يتمظهر أسلوب جون آشبيري في هذه القصيدة بخصائصه التي ارتكز عليها مشروعه الشعري، في نَصّ مراوغ يُراوح بين الكلام الشفهي -الدارج- وموسوعة معجمية يستقيها من عصور قديمة، مُعيداً إحياءها في تركيب تدخل فيه الموسيقى والتشكيل. يسوق إلينا سردية تكوّن مدرسة نيويورك في جدل تهكّمي وسريالي، مُحْكِماً قفلة القصيدة بنظرته عن ماهية الشعر، وكيف يتموضع المتلقي في نَصّه، عبر إدخالنا في «تجربة التجربة»، هذا المصطلح -تجربة التجربة- الذي اشتُهر به حين يصف أسلوبه الشعري.
نُشرت قصيدة وطن ثقيل لـ جون آشبيري (Heavy Home) ضمن المجموعة الشعرية: ملاحظات من الهواء: مُختارات من قصائد مُتأخرة Notes from the Air) Selected Later Poems) الصادرة في 2007. تضم المختارات قصائد كتبت في فترة تمتد من منتصف الثمانينات حتى 2005. وقد ذكرت الناقدة ميغان أوروك أن «هذه القصيدة وبطريقة ما تتحدث عن تفرق شعراء مدرسة نيويورك»1. شعراء مدرسة نيويورك التي كان آشْبيري أحد أعضائها الأربعة المؤسسين، مع فرانك أوهارا، وجيمس شولر، وكينيث كوخ، في الخمسينيات من القرن العشرين. سيجد القارئ في هذه القصيدة، بروز تلك السمات التي تميز بها شعراء هذه المدرسة، أي ذلك الشعر الذي يمثل تحدياً للمتلقي.
نلاحظ في نهاية المقطع الأول -كما في مقاطع أخرى من القصيدة- جملة تتكون من كلمتين (decoct melisma)، ترجمناها إلى: نُكَثِّفُ امتداد نوْتة غنائية. كلمة (decoct) تعني -حسب المعجم- النقع في الماء الساخن، الاستخلاص عبر الغلي، تركيز أو تكثيف، وهي كلمة غير شائعة، تعود إلى إنجليزية العصر الوسيط (1150-1470م)، من الأصل اليوناني (decoquere)، والمركبة من (de + coquere)2. يستعيد آشبيري تلك الكلمة من العصر الوسيط، لكنه يستخدمها في سياق يختلف كلية عن سياققها الأصلي -وصف عملية استخلاص مادة من نبات، ويموضعها في سياق وصف حالة إنسانية، عبر تركيبها مع كلمة أخرى (melisma)، وهي لفظة تقنية موسيقية، وتعني مَدُّ الغناء أو امتداد مقطع غنائي3. وفي نظرنا؛ جَمْعُ مفردتين متناقضتين (تكثيف-امتداد) هو أحد الاستراتيجيات الأسلوبية لدى آشْبيري. زِدْ على ذلك غرابة المفردتين: واحدة تعود إلى العصر الوسيط (decoct)، والأخرى مفردة تقنية ليست متداولة إلا مع محترفي الغناء والموسيقى (melisma). وهو بذلك يخلط بين الكلام الدارج والجمل المُرَكَّبة، مما يَشْبك القارئ ويُرْبكة في ذات الوقت! أنظر إلى قفلة الجملة، مُفاجِئة، وخيال سريالي:
نُكَثِّفُ امتداد نوْتة غنائية
لنَبْني عليها صدى.
