سِيَر ورحلاتنصوص

المسرحية ميلودرامية | زاهر السالمي

بعد استقرارنا في “مباندا”، استأجر أبي دكاناً صغيراً في سوق القرية، وبدأ تجارة بسيطة. يبيع مواداً استهلاكية تحتاجها العائلات، من أغذية ومشروبات غازية وحلويات.

حين تأتي عطلات المدرسة، أساعده في الدكان. يرسلني في مهام خفيفة إلى هنا وهناك. وأحياناً يترك الدكان في عهدتي ويذهب لقضاء أمر ما، فمداولات البيع كانت يسيرة، ولا زبون يصل مبلغ شرائه إلى عشر “شلنجات”. 

كان يعتمد علي، مُعْتَدّاً بقدراتي الحسابية، وإمكانياتي اللغوية التي فاقَتْه حين تحضر السواحلية في التعامل مع الزبائن. في مسقط، لم يكن يحتاج إلي في هكذا أمور، بينما هنا، شعرت بقيمة إضافية!

في مسقط؛ كانت الخيزران في كل مَفْرَق، ولم يَفْرق الأمر في تنزانيا، إلا أنه كان في مفارق مُتباعدة، ربما لاختلاف الظروف والأحوال. 

ولتحصيلي الدراسي الضعيف جداً في الصف الأول بمدرسة الظاهر، نقلني أبي معه إلى مسقط، وسجلني في مدرسة “الحَمْريّةْ” الابتدائية، حيث كنا نسكن في “الوَلْجَةْ”، تحت الجبل مباشرة.

قبل يوم من افتتاح العام الدراسي ناداني: هيا سنذهب إلى سوق مَطْرَح، الشهير بسوق الظلام. تهيأت وذهبنا معاً بالسيارة. في الطريق سألني: هل تعلم لماذا نحن ذاهبان إلى سوق مطرح؟ فنفيت بحركة من وجهي والاستغراب في عيني… نذهب إلى السوق لا بُدّ وأن نشتري شيئاً!

اشترى من السوق حزمة من عصي الخيزران في ما يقارب “دَرْزن“، وأنا لا أفهم، وهو لا يشرح. في اليوم التالي أخذني إلى المدرسة بسيارته، قائلا: “هذا يومك الدراسي الأول، سآخذك بنفسي، لن تحتاج إلى باص المدرسة”.

آآه.. كم سُرِرتُ لحظتها، أبي سيقلني إلى المدرسة…

دخلنا المدرسة، يقودني بيد، ويحمل باليد الأخرى حزمة الخيزران، وأنا بعد لم أفهم. دخلنا إلى الصف في الحصة الأولى، يديرها أستاذنا المصري مُرَبّي الصف. وأمام الصغار الذين سيكونون زملائي طيلة عام دراسي، خطب أبي خطبة عصماء…

عام دراسي غريب، كنتَ مُشتّتاً. الانتقال من القرية إلى العاصمة لم يكن سهلا.

غرفة الصف مُكتظة بالتلاميذ. وحين أكتب في الدفتر، ينحرف السطر رويداً رويداً إلى أسفل لينتهي مثل قوس. رأيت أنها مشكلة جمالية، تشوّه الصفحة. وعدم القدرة على كتابة الكلمات في خطّ مستقيم لن تُرْضي الأستاذ بكل تأكيد!

لكني فزت بجائزة في ذلك العام، وهي الومضة المشرقة الوحيدة: ربطوا في ساق كل منا بالوناً منفوخا، أظن أننا كنا عشرة تلاميذ، كل واحد يهاجم بالون الآخر ليفجّره، وآخر بالون يبقى منفوخاً في الساحة المدرسية أثناء الاحتفال بالعيد الوطني هو الفائز.

لم يتوقع المدرسون وجماهير الطلاب المستديرة حولنا النتيجة!

كيف؟ ماذا حدث؟

كنتُ رقماً صعباً، لم أكن أهاجم أحداً، مستميتاً في المراوغة حماية لبالوني، فبقي في الأخير بالونان منفوخان. حاول منافسي مهاجمتي بكل شراسة الأطفال وهم يلعبون، لكن لا فائدة. لم يجد سبيلاً إلى بالوني، وأنا لا أهاجم. قُلتُ في نفسي: لن ينال مني أحد هذا اليوم! تَعِب الجمهور من انتظار الفائز، وتعب منافسي. قرّر الأستاذ حكم المسابقة أنّ النتيجة تعادل، وستقسم الجائزة على اثنين.

هكذا عدتُ يومها إلى البيت وفي حقيبتي صندوق ألوان خشبية. أخذ زميلي الألوان المائية، والتي كنت أفظلها أكثر من الخشبية، حتى ألطّخ صفحة الرسم البيضاء بالريشة. لكني لم أطالب بها، فقد كنت فرحاً بما يكفي بجائزتي!

خطب أبي خطبة عصماء، وأمام الصغار الذين صاروا زملائي طيلة عام دراسي، استعرض حزمة الخيزران، موجهاً كلامه إلى مُربّي الصف:

“هذه دَرْزن من عصي الخيزران، لكنها ليست لأحد من تلاميذ الفصل”.

تنفّسوا الصعداء، وهم مشدوهون…

قال: “هذه فقط لابني، ولا أحد غيره، تأدبه بها إذا أهمل في واجباته الدراسية”. ثم أردف: “وإذا لم تكفيك، فسأزودك في النصف الثاني من العام الدراسي بمثلها”.

الآن فهمتَ القصد: أول مسرحية ميلودرامية تحضرها!

– مقطع من كتاب سردي قيد الطبع بعنوان «منازل طَلْعة الشمس».

خاص قناص

مقالات أخرى لـ زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى