أهوى الهوى كتابمكتبة بورخيس

القدس العتيقة.. مدينة التاريخ والمقدسات | سيد الوكيل

القدس العتيقة.. مدينة التاريخ والمقدسات، تأليف: عرفة عبده علي، صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2007م

***

لا يتوقف هذا كتاب القدس العتيقة عند العرض التاريخي للقدس، بل يستهدف استشرافاً ووعياً بمستقبل فرضته سياسات العولمة الأمريكية، الذي أحد أهم أهدافه تفكيك الهويات التاريخية الراسخة ولا سيما الوجدان العربي المتنامي عبر التاريخ. وقد أفادت العولمة من ثورة التكنولوجيا التي جعلت من كل شيء حاضراً هنا والآن، وهي بسبيلها إلى سيولة ثقافية تمثل أنماطاً مصطنعة وموجهة لخدمة النظام الأمريكي بوصفه شرطي العالم.   

السلسلة ذات طابع تأريخي وتوثيقي يتجه إلى إحياء ذاكرة الأمة والتنقيب في تراثها الثقافي والحضاري بغية إجلاء معنى علميا وثقافيا لها، لا يتوقف عند حدود المعنى العرقي أو الديني فحسب، بقدر ما ينهض على قيم التعدد والتجاور، ويمتثل للمنطق والقانون بديلاً عن العاطفة والعصبية والشوفينية.

وإذا كانت الثقافة هي ميدان الصراع والتنافس بين المجتمعات الحديثة، فإن التأكيد على الصفة الثقافية للهوية هو مطلب أساسي، ودور داعم للدور السياسي الذي لم يعد وحده قادراً على مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية التي فرضتها العولمة.

وإذا كانت السلسلة موجهة أساساً إلى القارئ المصري ومهتمة بالتعريف بالهوية الثقافية المصرية في إطار مسح جيو-ثقافي للمدن والمعالم الكبرى في مصر، إلا أنها اتخذت مبادرة محمودة، حين حرصت على أن يكون كتاب القدس العتيقة هو الأول فيها، باعتبار القدس تمثيلاً للهوية العربية كلها، فضلاً عن المكانة الخاصة للقدس في عيون المصريين والمتأصلة في وجدانهم حتى من قبل الفتح العربي الإسلامي، حيث كانت مصر المسيحية موطنا للكنيسة الشرقية، وملاذا آمنا للمسيحيين الأوائل الذين فروا تحت تأثير الاضطهاد الروماني. مصر هي قبلة السيدة العذراء في رحلتها المقدسة هربا بالسيد المسيح في طفولته، ومازالت آثار تلك الرحلة شاهداً على عمق العلاقة الوجدانية بين مصر والقدس، في الوقت الذي لم تظهر هذه العلاقة عربياً إلا بعد رحلة الإسراء والمعراج التي كانت محفزاً لفتح القدس على يد أبي عبيدة بن الجراح عام 637م ، حيث أصبحت القدس قبلة المسلمين الأولى، ومن ثم فإن مكانة القدس عند المصريين  ليست انتماء إسلامياً فحسب، بل مسيحيا  أيضاً، وربما هذا  كان داعماً لمفهوم الوحدة الوطنية التي مازالت قاعدة ضامنة للكيان المصري، لا يتعارض مع التعددية الدينية والعرقية.

إن القدس بالنسبة لأي مصري تسكن في العين والقلب معاً. ولعل هذه الارتباط الوجداني ينعكس على طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، حيث تتحمل مصر النصيب الأكبر في تداعيات هذا الصراع من أجل غاية تضمن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وهو دور شمل مستويات عدة، فغير المستوى العسكري الذي خاضت فيه مصر حروباً عدة، فإن مصر قد خاضت ـ أيضاً ـ حروبا سياسية وإعلامية بل وقانونية، إذ تظل القدس واستعادتها قرة العين هدفا لا بديل عنه.

أما وقد أصبح المستوى الثقافي الآن أبرز ميادين التنافس الدولي، فقد كان من المهم الانتباه المبكر إلى هذا المعترك ألهوياتي، والدخول إليه عبر روافده المختلفة وقنواته المتعددة التي أولها الثقافة.  

ولقد تصادف صدور كتاب (القدس العتيقة … مدينة التاريخ والمقدسات) في الوقت الذي تجددت فيه عمليات الحفر الصهيوني تحت المسجد الأقصى، حيث تجوس أصابع الصهيونية في التراب المقدس بحثاً عما يزعمون أنه وجودهم التاريخي في القدس. هذه مفارقة من المهم أن ُتقرأ في سياقها، ففي الوقت الذي تتعنت فيه الصهيونية لإثبات حقوقاً مزعومة في الأرض الفلسطينية، مرة بالقتل والتدمير وأخرى بالتشريد والتهجير، وثالثة بالحفر وسرقة التاريخ، فإن مؤرخاً واحداً يستطيع أن يقدم بالكلمة والصورة عشرات، بل مئات من الأدلة والوثائق والشواهد التي مازالت ماثلة للعيان على عروبة القدس.

أما مؤلف كتاب القدس العتيقة فهو المؤرخ المصري (عرفة عبده على)الذي قدم من قبل سلسلة من الدراسات السياسية تدور في معظمها حول القضية الفلسطينية . وتحذر في بعض جوانبها من المخططات الصهيونية التي تسعى لتهويد القدس.

وفي هذا الكتاب (القدس العتيقة … مدينة التاريخ والمقدسات)، يؤكد المؤلف على أهمية الدرس الثقافي والحضاري للقدس  إلى جانب الدرس السياسي لها بوصفها مركزاً مجسداً للموضوع الفلسطيني، فالقدس كانت ولا زالت موضوعاً لعديد من الكتب والإصدارات لكونها قد أصبحت رمزاً للنضال العربي الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، وقبل ذلك هناك الكثير من المؤرخين العرب الذين تناولوا القدس وأرخوا  لها ـ خاصة إبان الفتح العربي ـ غير أن مجمل هذه الكتب تراوح بين الموضوعين السياسي والديني، فقد انشغلت أكثر الإصدارات الحديثة بتحديد وضعية القدس في مواجهة عمليات التهويد المتعمد، والاعتداء المنظم على مقدساتها الإسلامية والمسيحية، وعلى معالمها العربية والإسلامية، كما أن الكتب العربية القديمة توقفت عند القدس بوصفها مكاناً مقدساً في العقيدة الإسلامية، مثلما انتبهت ـ أيضاً ـ  لتاريخها السياسي ولاسيما في فترتي الفتح العربي والحروب الصليبية، وحيث احتلت القدس قلب المشهد السياسي في ذلك التاريخ، وكانت بمثابة ساحة الحسم التي تشهد بالسيادة عبر الصراع العربي الصليبي ، كما هو الشأن الآن  في الصراع العربي الإسرائيلي، ولقد اعتبر دخول قوات صلاح الدين الأيوبي من أبواب القدس، نهاية رسمية  تحسم سلسلة الحروب الصليبية لصالح العرب .

غير أن هذا العرض التاريخي الموجز، يعنى أن النظرة العربية إلى مدينة القدس، تراوحت بين الموضوعين الديني والسياسي، بحسب اختلاف زوايا النظر بين المؤرخين المسلمين العرب وبين المؤرخين الأجانب.

وغير هذا، هناك عشرات من الكتب الإسرائيلية الحديثة التي عمدت إلى التزييف والتزوير وخلط الأوراق وتشويه المعالم والوقائع والثوابت التاريخية لصالح المشروع الاستيطاني في القدس. وإذا كانت النظرة العربية تمنح القدس هذه المكانة الخاصة حتى لتغدو معادلاً لقلب العروبة فلا غرابة في ذلك، فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وملتقى الأديان السماوية الثلاث التي صدق بها المسلمون، وإذا كانت القدس تحتل كل هذه المكانة في الوعي والنفس العربيين، فإن مشروع تهويد القدس يبرز بوصفه معركة ثقافية، ولعل التأكيد الثقافي على هوية القدس داعم لمسارات التفاوض وأشكال المنازلات الأخرى بغية ترسيم الحدود العربية لمدينة القدس التي أصبحت معادلاً مكانيا للهوية العربية…

لاحظ مؤلف كتاب (القدس العتيقة … مدينة التاريخ والمقدسات) أن النبرة الحضارية والثقافية أكثر خفوتاً في التأريخ للقدس، في مقابل النبرة السياسية والدينية، كما لاظ أن النظرة الدينية للقدس موزعة بين المؤرخين المسلمين والمسيحيين كل بحسب عقيدته، لهذا فإن من مآثر هذا الكتاب، هو الالتفات إلى البعدين الحضاري والثقافي المرتبط بإنسان المكان وإعماره له، بعيداً عن النظرة الدينية، ومن ثم فإن الوصف والتوثيق يشمل المعالم والآثار الإسلامية والمسيحية جنباً إلى جنب، بما يدعم الموضوعية العلمية التي حاول الكتاب انتهاجها .

يركز كتاب ( القدس العتيقة … مدينة التاريخ والمقدسات) على البعدين الحضاري والثقافي من حيث اعتبارهما أفقين فسيحين تتجلى فيهما عروبة القدس، وهذا بجانب البعدين الديني والسياسي بطبيعة الحال، ومن ثم يتوزع الكتاب على خمسة فصول، يتضمن الفصل الأول عرضاً جغرافياً وتاريخياً للمدينة المقدسة، إذ يذهب في عرضه التاريخي لأبعد ـ كثيراً ـ من الفتح العربي وبالتحديد  منذ النزوح الأول لـ (اليبوسيين 2500 ق. م) بوصفهم قبائل كنعانية من بطون العرب، وهو أول تأسيس للمدينة تذكره كتب التاريخ، في حين كان الدخول الأول لليهود إليها عام ( 1006 ق. م ) عندما استولى عليها الملك داوود وأسس مملكته في فلسطين. وقد استمرت مملكة داوود دولة لليهود حتى سقطت على يد الملك الآشوري (شلو منصر) الذي قام على سبي اليهود وطردهم من المدينة فكان شتاتهم الأول. إن فترة إقامة اليهود في فلسطين لم تخل من قلاقل وحروب مع الجيران العرب بغية استردادها، وهى حروب حفظها التاريخ وذكرتها التوراة، بما يعنى أن أهمية القدس بالنسبة للعرب أهمية تاريخية. وأن العرب ـ عبر التاريخ كله ـ لم يستسلموا لاستئثار اليهود بالقدس.

غير أن المصريين القدماء ـ وحدهم ـ هم الذين تمكنوا من استرداد القدس، وطرد الآشوريين منها، وفي ذلك الوقت كان ثمة وجود محدود لليهود فيها بوصفهم قبائل بدوية تعيش على هامش المجتمع وخارج حدود المدينة المقدسة، وإن نجحت هذه القبائل في استرداد عافيتها مرة أخرى في ظل السياسة المتسامحة للمصريين، حتى سقطت القدس في يد البابليين، الذين استأصلوا شأفة اليهود من المدينة، فيما عرف بالسبي البابلي.

يمضى كتاب ( القدس العتيقة … مدينة التاريخ والمقدسات) في تتبع الدول التي تعاقبت على القدس، مثل دولة الفرس وجيوش الإسكندر المقدوني وحتى الدولة الرومانية، هكذا ظلت القدس مطمعاً  ومغنماً تسعى إليه كل الدول القديمة والحضارات القديمة، حتى تمكن العرب من استردادها مرة أخرى إبان الفتح العربي على يد ى أبى عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، وكانت زيارة عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس (636 م) بمثابة تثبيت للوجود العربي فيها، وإعلان لأهمية القدس ومكانتها في قلب كل مسلم بوصفها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وملتقى الأديان السماوية، حيث أسرى بالرسول محمد إليها ومنها كان معراجه.

يختص الفصل الثاني من الكتاب باستراض مفّصل للحكم العربي لمدينة القدس، بدءاً من الدولتين الأموية والعباسية، مروراً بعصر الدويلات وسلاطين المماليك حتى عصر الإمبراطورية العثمانية  التي لم تنجح ـ في أواخر عهدها ـ في الحفاظ على مدينة القدس وتركتها بسهولة للانتداب البريطاني الذي سلمها ـ بدوره ـ إلى الكيان الصهيوني، ليكون ذلك بداية لحقبة من الصراع العربي الإسرائيلي مازلنا نشهد فصولها المأساوية، ونعاين ممارسات الصلف والاستبداد الصهيوني وتعدياته التي تجاوزت رغبته الخبيثة في الاستحواذ على المكان إلى رغبة أشد خبثاً في لاستحواذ على التاريخ وسلب هوية المدينة المقدسة.

ولقد بدأ الاهتمام العربي بالقدس منذ اللحظة الأولى لخضوعها تحت حكم الدولة الأموية في عهد الخليفة (معاوية بن أبى سفيان)  بما يعني وعي العرب الأوائل بها وبمكانتها التي تأكدت برحلة الإسراء المقدسة، لهذا فإن الخليفة معاوية عهد بولايتها إلى (سلام بن قيصر) وأمر بإجراء الإصلاحات والاهتمام بأسوارها القديمة وإعادة ترميم مبانيها والعناية ببساتين الكروم والزيتون فعادت القدس مقصداً للتجارة والزيارة، غير أن المكانة الدينية للقدس زاد الاهتمام بها في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، الذي بني قبة الصخرة، وهي المكان الذي تشرف بمعراج الرسول.