هذه الجملة تُحيلنا إلى نهاية القصيدة: «الجيب المتنازع عليه هو لك / لكن إيقاعه في مكان آخر». ضمير المخاطب ربما يشير إلى أحد شعراء مدرسة نيويورك الذين تفرقوا، وربما إلى آشبيري نفسه، مُلمّحا إلى تميّزه وبراعته! وأيضاً -في قراءة مُختلفة- يمكن أن يُشير إلى القارئ. لكن ما هو الجيب المتنازع عليه؟ ربما الرؤية الشعرية لأعضاء مدرسة نيويورك: «نتنفَّس عِطْر الانْشِقاق مُسْتندين على مجاذيفنا»، لاحظ هنا أن الانشقاق يوصف بالعطر، وبمعنى من المعاني، يشير آشبيري إلى أن انشقاق وتفرّق شعراء مدرسة نيويورك، وهذا الانشقاق لم يكن بالشيء السلبي، إنما له عِطْره الخاص. الإيقاع «لكن إيقاعه في مكان آخر»؛ إيقاع الكلمات، النص الشعري، إيقاعه في مكان آخر، هذا المكان الآخر لا يملكه الشاعر، إنما القارئ يتلقّى ليس المعنى الحرْفي، إنما إيقاع تلك الكلمات، صداها، وحسب تأويله الفردي، حيث أن النسخة النهائية ليست بالضرورة ما قصده المؤلف، وحسب تعبير جون آشبيري المباشر في قصيدته الشهيرة – بورتريه شخصي في مرآة محدبة: «هذا هو المبدأ الذي يجعل من الأعمال الفنية على خلاف ما قصد الفنّان».
كما أن جون آشبيري الذي اشتهر باستخدام كلمات غير إنجليزية في شعره4، يُدخل في قصيدته كلمات فرنسية مكتوبة بحرف مائل: (pattes de velours)، وتعني كفوف مَخْملية. هنا يحدث انكسار في انسيابية القصيدة، انحراف تجريدي، يُجْبَر عندها المُتلقي على إعادة القراءة، وتفحص الجملة ذهابا وإيابا. هذا الدوران الحُر بين الكلام الدارج والجمل المُرَكَّبة وأخرى غريبة عن الإنجليزية، يجعل القارئ مستيقظاً لقوام الكلمة، وليس للحاويات التي يبنيها الشاعر للكلمات.
تالياً نصطدم بـ العَرَّاف الميانيكي، حيث يُعتقد أن الآلة تجيب بواسطته عن سؤال حول أمر من أمور الغيب5. هذا العَرَّاف الميانيكي يحل محل العراف البشري/الكاهن، ويقذفنا برؤى ومشاهد: عالَم مُحَدِّق، مرآةُ مَرَح، شَرَك أغصان بدِبْق الليمون، بَهْرَجة، ذهب زائف، مِصْيدة فينوس، كفوف مَخْملية، رامبرانت وماعِزه. رؤى لا يربط بينها رابط منطقي، كما عادة الرؤيا عند العرّافة والمنجّمين. نلاحظ صيغة تهكّم مُضمر عندما يصف طرافة العَرَّاف الميانيكي بمحرِّكه نصف الدائري، وغرابة رؤياه المزخرفة. التهكّم يمتد إلى فكرة العِرافة في أصلها، كما نظن! وبما أن القصيدة تتحدث عن شعراء مدرسة نيويورك، أي عن الشعر، فإنه بهذا التهكّم يُشكك في قيمة الامساك بما حاول الشعر تقليدياً الامساك به: بلورة لحظة في الزمن عن طريق بصيرة كاشفة. هكذا كتب في قصيدة (الساعة المائية Clepsydra): كل لَحْظة / من المعنى هي الحقيقة؛ وبالمثل لا توجد حقيقة1.
= =
وطن ثقيل لـ جون آشبيري
شيء واحد يَتْبع مظلة آخر في أفق الحدث. حياة واحدة
في الطريق تُغِيّر الموضوع. بعض الأشياء كانت منطقية،
وأخرى لم تكن. لم أكن أتوقّع أن أموت بهذه السرعة. حسنا،
أظن أنّه يجب عَلَيَّ أن أُصَنّف نفسي بطريقة ما. لقد ناقشْتُ
الكتابة على ساقك. آخرون كانوا يَئنّون في مدرسة الشجرة،
يُقَلَّبون في منامهم، تاركين الأشياء الصبيانية مُؤخراً. جميعنا
مُتأخرون. ماذا لو عِشْنا في ما وراء البحار؟ كان يمكن أن نبقى
على قيد الحياة لِفَتْرة على الصدقات والتَبرُّعات، نَحْصلُ
على وظائف في صناعة البراميل، نُكَثِّفُ امتداد نوْتة غنائية
لنَبْني عليها صدى.
هنا فَكَكْنا المُخَيّم؛ كان أمْراً من أكْبَرِنا، أو من عَوْسَج. لقد وَضَع
الماء في الغلّاية، أرْسَل لنا حَكَّة والوسائل التي نَخْدِشها بها،
أُحْفورات في هيئة هدايا حَفْلة. ثم قَفَز مُتَبَلِّد الرأس في المحيط المطلي
بالذهب، وَهْم بعد كل شيء. تَسرَّبتْ الدموع من الدُمْية. كان الأمر كما
لو أننا اخترنا هذا المسار في رحلة مختلفة، وكأننا ننتظر غرائزنا
في البرية التي تَصُمُّ الآذان حتى تَلْحَقَ بالركب، أمَل طويل الساقين.6
مَرّات عديدة من شَطْف المرحاض ستعيدها لاحقاً وستعيدها
إلى العَرَّاف الميانيكي، تُقَدَّم إلى قيصر، وتتوقّع شُكراً بخيلا،
في مكان ما بين الضَحِك والذَم. لكن كم هو غريبُ الطرافةِ المُحرِّكُ
نصف الدائري وزخارفه: عالَم مُحَدِّق، مرآةُ مَرَح، شَرَك
أغصان بدِبْق الليمون، بَهْرَجة، ذهب زائف، مِصْيدة فينوس،7
كفوف مَخْملية، رامبرانت وماعِزه. في زيارة العودة8
لم يتم استقبالنا، مُهلة السماح انتهتْ صلاحيتها.9
الكتابة بالصور هي أيضاً وَهْم. منذ اليوم الأول أسَأتَ استخدامها.10
نتنفَّس عِطْر الانْشِقاق مُسْتندين على مجاذيفنا، أوقَفْنا المفاوضات،
اسْتَدْعينا السفراء، الصَدْع داخل طبقة الإسْمنت.
في الوقت الحالي، فإن الجَيْب المتنازع عليه هو لك،
لكن إيقاعه في مكان آخر.
هوامش:
- ميغان أوروك. كتيب التعليمات: كيف تقرأ جون آشبيري. ترجمة زاهر السالمي. ضفّة ثالثة/العربي الجديد، 11 يونيو 2018
- تم الاطلاع على المصدر في 12/12/2019
- تم الاطلاع على المصدر في 12/12/2019
- زاهر السالمي: مدخل لقراءة قصيدة «بورتريه شخصي في مرآة محدبة» للشاعر الأمريكي جون آشبيري. مجلة قناص، يناير 2022.
- عَرَّاف ميانيكي (mechanical oracle)، كلمة oracle: إسم تجاري لقاعدة بيانات؛ الموحى؛ الوحي، المشاور الحكيم أو الموثوق؛ جواب حكيم او موثوق؛ عرّاف؛ عرّافة؛ وسيط الوحي: كاهن (عند الإغريق). تم الاطلاع على المصدر في 14/12/2019
- أمَل طويل الساقين: leggy hope.
- شَرَك أغصان بدِبْق الليمون: جاءت في القصيدة الأصل في كلمتين (lime twigs). شَرَك لصيد الطيور مصنوع من مادة لاصقة -دِبْق- مستخرجة من شجر الليمون، ومغطّاة بالأغصان. وهي كلمة إنجليزية غير شائعة، تعود إلى القرن الخامس عشر. تم الاطلاع على المصدر في 14/12/2019
- رامبرانت (Rembrandt Harmensz: 1606 – 1669): رسام هولندي. ربما يحيل الشاعر هنا إلى لوحة شهيرة لرامبرانت: (Tobit and Anna with the Goat -1626). يمكن الاطلاع على اللوحة على الرابط.
- مُهلة سماح: (grace period). مهلة سماح بعض القروض طويلة الأجل والتي تسدد أقساطاً تنص اتفاقياتها على أن القسط الأول لا يدفع إلا بعد مرور مدة من توقيع الاتفاقية تعرف بمهلة السماح. تم الاطلاع على المصدر في 14/12/2019
- الكتابة بالصور: pictograph.