«أغنية النبي» للأيرلندي بول لينش: رهاب الاحتجاز بين جدران فاشية العصر الحديث
ترجمة وإعداد: سارة حبيب
من سلالة روايات مثل «حكاية الخادمة» و«1984»، تأتي الرواية الخامسة للأيرلندي بول لينش (1977-) المقيم في دبلن لتختطف جائزة البوكر في أواخر شهر تشرين الثاني هذا العام. صدرت رواية «أغنية النبي» عام 2023 وتقع في حوالي 320 صفحة. وهي قصة كابوسية وواقعية على نحو يثير الذعر، لدرجة أنه، حتى لو تمت قراءتها بحذر، على دفعات قصيرة، فإن رعب عالمها يَرْشح من صفحاتها إلينا «مثل حبر أسود يتسرّب إلى مياه صافية»، على حد تعبير ميليسا هاريسون. لا تصنّف «أغنية النبي» كرواية رعب، لكنها لو كانت كذلك، فلن تكون مخيفة بالقدر الذي هي عليه. مع هذا، إذا كان ثمة كتاب ضروري لأوقاتنا الحالية، فذاك الكتاب هو «أغنية النبي»، لأنه كما وصفته رئيسة لجنة تحكيم جائزة البوكر لهذا العام إيسي إدوغيان: «يلتقط المخاوف الاجتماعية والسياسية للحظتنا الراهنة».
تدمج «أغنية النبي» الديستوبي مع الشعري لكي تتحدث عن تصاعد فاشية العصر الحديث، عن أنسجة الخراب السياسي وهي تعلق في رئتي العالم: عن سعال الطغيان المدمر الذي يسبق المرض، وصولاً إلى الموت الرهيب. لكنها، بدلاً عن استقصاء كاملِ جسد التعفن الحكومي، تركّز على آلام امرأة واحدة تناضل لحماية عائلتها في دبلن متخيَّلة.
تتخيل الرواية انزلاق أيرلندا إلى الشمولية، وكيف تدفع أزمةٌ غير محددة الحكومةَ إلى منح قوات الشرطة الأيرلندية سلطات حالة الطوارئ. تبدأ الرواية في إحدى الأمسيات، حين تعود بطلة الرواية أيليش ستاك -عالمة أحياء دقيقة، أم وزوجة- إلى منزلها لتفاجأ برجلين من الشرطة السرية يبحثان عن زوجها، لاري، وهو مسؤول كبير في نقابة معلمي أيرلندا. تذكّرنا السطور الأولى ببداية رواية أورويل 1984: «حلّ الليل ولم تسمع الطرق على الباب». ومع أن الرجلين يسألان عن الزوج بتهذيب ويرحلان، تشعر أيليش مع رحيلهما أنهما تركا شيئاً ما خلفهما، شيئاً يجري بسرعةِ تدفقِ عبارات بول لينش التي لا يمكن إيقافها؛ شعوراً بأن شيئاً ما قد دخل المنزل: «شيء بلا شكل، إنما محسوس. وبوسعها أن تحس به يتسلل إلى جانبها». إنها تعرف ولا تعرف ما يريده الضباط من زوجها. من ناحيته، يصرّ زوجها بتفاؤل أنه: «لا تزال ثمة حقوق دستورية في هذا البلد». لكنه، بعد ذلك بقليل، يُسجَن خلال مظاهرة عمالية، ويختفي تماماً خلال أيام: لقد ابتُلعه تماماً صمت الدولة المطبق، إلى جانب عشرات ومن ثم مئات المواطنين الأبرياء الآخرين. تصوّر الرواية بعد ذلك محاولات أيليش العبثية لإطلاق سراح زوجها، محاولتها المحافظة على مظهر حياة طبيعية لأبنائهم الأربعة والاهتمام بوالدها العجوز، وكيف أنه، أثناء ذلك، يتفتت العالم العادي الآمن تحتها مثل رمل. إن الحكومة الجديدة «تحاول أن تغير ما ندعوه أنا وأنت واقعاً».
تصوير لينش لبطلة الرواية دقيق، ويثير التعاطف. فمن المؤلم رؤيتها تكذب على أبنائها مراراً حول حقيقة ما يحدث، ومراقبة ترددها حول السبيل الأمثل لحمايتهم: «كيف أبدأ بشرح هذا للأطفال، أن الدولة التي يعيشون فيها قد أصبحت وحشاً؟» من ناحية أخرى، ومع استمرار تزايد ترويع أحداث الرواية، تتشبث أيليش بوهم أن هذه الحالة يمكن تدبر أمرها، وأن وحشية الدولة البوليسية يمكن تجنبها. لكن، حتى لو كان من المحزن مراقبة الطاقة التي تبذلها في محاولة التمسك بآخر مزقِ حياتها السابقة، فإن فعل الإنكار هذا بشري تماماً ومفهوم. كل صفحة من الرواية تهتز بصدى صوت تحذيري: «اخرجي من البلاد! خذي أطفالك واهربي!»، لكن إيمان أيليش بالمستقبل يصبح نوعاً من اللعنة.
من ناحية الأسلوب، نلاحظ في «أغنية النبي» تأثر بول لينش الواضح بالروائي الأميركي كورماك مكارثي، وهو ما يعترف به لينش في واحدة من عتبات الرواية. يظهر الأثر خصوصاً في اللغة، بناء الجمل، الصور المجازية، استخدام الأسماء والصفات كأفعال، الجمل الطويلة للغاية، وكره الفواصل المنقوطة. كذلك، تتسم «أغنية النبي» بغياب الفواصل بين المقاطع، حتى أن كتلة المقطع الواحد تمتد أحياناً لصفحات، ويُضمَّن الحوار ضمن المقطع من دون فصل، من دون حصول المتحدثين على سطر جديد. ورغم صعوبة التعود على هذا التكتل البصري، فإنه يصبح منطقياً مع التقدم في القراءة، إذ يعطي الإحساس برهاب الاحتجاز الذي تحاول الرواية بثّه: يبدو هذا التكتل كحاجز، كما لو أن على القارئ أن يشق طريقه بصعوبة إلى كتاب يحاول أن يمنعنا من قراءته. إنها رواية مكتوبة بقواعد الخوف، وبسبب الجمل التي تتدفق كشلال واحدة تلو الأخرى من دون لحظة توقف لالتقاط النفس، تبدو كل صفحة فيها زلقة مثل الجدار الرطبة لغرفة تعذيب.
«أغنية النبي» هي، من بين أشياء عديدة، تسجيلٌ للآثار السامة التي يتركها القلق على الشباب الذين لا يستطيعون أن يحتملوا الأكاذيب لزمن طويل. تقلق أيليش من أن طفلها قد يلتقط عدوى الخوف، يواجه ابنها الأكبر معضلة مستحيلة بين الهروب أو التجنيد في قوات الاضطهاد، تتوقف ابنتها ذات الأربع عشرة سنة عن الأكل، وتُضطَهد أيليش في عملها ولا تستطيع الوثوق بأي أحد.
في النتيجة، إذا كنتَ قد قرأت كتباً غير أدبية عن الحياة في ظل الأنظمة الشمولية، فستجد أن التفاصيل في هذه الرواية مألوفة للغاية. ويبدو أن العالم التخييلي الذي بناه لينش هو نتاجٌ للبحث أكثر مما هو نتاج للخيال. هكذا، يعكس الكتاب واقع البلدان التي مزقتها الحروب؛ إن فيه صدى للعنف في بلدان عديدة عربية وأجنبية، ولتجارب الهاربين منها، كما أن فيه انتقاداً لاستجابات السياسيين الغربيين لأزمة اللاجئين.
عند سؤاله عن الرواية قال لينش: «كنتُ أحاول أن أنظر في حقيقة الفوضى الحديثة، في اضطراب الديمقراطيات الغربية، في مشكلة سوريا…أزمة لاجئيها ولامبالاة الغرب…لم يكن بوسعي أن أكتب عن سوريا بشكل مباشر لذلك جلبتُ المشكلة إلى أيرلندا في نوع من المحاكاة».
كان لينش قد بدأ كتابة الرواية قبل أربع سنوات، غير أن حبكتها تبدو كما لو أنها مبنية على عناوين رئيسية حديثة. وربما تكون هذه الديستوبيا هي ما نحتاجه اليوم لنستيقظ من توهمنا بأن الفاشية لا تحدث إلا بعيداً عنّا أو أنها انتهت قبل زمن بعيد. تتأمل الرواية كذلك في معنى الوطن في عالمِ أزماتٍ مستمرة، وكيف أننا نفصل أنفسنا عن كوارث الآخرين. يكتب لينش في الصفحات الأخيرة: «نهاية العالم هي دوماً حدثٌ محلي. إنه يأتي إلى بلدك ويزور بلدتك ويقرع على باب بيتك، بينما يصبح للآخرين مجرد تحذير بعيد، تقريراً إخبارياً موجزاً، صدى للأحداث التي تحولت إلى تراث شعبي». أخيراً، يترك لينش القرّاء مع نهاية سعيدة، مع أمل بأن الأشياء ستعود إلى طبيعتها، وذلك أمل شجاع. إن «أغنية النبي» هي بمثابة مانيفستو أدبي للتعاطف مع من يحتاجونه، والحقيقة أنها يجب أن توضع في أيدي صنّاع السياسة في كل مكان من العالم.
المصادر:
https://www.washingtonpost.com/books/2023/11/27/booker-winner-prophet-song/ 1.
5. https://thebookerprizes.com/media-centre/press-releases/prophet-song-paul-lynch-wins-booker-prize-2023
6. https://www.theguardian.com/books/2023/nov/26/booker-prize-2023-prophet-song-paul-lynch-novel-wins
7. https://thebookerprizes.com/the-booker-library/features/paul-lynch-interview-prophet-son
= = =
«أغنية النبي» للأيرلندي بول لينش: رهاب الاحتجاز بين جدران فاشية العصر الحديث؛ ترجمة وإعداد سارة حبيب
سارة حبيب: كاتبة ومترجمة من سوريا. إجازة في اللغة الإنكليزية، ماجستير في اللغويات التطبيقية. صدر لها ديوان واحد بعنوان «النجاة حدث مملّ للغاية» عام ٢٠١٧.