عندئذ بدأ بناء مسجد قبة الصخرة ويعتبر أول مسجد يشيد في بلاد الشام، وحيث كانت المساجد حتى هذه اللحظة بسيطة، كمجرد مواضع للصلاة لهذا بدت القبة وخلفها المسجد آيتين معماريتين لفتتا الانتباه إلى مكانة القدس الدينية لدى المسلمين حتى فتن الناس بهما.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن خلطاً يصير بين الناس في عصرنا بين مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى بناه الخليفة عبد الملك بن مروان، خلال فترة حكمه، وجعله على مقربة من مسجد قبة الصخرة، لكنه لفت الانتباه باتساعه وطرازه المعماري الفخم حتى حظيّ بالاهتمام الأكبر بين علماء المسلمين فتحول إلى جامعة لدارسي القرآن الكريم وعلوم الشريعة.

ولقد توالى الاهتمام بهذه المزارات الإسلامية على مر العصور حتى صارت رمزاً عربيا وإسلاميا وهو ما يفسر رغبة الصليبين في تخريبها، فبعد دخول الصليبيين القدس (يوم الجمعة من شهر شعبان 492 هـ) كان المسلمون من سكان المدينة قد تجمعوا في الساحة بين المسجدين كملاذ آمن ظناً منهم أن الصليبيين سيحترمون حرمة المكان، غير أن الصليبيين احتفلوا بانتصارهم هناك بعد أن أقاموا مذبحة راح ضحيتها أكثر من سبعين ألفاً من المسلمين. كما قام الصليبيين على سرقة كنوز المسجدين وتخريب قبة الصخرة بعد أن وضعوا عليها الصليب، وبعد عودة القدس للحكم العربي على يد الناصر صلاح الدين الأيوبي، أعاد ترميم المزارات المقدسة وإعادتها لما كانت عليه من رونق وبهاء كما أزال الصليب عن قبة الصخرة.

لم يكن العمران وقفاً على المزارات الدينية الإسلامية إذا كانت المزارات المسيحية التي أقيمت خلال الحكم الصليبي عهدا على صلاح الدين الأيوبي ضمن عهود حماية المسيحيين من سكانها وبهذه الوضعية صارت القدس على نهج التسامح والتعدد والتجاور لتتحول إلى قبلة للديانات السماوية الثلاثة. وكان من بين الاهتمام العمراني لها ترميم أسوارها وأبوابها وأبراجها ضمن التحصينات الحربية.

وقد ركز الفصل الثالث من الكتاب على التكوين العمراني والحضاري للقدس العربية، ويعرض للآثار والمنشئات الدينية (الإسلامية والمسيحية) والمدنية والعسكرية التي بلغت أوجها في عصر الدولة الأيوبية، وكذا في عصر دولتي المماليك البحرية والبرجية، واستمرت حتى منتصف العصر العثماني حين بدأت مظاهر الضعف والشيخوخة تدب في مفاصل الدولة العثمانية. هنا يبدأ الكتاب في ذكر توثيقي للمساجد والمدارس والدواوين والبيوت ومظاهر العمران كافة، وقد تدهشنا غزارة المعلومات عن الزوايا والأبواب التاريخية للمدينة فضلاً عن والقبور الشهيرة والأسبلة والخوان والمكتبات التي حوت نفائس الكتب والوثائق الشاهدة على عروبة القدس.

 وقد اختص المؤلف المزارات المسيحية بجزء كبير ومفصل من الفصل الثالث مثل: كنيسة القيامة وكنيسة المهد وكنيسة الصعود ودير الآباء الفرنسيسكان ودير مار أنطونيوس ودير السلطان الذي وهبه صلاح الدين لأقباط مصر، فنسبوه إليه امتناناً واعترافاً بروح التسامح التي حظي بها المسيحيون تحت الحكم الأيوبي.

وتعد كنيسة القيامة أبرز وأهم المزارات المسيحية في القدس، وتمثل ذروة الترف المعماري لما تحوية من تيجان ومجوهرات وزخارف ذهبية، ومن الطريف أن سدنة كنيسة القيامة، وحملة مفاتيحها مسلمون، ينتسبون إلى أسرة الصحابية الجليلة (نسيبة بنت كعب)  وقد توارثت هذا الشرف منذ عصر صلاح الدين الأيوبي بعد اختلاف الطوائف المسيحية على من يحوز هذا الشرف، ومن المعروف أن هذه الكنيسة تضم بين جنباتها القبر المقدس، وممر الجلجلة، وشيئا فشيئاً اتسعت رقعة الأرض التي تقوم عليها كنيسة القيامة ولحق بها العديد من الأديرة والكنائس الصغيرة والمباني الكنسية المختلفة.

