تشكيل : أحلام لمسفر ، حاورتها سعيدة شريف –
قليلون هم الفنانون الذين يشبهون أعمالهم، والفنانة التشكيلية المغربية أحلام لمسفر أحد هؤلاء، فهي تشبه أعمالها إلى حد كبير، امرأة طبيعية لا تهتم بالكليشيهات ولا التصورات النمطية، ولا تغريها الأضواء، تركز على الأساسي في الفن والحياة، معطاءة إلى أبعد الحدود، وفي بحث دائم عن الأفضل والبناء الأصيل للوحة.
تجمع أحلام بين التشكيل والنحت والالتزام الكبير بالقضايا الفنية والإنسانية، وتؤمن بالدور الكبير للفن في التغيير، وفي إعادة جزء من الإنسانية والحياة لعالم اليوم. تبحث عبر فرشاتها وألوانها عن أسرار الوجود والصفاء، لهذا تجدها تنقي لوحاتها من كل الشوائب لترتقي بها إلى مدارج الروح، مستعينة بدربة وحنكة تراكمت لديها بعد تجربة فنية طويلة، انطلقت منذ سبعينيات القرن الماضي إلى الآن.
تدرجت في تجربتها الفنية من التشخيص إلى التشخيص الانطباعي، حيث لم تقدم الطبيعة أبدا بشكل ميت، بل جعلتها تعيش وتتنفس عبر لوحاتها، لتنتقل إلى التجريد ثم التجريد اللامرئي، الذي تبحث من خلاله عن النفس الإلهي، وتسعى إلى استخراج ذلك الضوء الذي يلامس روح الإنسان ويحس معه بارتعاشة التجلي الروحاني.
على بعد أمتار من بحر المحيط الأطلسي بشاطئ “البريش”، الواقع بين مدينتي أصيلة وطنجة شمال المغرب، توجد الإقامة الفنية البيضاء “دار الفن المعاصر” المشرعة على الضوء، وذات التصميم المعماري المعاصر والصافي، التي تفتحها الفنانة أحلام لمسفر سنويا للعديد من الفنانين العرب والعالميين سنويا، عبر تظاهرة السامبوزيوم الدولي للفن المعاصر الذي بلغ دورته الثامنة، من أجل الاشتغال فنيا على تيمة معينة، يتكلل بمعرض جماعي يتواصل على مدى ثلاثة أشهر.
عن هذه الإقامة الفنية وتجربتها التشكيلية كان هذا الحوار الخاص معها:
*في مسارك الفني كان هناك حضور للون والشكل والانتقال من التشخيص إلى التجريد عبر محطات مختلفة، وحتى اللوحة بحد ذاتها كانت مختلفة بحجمها، فما هي هذه المراحل، وما مدى ارتباطها بحياتك وبالمتغيرات التي عشتها؟
بالفعل تجربتي الفنية لصيقة بحياتي وبالمتغيرات التي عرفتها. فحينما تخرجت كان بإمكاني البدء بالتجريد في عملي الفني، ولكني فضلت التشخيص لأنه كان ضروريا ويمنح تلك النقلة الفنية للفنان. التجريد كما أفهمه هو نتاج تلك التجارب التشخيصية السابقة أو جماع تلك التجربة كلها.
الألوان تفرض نفسها علي، ففي كل مرحلة يظهر لون معين، كما أن اشتغالي على الطبيعة والبيئة بشكل عام يمنحني القدرة على الاشتغال باللون الأخضر، الذي ميز مرحلتي الأولى، والذي تحول تدريجيا إلى اللون الترابي والأصفر، ولكن الطبيعة لدي لم تكن أبدا ميتة، فهي حية، وهو ما كنت أدافع عنه وما زلت ملتزمة به.
وبعدها اشتغلت بالبني، وفي عام 1997 سافرت إلى البوسنة فتغيرت رؤيتي بالكامل، وبسبب المأساة التي عاشتها تلك المنطقة، ظهر الأحمر والأسود في لوحاتي بشكل كبير، وهو اللون الذي لم أشتغل عليه من قبل، وبعدها اشتغلت على مواضيع تتعلق بثقافة السلام، حيث شاركت في تظاهرات فنية عبر العالم، تظاهرات تندد بالحروب والعنف، وتحاول إرساء السلم والسلام عن طريق الفن، فكنت ألقي محاضرات في هذا الإطار عبر العالم، وكنت أتحدث عن كيفية تحقيق هذا المطمح عن طريق الفن.
وبعد تلك الفترة، بدأ اللون الأبيض يزحف ويبرز في لوحاتي إلى جانب الأسود الذي لم يغب عن لوحاتي من ساعتها، بسبب مراحل عصيبة مررت بها في حياتي. ثم جاء اللون الأزرق بكل بهائه ليحتل مساحة مهمة في لوحاتي، قبل أن ألجأ إلى صباغة ومحو ما أشتغل عليه، بحثا عن الصفاء والكامن واللامرئي.
فهذا البعد الروحاني والصوفي الذي تحدث عنه الشاعر رشيد المومني عبر هذه القصيدة الجميلة هو ما بدأ يظهر في أعمالي التي أبحث فيها عن صفاء الروح والارتقاء والتجلي، كل ذلك عبر أشكال عمودية على شكل ستائر، عكس الأشكال الأفقية التي كانت بارزة في أعمالي في مرحلة سابقة.
بشكل عام تحولت في تجربتي الفنية من التشخيص إلى التشخيص الانطباعي، ومن التجريد إلى التجريد اللامرئي، وأنا أبحث عبر فرشاتي وألواني عن أسرار الوجود والكون.
*وكيف جاءتك فكرة خلق إقامة فنية بشاطئ البريش بالقرب من مدينة أصيلة على المحيط الأطلسي مخصصة للفن المعاصر؟
لدي ورشتين فنيتين خاصتين بي بكل من مدينتي الجديدة مسقط رأسي، ومدينة أزمور، إضافة إلى ورشتي بمدينة الدارالبيضاء، التي أقيم بها، وكنت بين الفينة والأخرى أفتح ورشاتي في وجه مجموعة من الفنانين الأصدقاء. لهذا فكرت في خلق فضاء يجتمع فيه الفنانون المغاربة والأجانب، ويكون فرصة لتبادل التجارب والتعرف على بعضهم البعض.
صراحة منذ عودتي من باريس لاحظت أن هناك فراغا وخصاصا كبيرين في هذا المجال، ليس مثل فرنسا التي تعج بالإقامات الفنية والورش الكبيرة، التي تسمح للعديد من الفنانين بالاشتغال والتواصل حول المجال الفني، ففكرت في الموضوع، ولكن إمكانياتي ساعتها لم تكن تسمح بذلك.
ولكن حينما تيسرت الأمور، أقدمت على المغامرة بمساعدة زوجي، الذي يعرف حلمي من زمان، فوقع اختيارنا على شاطئ البريش الجميل، الذي يقع على المحيط الأطلسي بين مدينتي أصيلة وطنجة شمال المغرب، وهكذا تم افتتاح الإقامة في عام 2012، وبدأنا الاشتغال على السامبوزيوم الدولي للفن المعاصر منذ عام 2013 إلى الآن، فاستقبلنا فيه مجموعة كبيرة من الفنانين العالميين والعرب والمغاربة. وبعد توقف لسنتين بسبب جائحة كورونا، عدنا هذه السنة بالدورة الثامنة من السامبوزيوم الدولي للفن المعاصر التي نظمت تحت شعار “بحر وضفتان”، وعرفت مشاركة فنانين من المغرب وقطر والكويت وإسبانيا.
*خلق تظاهرة من هذا النوع، واستضافة فنانين لأكثر من أسبوع سنويا، والاشتغال على تيمة معينة ليس بالأمر الهين، فكيف تشتغلون على هذه التظاهرة؟
نحن نشتغل طيلة السنة على هذه التظاهرة حتى تكون في المستوى المطلوب، فمنذ خلق دار الفن المعاصر تأسست معها جمعية تضم مجموعة من الأعضاء من فنانين وكتاب ومبدعين ومهتمين بالفنون بشكل عام، ومنها تشكلت لجنة تختار الموضوع الذي يتم الاشتغال عليه كل سنة، وتختار الفنانين الأجانب والمغاربة المؤهلين للعمل على التيمة المقترحة، والذين لديهم القابلية للعمل ضمن المجموعة. لأن أغلب الفنانين يفضلون العمل لوحدهم، ولا يرغبون في إشراك الآخرين في عملهم، ولا حتى اطلاعهم على التقنيات والأدوات التي يشتغلون بها. لهذا فنحن نحاول كسر هذه القاعدة وفتح فضاء دار الفن المعاصر لكل الفنانين الذين يؤمنون بالعمل الجماعي، وبالدور الأساسي للفن في تقريب الرؤى والتصورات، وخلق الحوار الفعال الكفيل بتذويب كل الفروق والخلافات.
كل سنة تفد علينا طلبات كثيرة من فنانين مغاربة وأجانب يطلبون المشاركة في السامبوزيوم، وذلك بسبب الصدى الطيب التي خلفته هذه التظاهرة طيلة الثماني سنوات، التي هي عمر الدورات، مع توقف لسنتين بسبب كورونا. الأعمال المعروضة في الإقامة الفنية كلها تظل في دار الفن المعاصر يقدمها الفنانون هبة للجمعية القائمة على هذه التظاهرة.
*المتتبع لأعمالك يلاحظ تباين حجم اللوحات لديك وعدم منحها أي اسم أو عنوان، فما السر في ذلك؟
موضوع اللوحة ونوع المعرض أو التظاهرة يفرضان نفسهما علي، لهذا تجد لوحاتي تختلف من معرض لآخر، لأنني أشتغل على كل معرض ولا أقدم نفس الأعمال، أسعى دائما إلى التجديد. غالبا يكون لدي خيط ناظم وفكرة عن المعرض، والباقي يأتي لوحده، ومكان العرض يحدد حجم اللوحات، حيث لا يمكن تقديم لوحات كبيرة في فضاء لا يسعها. بشكل عام المعرض والموضوع والفضاء كلها أشياء تجعلني أفكر في طبيعة اللوحة.
وبخصوص غياب أي اسم أو عنوان للوحاتي، فهو اختيار، لأنني لا أرغب في أن أقيد من يشاهد لوحاتي برؤية معينة أو فكرة ما. أنا أشتغل على لوحاتي بصدق وأصالة، وأفرغ فيها كل طاقتي وما يعتمل بداخلي، وأترك المشاهد أمامها حرا ليتأمل ويكتشف اللوحة. ما يهمني في تجربتي الفنية ويروقني في التجريد هو أن أمكن المشاهد من السفر عبر لوحاتي والغوص في عوالمها، من دون أن أفرض عليه أي شيء.
في لوحاتي أبحث عن النفس الإلهي، وأسعى إلى استخراج ذلك الضوء الذي يلامس روح الإنسان ويحس معها بارتعاشة التجلي الروحاني، وحتى حينما اشتغلت في بداياتي على التشخيص والطبيعة، لم أقدم أبدا الطبيعة بشكل ميت، بل كنت أمنحها روحا وأجعلها تعيش عبر لوحاتي.
*تهتمين ببنية اللوحة أكثر من الزخرف، فماذا تمثل لك أدوات الاشتغال الفني، وأي منها تفضلين في الرسم وتجدينها مطواعة؟
أشتغل كثيرا بسكين الرسم وبمختلف الأدوات، ولكنني أجد السكين مناسبا لخلق الحركات والتموجات والآثار أو الخدوش التي أرغب في أن أخلفها في اللوحة. وهذا طبعا من دون افتعال أي شيء، لأنني أعمل على اللوحة كما لو أنني أشتغل على منحوتة، فأشكل المادة وبعدها يأتي اللون وتدرجاته وطبقات الألوان الأخرى، التي أعمل عليها بعد ذلك وأصفي اللوحة من كل الشوائب والزوائد، وأصفي حتى اللون الأبيض بحثا عن شعاع الضوء فيها، لأن اللوحة بالنسبة لي غنية ببساطتها ولا داعي لشحنها بأشياء كثيرة حتى نعطي لها معنى. الفنان يجب أن يمر في تجربته من التشخيص ويتملك الأدوات والتقنيات، التي أعتبرها من أساسيات العمل الفني، وذلك حتى يتمكن من تقديم الأحسن والانتقال إلى الأفضل، لأنه للأسف لدينا فنانين ما زالوا يقدمون على مدى ثلاثين سنة نفس اللوحة.
*إلى جانب اللوحات تحضر المنحوتات لدى الفنانة أحلام لمسفر، التي تظهر فيها المرأة بشكل جلي، فهل هو التزام تجاه قضيتها؟
اشتغلت على المرأة كثيرا في منحوتاتي، المرأة في البادية والصحراء، لأن المرأة لديها طموح كبير ورغبة في التغيير. وحاليا أشتغل على المرأة من خلال تنصيبات للمرأة التي تدافع عن حريتها وتبحث لنفسها عن مكان أفضل. لدي تنصيب من ثماني حالات، كلها تقدم المرأة التي ترغب في الخروج والتعبير عن نفسها، المرأة التي ظلت خانعة ومنزوية في وقت من الأوقات، وهي الآن تنفض عنها غبار الزمن وتنتفض في وجه التمييز والعنف والتعبير عن وجودها.
سعيدة شريف؛ كاتبة وإعلامية مغربية