثّيرانُ نحوَ ديارِنا!!
زَيْتٌ وقارٌ ساخنٌ مِنْ أجلِ قاربكِ العتيقْ.
يا عابرًا قَرأ الفُراتَ بحدْسهِ، أَوَلا تَرى الأحداثَ والمُتلازماتِ!! لقدْ تَغيّرتِ النّصوصِ، وموعدُ الزّرعِ الحَصيدِ، وقدْ تبدّلتِ الدّلالةُ، والمعابرُ، والمساقِطُ، والقواربُ، والمسالحُ، والمعاجزُ، والمفارِمُ، بلْ تَبدّلتِ المَصائرُ كلُّها.
قَسَمًا، لقدْ فَرَمَتكَ شاحِنةُ الحِليبِ بقوّةٍ،
فَرَمَتْ تقاسيمَ النّوى،
فَرَمَتْ عظامَ بني أبيكَ ودورَهمْ،
سَقطتْ عليكَ كطلقةٍ جُلْمُودَةٍ صَمّاءَ مِنْ أقصى العَلِ
دَاسَتْ على عتباتِ بيتكَ حاملاتُ الزّيتِ، أفعالُ الكلامِ، عقائدُ الخُلفاءِ، أرْدتكَ الأشعّةُ قاتلا!!
ـ هل أنتَ حقًا هكذا!!؟
نصٌّ لقتلكَ في السّوادْ.
مِنْ طفرةٍ ما، طفرةً في رَحْمِ ننسونِ العظيمةِ، صِرتُ جُنديّا بلكنةِ كاهنٍ زلقِ اللّسانِ، فكمْ نيستُ مَخارجَ الأصواتِ، حتّى صارتِ الميماتُ ـ ميماتَ المياهِ ـ رَصاصًا، مُتَثاقِلًا، مُتَطايرا، صَلْدًا وصَلْدا، صارتِ الفاءاتُ والهاءاتُ رَميًا بالرّصاصِ وبالحجارةِ، صرتُ جنديَ احتياطٍ مَرّةً أخرى، وأخرى، صرتُ مَفقودَ اللّسانِ ببرُجِ بابلَ، ألثغًا، فنسيتُ تَشكيلَ الحروفِ لجملةٍ تصفُ الخليّةَ في انقسامِ نواتِها، وخيوطِها!! ونسيتُ تَشكيلَ الحروفِ لجملةٍ تصفُ المكانَ، ومَوقفًا في اللازمانِ رَواهُ أتباعٌ، وأتباعٌ، وأتباعٌ بطيّاتِ الحديثِ، ومتنهِ. ونسيتُ مَرسومَ النّظامِ؛ فأخّرَ العُقداءُ راتبَ شهرِ تمّوزِ القتيلِ، نسيتُ آدابَ الطّعامِ، فقدْ أكلتُ هُناكَ مِنْ ماعونِ نَسْرُوخِ[2] البعيدِ، أكلْتُ لَحمًا طازَجًا، مُستوردًا، فنسيتُ اسمي عندما نادى علينا في السّوادِ (وكنتُ ألمسُ ذلكَ النّقشَ العجيبَ) فما انتبهتُ، فقالَ لي بقَسَاوَةٍ:
ـ أنتَ الطّريدُ!! …
وفي الطّريقِ نسيتُ أسماءَ المَصارفِ، والمَلاجئ، والبَطائحِ، والشّوارع، والموانئ، والمنازلِ، والملائكةِ الكرامِ ـ وكمْ تعبتُ بحفظِها!! ـ ففقَدْتُ: أوراقَ الهبوطِ، مفاتحَ البنكِ العتيقِ، نسيتُ كيفَ أصنّفُ الجيناتِ، كيفَ أفتّتُ الذرّاتِ، كيفَ أقسّمُ الأعدادَ والتّوريثَ؛ كي نبقى على قَيدِ السّوادِ بِصحّةٍ، وسلامةٍ، ومَسرّةِ، ونَسيتُ إتمامَ الكِتابْ.
زَيْتٌ وحافظةٌ لتغييرِ النّصوصْ.
[1] لو شئتُ صيّرْتُ القصيدةَ نقطةً سوداءَ تجذبُ أو تبدّدُ ما سواها من أفانينِ الفصولْ.!!
[2] نَسرٌ يطاردُهُ الزّمانُ بقوّةٍ، نّسرٌ أشوريٌّ جَريحٌ هابِطٌ، لكنَّ خفْقَ جناحهِ مازالَ يُسمعُ في السّوادْ.
= =
قاربٌ عَبْرَ الفُرات، للشاعر العراقي صادق الطريحي
صادق الطريحي؛ شاعر وأكاديمي وقاص، له سبعة كتب في الشعر والقصة والمقالة، منها: بيتُ القارئات، مجموعة شعرية، متحف النصوص، مجموعة قصصية، ديباجة الأمر بالنزول، مجموعة شعرية، قائمة الكتّاب السومرية/ مقالات. فاز بعدد من الجوائز الأدبية محليا وعربيا.
من ارض السواد يحلق بنا الشاعر عاليا على جناحي نسر؛يرصد واقعا متهالكا لهذه الارض/التي تعاقبت عليها النكبات في صور شعرية ذات دلالات ورمزية لا تخلو من الحسرة والالم.
لكن وهو يحوم بنا في سماءها سرعان ما يعيدنا الى امل يختم بها هذا التجوال الشعري الممتع بجملة “خفق جناحه مازال يسمع في السواد”!
يعتبر هذا النص تكثيف لتاريخ العراق الجريح بدا من فتح السواد الى الان حيث التصادم والاختلالات والانتكاسات …انه العراق بفراته وسواده وحضارته في مسارات سوريالية لا تنتهي..
تحية لمجلة قناص
شكرا جزيلا للصديق الأستاذ فتاح شيخي على هذه القراءة النقدية الرائعة، لقد استمتعت حقا بتحليله للقصيدة، وإشارته إلى دلالتها الرمزية