أما الفصل الرابع من الكتاب، فيتوقف عند القدس في كتابات الرحالة، وحيث كانت المدينة مقصداً للحج ومزاراً مقدساً فضلا عن الولع الخاص بالقدس عند المستشرقين الذين تناولوها في كتاباتهم وصوروها في رسومهم ولوحاتهم. من الرحالة المشاهير الذين أرخوا للقدس: دانيال الراهب وهو القديس الروسي المعروف وكذا الرحالة الفارسي ناصر خسرو علوي، ولقد تناوب على تأريخ القدس ووصفها بعض الرحالة والمؤرخين العرب من أمثال: ابن بطوطة، والمقدسي، ومن الطريف أن الكتاب يتوقف عند الرحالة اليهودي (بتاحيا الراتسبوني) الذي زار القدس (1174 م) وكتب عنها، بما يعني أن القدس وحتى هذا الوقت كانت مدينة مفتوحة لأتباع الديانات الثلاثة بقصد الحج والسياحة الروحية بلا تمييز أو عنصرية كتلك التي تمارسها إسرائيل الآن…

ولقد كان الطابع الغالب على الرحلة إلى القدس هو الحج والزيارة المقدسة، ومن ثم حج إليها العديد من العلماء ورجال الدين، وسجلوا مشاهداتهم وملاحظاتهم التي لم تخل من اجتهاد علمي أفردت له صفحات من الكتب مازالت مرجعاً هاماً ومقصداً معرفيا لباحثين في تاريخ المدينة، ومن هذه الكتب: «كتاب الأنس في فضائل القدس» لبهاء الدين بن عساكر و«والأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل» لمجير الدين عبد الرحمن العليمي قاضي القدس في أواخر العصر المملوكي،  وكتاب: «إتحاف الأخصّا لفضائل المسجد الأقصى» لشمس الدين محمد بن أحمد  المناهجي الأسيوطي. و«الجامع المستقصى في فضائل الأقصى» لأبى محمد بن على بن عساكر، وكتاب «باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس» لبرهان الدين الفرازي.

ولدى المسيحيين؛ فقد نشأت عادة الزيارة المقدسة إلى القدس في القرن الرابع الميلادي إبان عهد الإمبراطور قسطنتين الذي جعل من المسيحية ديناً رسمياَ للإمبراطورية الرومانية فشجع الحجيج إليها وعنى بالمزارات المسيحية.

وقبل ذلك كان اليهود يحتفلون بأعياد ثلاثة في القدس من كل عام امتثالاً لما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الخروج: «ثلاثة مرات تعيّد لي في السنة»، وهذه الأعياد هي عيد الفطير (الفصح) وعيد الحصاد وعيد الجمع، وهي أعياد يكون الاحتفال بها قاصراً على الذكور من دون الإناث، ولقد حرم قسطنتين على اليهود دخول القدس، وظل هذا التحريم قائما خلال فترة خضوع القدس لحكم الإمبراطورية الرومانية، وعندما وقعت القدس تحت الحكم العربي سمحت لليهود بممارسة شعائرهم واحتفالاتهم. وبعد سقوط القدس في يد الصليبيين منع اليهود من دخول القدس مرة ثانية إلى أن استعادها صلاح الدين الأيوبي فسمح لهم بدخولها وممارسة شعائرهم من جديد. 

ينتهى الكتاب بالفصل الخامس تحت عنوان: «تهويد القدس» ويعرض للممارسات الصهيونية الهادفة لتهويد القدس وطمس هويتها العربية، وما يتبع ذلك من سرقة للأرض والتاريخ وتدمير المقدسات، والخطط الهيكلية والتوسعية والاستيطانية الرامية إلى الاستيلاء على القدس، ويتضمن هذا الفصل مناقشة سياسية للاتفاقيات والمباحثات التي تدور في أروقة السياسيين حول القدس ومصيرها الذي مازال معلقاً وغامضاً وملتبساً بأساليب التآمر والتشويه، فيما تظل القدس عربية في قلب كل عربي، ورمزاً مقدساً معادلاً للهوية العربية.

***

القدس العتيقة.. مدينة التاريخ والمقدسات، تأليف: عرفة عبده علي، صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2007م

القدس العتيقة

سيّد الوكيل: روائي وناقد من مواليد القاهرة 1951، عضو اتحاد كتاب مصر، رئيس تحرير سلسلة إبداعات قصصية، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

خاص قنّاص – أهوى الهوى كتاب

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى