الدكتاتورية الفكرية مِمن يدعي الثقافة والانفتاح!
في عصرنا الرقمي، أنتجت وسائل التواصل الاجتماعي العديد من الظواهر الفارغة المعنى والتي تحتكم لخدعة إثارة المشاعر الصادمة -أكانت إيجابية أم سلبيّة- وذلك في سبيل «النجوميّة». وهو ليس أمرًا جديدًا إذ كانت وما تزال للإعلام المكتوب والمسموع والمرئي هذه الوظيفة الترويجية لكلّ ما يستحق وما لا يستحق. لكن، مع تنامي الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي وسرعة تناقل الأخبار والتعطّش للخبر المثير والفيديو الأكثر إثارةً خاصة في أيّام الحجر، ازداد -وما زال قائمًا- السعي وراء المحتوى الجذّاب لأسباب ماديّة و/أو للشهرة.
من بين من لجأ إلى لفت الأنظار وتوسيع رقعة متابعيه الفنانون وأصحاب المقالب ومنسّقو الموضة أو ما أصبح يُعرف بالـ”فاشنيستا”. الأخير هو لقب يٌعطى لكلّ شخص ينسّق أزياءه متّبعًا صيحات الموضة وذوقه الشخصي. يخلق شخصية وهميّة ويؤدّي دورها كممثّل بارع ليتميّز عن الباقين ويكون الأفضل والأكثر متابعة وبالتالي ليحظى بشهرة واسعة وتدعمه الماركات التي يسوّق لها ويجني المال كنجم دعائي. لكنّ المستغرب هو أن يتصرّف الكُتّاب والقرّاء على هذا النحو مختزلين الأدب كسلعة مثلها مثل أي زيّ على الموضة.
خلق شخصية وهمية
يسعى العديد من الكُتًاب – الجُدد بالأخص – إلى خلق شخصية وهميّة تلفت النظر بحسب ما يخلق ضجّة على صفحات التواصل الاجتماعي وفي الصحافة. قد يشارك الكاتب (أو الكاتبة بطبيعة الحال) آراءًا غريبة أو صادمة للأعراف أو السياسة أو القومية أو الأديان أو العلوم وغيرها، لا عن قناعة، بل كي يستفزّ مشادّات على صفحته الشخصية ليزيد التفاعل، وبالتالي ينمّي عدد متابعيه المحبّين كما الكارهين. من جهة أخرى، قد تتعدّى الشخصية الوهمية المخلوقة حدود الآراء لتلبس حلّة أشدّ نفاقًا حين يكذب الكاتب بشأن يوميّاته وماضيه وعمله وغرامياته وانتمائه ومحتوى كتبه التي قد يشدّد أنّها قصّة حقيقيّة في حين أنها محض خيال يسعى من خلال دراميتها لاستجداء مشاعر وتعاطف القرّاء، أو على العكس، قد يستخدم قصصًا حقيقيّة لأشخاص يستغلّ حكاياتهم الشخصية لتتحوَل إلى شخوص روائية معقّدة انتهك خصوصيتها دون موافقتها مع تشديده على أنها غير واقعية.. وفي هذا الصدد نستذكر الكاتب جايمس فراي الذي سوّق كتابه على أنها معاناة شخصية في مقابلة مع أوبرا وينفري واعترف لاحقًا بتزويره ومبالغته بعض الحقائق ليحصد عطف القراء ويجد شهرة أوسع. أمّا الكاتب دان مالوري فقد كذب بشأن إصابته بالسرطان لاستنفار المشاعر مبرّرًا ذلك برغبته بإخفاء معاناته مع الاكتئاب ثنائي القطبين لتكون النتيجة أن تتصدّر باكورته الأدبية المبيعات في أميركا!
هل من المقبول أن تتحوّل العلاقة بين القارىء والكاتب إلى لعبة تأدية أدوار تمثيلية؟
القارئ المتلوّن
لا ينجو بعض القرّاء من هذا الجنوح وحبّ اكتساب موقع المثقّف والناقد الأدبي من خلال التزلّف والمجاملات. يبحثون عن كلّ ما هو “ترند” كي يحصدوا متابعين أكثر. وكأنّ عدد المتابعين يحفظ لهم مكانًا حقيقيًا في الوسط الأدبي! قراءة مئة أو ألف كتاب، وكتابة عشرات الخواطر ومئات المراجعات، لا تجعلان من القارئ ناقدًا مخضرمًا. وطوبى لمن عرف حدّه ووقف عنده، واستدار ينهل من علوم الأدباء والنقّاد والمفكّرين والفلاسفة والباحثين الكبار.
كلّما قرأ المرء أو كتب كتابًا جديدًا، خطا خطوة إضافية باتجاه اكتساب المعرفة الانسانية واكتشاف الذات والآخر. وهذا أمر يستحيل تحقيقه ببضعة شهور أو سنوات، بل يلزمه عملًا دؤوبًا دون كلل لسنوات طوال. إذ كلّما فتحنا بابًا جديدًا للعلم برزت أبواب مغلقة لا تُحصى.
الشهرة بأي ثمن
الصدق مطلوب في مراجعة كتاب ما مهما كان مستوى القارئ. والكاتب الذي قرّر نشر أفكاره في كتاب وتمليكها للقرّاء عليه تقبّل الآراء المختلفة والتواضع والاعتراف بفشله إن لم يصل للقارئ. وعلى العكس من ذلك، عليه أن يتحضّر ويأخذ بالآراء المختلفة لينضج قلمه ورؤيته. لكن نرى بأنّ الأمر قد يصل حد التنمر على القارئ إن انتقد كتابًا ما سلبًا، من قبل قرّاء آخرين أو من الكاتب نفسه. هل تحوّل المجال الأدبّي وسطًا يخلو من الأدب؟ هل تصحّ هذه الدكتاتورية الفكرية من قبل من يدّعون الثقافة والانفتاح؟ هل يعقل أن يبجّل الكاتب القارئ الذي امتدح كتابه ويذم من انتقده سلبًا معتبرًا أنه “لا يفقه شيئًا لذا لم يفهم أو يستوعب الكتاب التحفة”؟
ما جنون العظمة والايغو المهشّم الذي يسود البعض؟ هل بات أغلب الكتّاب يعتبرون كتاباتهم تحفًا فنيّة؟ يبدو أنّ المجال أرحب لمناقشة الكتب السماوية عمّا هو في أدب هذا الزمن! هل الأفضل ألّا يتقرّب القرّاء من الكتّاب وأن يتعاملوا مع المنتج الأدبي بمعزل عن الكاتب؟ ما ايجابيَات إقامة مسرح النقاش الافتراضي أونلاين؟ وهل توازن كفّة سلبيّاتها التي قد تتطرّف إلى حدّ التنمّر وقمع حرية تعبير القارىء عن رأيه بكتابٍ اقتناه وقرأه؟
لقد اجتاحت الرداءة مجمل نواحي عالمنا ومن البديهي أن تنعكس في العلوم الانسانية التي تعبّر عن التجربة المعاشة في كلّ وقت وزمن. وهكذا تغلغل الأدب الرديء وحوار المجاملات والذم غير الموضوعي، وبالتالي غاب الحوار الفلسفي والتواصل القيّم والتفاعل المفيد والبنّاء. وهكذا، بات بعض القرّاء والكتّاب يتحوّلون “فاشينيستاز” لا ينقصهم سوى مستشار تسويقي وخبير بالمظهر والموضة حتى يسلّعوا الأدب أكثر ويسطّحوه ويختزلوه بكلمات فارغة المعنى!