Site icon منصة قنّاص الثقافية

حوار جون أشبيري: كيف تكون شاعراً صَعْبا | ترجمة زاهر السالمي

جون أشبيري وأعضاء مدرسة نيويورك

حوار مع الشاعر الأمريكي جون أشبيري، أجراه ريتشارد كوستيلانز (Richard Kostelanetz) ، جريدة النيويورك تايمز، مايو، 23، 1976. وقد سبق أن نُشرتْ ترجمة هذا الحوار في مجلة نزوى؛ العدد 97، فبراير 2019.

مقدمة

لا أظن أن شعري يأتي من لا مكان. إنه امتداد لتقاليد مُعينة …

جون أَشبيري شاعر غني عن التعريف، وهذا الحوار يعرفنا عليه أكثر، ذاهباً إلى تفاصيلٍ حياتية، ومراحل عُمريّة وأدبية، لم تتوفر بسهولة عنه، خاصة للقارئ العربي. فقد غاب أشبيري عن المكتبة العربية لعقود، ومأخراً جداً فقط بدأ الاهتمام بترجمته1. ورغم أن هذا الحوار قديم، يعود إلى 1976، إلا أن أهميته لم تزل. إنه العام الذي حصل فيه أَشبيري على جوائز (التاج الثلاثي) للأدب الأمريكي الحديث، والتي أدخلته في قائمة الآثار الأدبية الأمريكية المعتمدة، بعد نشر قصيدته الأشهر (بورتريه شخصي في مرآة محدبة)، وهي جائزة بوليتزر، وجائزة الكتاب الوطني، وجائزة الدائرة الوطنية لنقاد الكتب.

سنجد من خلال السطور القادمة أن المُحاوِر مُلمٌّ بعمق هذه التجربة الشعرية الفذّة، وجايل مراحل تطورها ونظرة النقد الأمريكي لها. كذلك عنوان الحوار الذي اختاره ريتشارد كوستيلانز: كيف تكون شاعرا صعبا! إنه مدخل حذق لحوار مع شاعر يُوصف بأنه صعب، لكنه وقبل شهور فاز بالتاج الثلاثي للأدب الأمريكي، ومجموعته الشعرية (بورتريه شخصي في مرآة محدبة) تصدرتْ مبيعات الكتب ذلك العام. أيْ أنه لم يكن مُقدّراً فقط من النخبة الثقافية، بل أيضا أن جمهوره عريض. عنوان الحوار كما سنلاحظ كان مُرْتكَزاً يُناقِش عبره جدلية تاريخية في الشعر، الشعر المباشر، الشعر المخاتل، اللغة…!

عزيزي القارئ؛ في هذا الحوار، سَتَتكشَّفُ بعضٌ من تقنيات أَشبيري اللغوية وثيماتها، والمعاناة نحو التجديد بانكساراتها الحادَّة وغُرْبتِها، لشاعر يُعتبر الأهم إبداعياً في تمثيل ما بعد الحداثة الشعرية.

الحوار

«ما أحبه في الموسيقى هو إمكانياتها في إقناعٍ جَدَلي، مَحمول عبرها وبنجاح حتى النهاية، رغم أن شروط هذا الجدل تظل غير مُعَرّفة مقياسياً…. أحب أن أفعل هذا مع الشعر» – جون أَشْبيري في تصريح له عام 1964.

شِعْر جون أشبيري بالغ الصعوبة، إن لم يكن في أغلب الأحيان غامضا. إنه لا (يشتغل) أو (يُعَبّر) مثلما يفعل الشعر التقليدي أو حتى الشعر الأكثر مُعاصَرة. إنه بالكاد يشبه شعر ألانغينسبرغ، أو عزرا باوند، أو سيلفيا بلاث، أو رود ماكوين. قصيدته الرئيسية في أحدث مجموعاته الشعرية (بورتريه شخصي في مرآة مُحدبة) تُفْتَتحُ بهذه السطور:

« كما أنجزها بارميجيانينو، اليد اليمنى أكبرُ

من الرأس، تدفع الناظرَ ثم انحراف سهل للبعيد،

كما لو أنها تَحْمي ما تُعْلن عنه.

بعض الألواح الزجاجية المُرصَّصة، عوارض قديمة،

فِراء، موسْلين مَطْوي، خاتم مُرجان، تلتقي معاً

في حَركة تَسْنُدُ الوجه، الذي يسبح مقترباً

ومُبتعداً مثل اليد ما عدا أنه في استرخاء».

ومع ذلك؛ اختير آخر كتاب له لأكبر جائزة من حلقة نُقاد الكتاب الوطني المُنشأة حديثا. ثم في أبريل؛ فاز بجائزة الكتَاب الوطني، وفي أوائل هذا الشهر –مايو- فاز الكتاب بجائزة البوليترز لعام 1976.

السطور الشعرية التي في الأعلى، مثلما في الأشعار الأخرى لـ أشبيري، ماكرة، تلميحية، غير محددة، وربما مُلْغِزة. يوضح العنوان موضوع القصيدة؛ تجربة النظر إلى النفْس من منظور مُشوَّه عبر مرآة مُحدبة. لكن هل سيكون القارئ حصيفاً ليدرك أن بارميجيانينو كان رسّاما إيطاليا من القرن السادس عشر، والذي اشتُهر بلوحته التي رسم فيها نفسه ناظراً إلى مرآة مُحدبة! في فقرات تالية من هذه القصيدة، يجد القارئ انتقالات سريعة من موضوع إلى آخر، ومن مشاهدات عامة إلى استعادة ذكريات شخصية، والتي طالما ميزت أعمال أشبيري. بالتأكيد يمكن تعريف تقنيته بما ليس فيها؛ إنها غير مألوفة، غير تقريرية، غير مُقفّاة، غير عاطفية، وغير سهلة المنال. مثلما هي شخصية الشاعر نفْسه؛ متواضع، دقيق، تجريبي، سريع التأثر، ظريف، دَمِث، واهن، جذّاب. في الأول تجده ودودا، لكنه في النهاية مُلتبس. لديه المئات من الأصدقاء، لكن القلّة منهم من يتذكر أنه خاض حواراً مطولاً معه.

أشبيري ليس مختلفاً عن الشعراء الآخرين الذين هم في عمره ومكانته، يُدَرِّس كبروفيسور للإنجليزية في كلية بروكلين، حيث يدير حلقة دراسية  (مدخلاً للشعر) للطلبة الجامعيين، وحلقة عن الكتابة لطلبة الدراسات العليا، بالإضافة إلى الإشراف على عدد من البحوث. حصته الدراسية لا تجري في صف تقليدي، بل في قاعة جانبية، بلا نوافذ، ذات أرائك بنية واطئة مع ضجيج أجهزة التهوية. يَظهر أشبيري بطول ستة أقدام وجسد ممشوق، شعره بني قليل الشيب في قَصّة جميلة، عيون زرقاء رقيقة، وشنب مُتْرف بني داكن. وجهه المليح محدد بأنف طويلة مُتَمايِزة. باستثناء نظّارته الجديدة، يظهر تقريباً كما عرفتُه منذ اثنتي عشر سنة. يَخرج كلامه خافتاً من الأنف بلهجة نيويورك الغربية. وضحكته سهلة مُعْدية، بانفراجة من أسنانه الأمامية.

مؤخرا؛ في إحدى الظهيرات، التقينا في الكلية.

كان قد راجع القصائد التي سَلّمها له طُلّابه في الحصة السابقة، وصَوّر نُسخاً من القصائد التي رغب في مناقشتها معهم ووزعها عليهم. بعد أن أنتهى أحد الطلبة من قراءته الجهرية لقصيدته، بدأ الصف في مناقشتها. هَمَس لي أشبيري: «أحاول أن لا أبدأ في الحديث حين نناقش القصائد». وحتى يوقفهم عن الكلام، وضع نظارته الطبية ليبدأ في النقاش. كانت ملاحظاته تميل عموماً إلى السخاء، لكنها نقدية في التفصيلات. تكلمَ بإيجاز، جُمل بسيطة، وعبارات فرنسية بشكل عَرَضي هي حذلقته الوحيدة. عندما لا يدخن سيجارته الأوروبية (جيتانز)، يمرر أصابعه فوق شعره بشكل متكرر أو يحك مؤخرة رأسه. يتبين أن ما يُععَلّمه هو قراءة الشعر بشكل مفرط في الحساسية، لتصيرَ مُرهفاً في استقبال المحاسن التي تُفَرق بين الشعر الراقي والشعر البسيط سهل المضغ. إن السبب الأساسي، على أغلب الظن، الذي يُحفِّز الطلبة للانضمام إلى الحلقة الدراسية التي يديرها أشبيري، هو هذا النوع من التجربة، هذا النوع من الدراسة المُحترفة، التي يندر وجودها في مكان آخر.  

بعد انتهاء الصف، ذهبنا إلى العشاء في أحد مطاعم البلدة الغربية المفضل لديه، مطعم (داف) في شارع كريستوفر. وأنا في طريقي إلى منهاتن عبر مترو الأنفاق، كنت أقرأ عنه، وعَلِمتُ أنه لا يختلف عن غيره من الشعراء البارزين، أقصد أنه كان شاعرا معروفا. فقد جابَ البلاد بشكل جيد. في الربيع الفائت، دُعي لقراءات شعرية في شيكاغو، وتكساس (أوستن)، وبارنارد، وويليمز، وأمهرست، وييل، وويلسلي. بعدها وجدت في مكتبتي المنزلية أن جزءً من أعماله منشور في معظم الأنطولوجيات الشاملة للشعر الأمريكي الحديث، واسمه يظهر في كل المواد المنشورة عن التاريخ الأدبي المعاصر. رغم أن المؤرخين والأنطولوجيين لم يتمكنوا إلى الآن من استيعاب شعره الصعب، لكنهم التزموا بالاعتراف به (حتى أن بعضهم أخطأ في تهجئة اسمه). فاز بعدد كبير من الجوائز في الخمس عشرة سنة الماضية. يمكن أن يُساء فهم شعره، لكن المؤلف لم يَعُد مُتجاهَلاً أو مُهمَّشا.

ولد جون لورنس أشبيري في يوليو 1927. ترعرع في نيويورك، سوداس (Sodus)، كابن وحيد، حيث ملك والداه مزرعة فواكه، يزرعون التفاح، والكرز، والدرّاق، والبرقوق. قضى كل صيف هناك حتى العشرين من عمره، يجمع الدرّاق أو يعمل في مصنع تعليب الأطعمة المجاور للمزرعة (هكذا تجنب الأعمال الشاقة في العراء). كانت أمه مُدرسة لمادة الأحياء للمستوى الثانوي قبل زواجها.

جَدّه لأمه؛ هينري لورنس، كان رئيس قسم الفيزياء في جامعة روشستر. يتذكر أشبيري طفولته قائلا: «كنت أقضي معه معظم عطلات نهاية الأسبوع. إنه الشخص المُتَبحّر علميا في العائلة. وكانت لديه كتب كثيرة، استمتعت بقراءتها (مجموعات متكاملة من الرواية والشعر الفيكتوري)، كنتُ شديد الإعجاب به. قيل أني أشبهه كثيرا، وفي مراهقتي، كنت أبدو مثله عندما كان في نفس العمر».

اهتمام أشبيري في بداياته كان بالفنون البصرية أكثر من الكتابة، لذلك درس الصغير جون الرسم مرّة في الأسبوع. أدرك والداه الحدود الضيقة للتعليم في مدرسة ريفية، فأرسلاه للدراسة التحضيرية إلى أكاديمية ديرفيلد (Deerfield)، عن طريق منحة دراسية تبرع بها مجهول من جوار بلدة سوداس. اختار هارفرد للدراسة الجامعية. قال لي ونحن نتعشى: «لطالما كنتُ مُنجذباً إلى المدن الكبيرة، إلى العواصم، وذلك لأني عِشتُ طفولة وحيدة ومعزولة. كانت بوستن أول هذه المدن».

كَجامعي مبتدئ، أخذ فصلاً في الكتابة الإبداعية تحت إشراف ثيودور سبنسر (شاعر وأكاديمي أمريكي 1902-1949). يقول أشبيري: «أتذكر مرّة أن سبنسر قرأ إحدى قصائدي في الصف ثم عزلها للمناقشة، كان مُرعِباً أن أستمع إلى نقد شاعر مشهور». حاول في سنته الجامعية الأولى الانضمام إلى عضوية المجلة الأدبية لطلبة البكالريوس. ناصر ترشحه للعضوية أحد زملائه الأقدم منه، «كينيث كوش» الذي صار صديقاً مُقرَّبا منه، ولاحقاً شاعراً ذا شأن. تخصص أشبيري في الأدب الإنجليزي، وقدم بحث تخرجه لنيل الامتياز عن الشاعر أودن (W. H. Auden)، ليتخرج عام 1949. في خريف ذلك العام، انضم إلى جامعة كولومبيا للدراسات العليا، مُركزاً على الأدب الحديث، مُنهياً رسالة الماجستير ببحث عن الروائي الإنجليزي هنري جرين.

تعرّف أشبيري لأول مرّة بـ فرانك اوهارا خلال الشهر الأخير من تواجده في جامعة هارفرد. الشاعر فرانك اوهارا؛ الذي أخذ رسالة الماجستير من جامعة ميشيجان، ثم انتقل إلى مانهاتن عام 1951، يتذكره أشبيري قائلا: «فرانك اوهارا عَرّفني على الموسيقى المعاصرة، كان هذا قبل أن يبدأ تسجيل هذه الموسيقى بوقت طويل. كان يعزفها لي على البيانو. وكان أيضاً يقرأ بيكيت (Beckett) وجين رايز (Jean Rhys) وفلان اوبريان (Flann O’Brien)، قبل أن يسمع بهم أحد». توقف عن الأكل وأتَمّ قائلاً: «كنا حينها شباباً طموحين. الرسم الأمريكي كان يبدو الفن الأكثر إثارة، بينما الشعر الأمريكي حينها كان تقليدياً جدا. لم يكن هناك شعر حديث بمعنى ما كان عليه الرسم الحديث. لذلك كنا نُحفّز بعضنا، وتحفزنا الأفكار التي كنا نشاهدها في الأعمال التجريبية للآخرين. جُلّ تأثري بأعمال روثكو (Mark Rothko) وبولوك (Jackson Pollock) جاء عبر فرانك». بعد وفاة فرانك أوهارا عام 1971، كتب أشبيري مقدمة حميمية لكتاب «فرانك أوهارا ؛ الأعمال الكاملة».

انتقلنا بعد العشاء إلى شقته في الجانب السفلي من غرب البلدة. كان واضحاً أنه مكان سُكنى رجل مُثقف، بأثاثه الأثري، السجّاد الناعم، الخزف الصيني، المصابيح الفارسية البديعة، نباتات، ورود، أرفف بخطافات، وطاولة زجاجية عامرة بالمجلات الأدبية، بالإضافة إلى مطبوعات ولوحات لأصدقائه: لاري ريفرز، جين فريلشر، جيينهيليون، ر.ب. كيتاج، جو برينارد، آن دان، ويليم دي كونينج. سكب أشبيري لنفسه كأساً من السكوتش، وقعد على أريكته المفضلة، مُستأنفاً الحديث: «دخلتُ في بداية الخمسينات مرحلة من الاكتئاب الشديد والشك. لم أتمكن من الكتابة لعامين. لا أعلم لماذا! لقد تزامنتْ تلك المرحلة مع بدايات الحرب الكورية، ومع قضية روزنبرغو المكارثية. رغم أني لم أكن شخصاً مُتَحزّباً سياسيا، لكن كان من المستحيل أن تكون سعيداً في ذلك المناخ. كان الحضيض».

«تأرجحتُ خارجاً من تلك الحالة عن طريق رفقتي لفرانك أوهارا، حين خرجنا تلك الليلة – أظنه كان يوم رأس السنة، 1952- إلى حفلة موسيقية أقامها ديفيد تيودور، عازفأً مُنفرداً على البيانو مقطوعة جون كيج (موسيقى التغيّرات). كانت المقطوعة متواليةً من الأوتار المتنافرة، معظمها صاخب، مع إيقاع غير مُنتظم. استمرّت الحفلة قرابة الساعة. وتبدو أنها قابلة للتمدد إلى ما لا نهاية. بعد سماعي لتلك الموسيقى شعرت بانتعاش عميق. بعدها بوقت قصير بدأتُ مُجَدَّداً بالكتابة. شعرت أني قادر لأن أكون مُتفرداً في فني مثلما هو جون كيج متفرد في فنه». 

عندما التقيته لأجل هذا الحوار؛ كان أشبيري يعمل من التاسعة صباحاً وحتى الخامسة مساء في قسم الدعاية والنشر التابع لصحيفة جامعة أوكسفورد، مُجَهِزاً الإصدارات للمطبعة وأوصاف أغلفة الكتب الجديدة. ويقوم بالكتابة الجادة يومي السبت والأحد فقط. هكذا يقول: «ما زلتُ شاعر عطلات نهاية الأسبوع. سيكون بلا مغْزى أن يكتب المرء شعراً بشكل يومي».

قصائده نُشرت في مجلات صغيرة منذ نهايات عقد الأربعينيات. تشارك في 1952 جائزة (Y.M.H.A Discovery) مع كل من الشعراء: هارفيشابيرو (في المرحلة الحالية يرأس تحرير ملحق «بوك ريفيو» التابع لجريدة التايمز)، وجراي بار، وجون برنارد مايرز. ثم أصدر في كُتيّب جيْب عام 1953 مجموعته الشعرية (توراندوت وقصائد أخرى)، عن طريق دار نشر Tibor de Nagy Gallery. اليوم يُباع هذا الكُتيب الصغير للمجموعة الشعرية بما يقارب 350 دولارا للنسخة الواحدة.

أشبيري

لا تكمن الصعوبة في شعري لغرض الصعوبة لذاتها، إنما المقصود أن تعكس صعوبة الحياة، والتغير المستمر لحياة الانسان، والتعديلات والتسويات التي نجريها في حياتنا مع كل دقيقة ولحظة بلحظة. الصعوبة في الحياة مع عبورنا للزمن، وكلاهما – الحياة والعبور ـ صعب وتلقائي، بما أننا نَتَدبّر أمر الاثنين.

سَلّم أشبيري في عام 1955 مخطوطة كتاب لمسابقة ييل للشعراء، التي رفضها القائمون على المسابقة في المراجعة التمهيدية. في ذلك العام حُجبت الجائزة نظراً لضعف المخطوطات المُقدمة. لكن الشاعر أودن (ًW.H.Auden) الذي كان المُحكم الرئيسي، والذي لم يطّلع على مخطوطة أشبيري لرفضها من قبل لجنة المراجعة التمهيدية، عاد بعد عام واختارها للفوز بالجائزة. هكذا خرجت المجموعة الشعرية (بعض أشجار) في 1956. لكن المراجعات النقدية لتلك المجموعة كانت سلبية ومُتجاهِلة. والاعتراف بشعر أشبيري لن يأتي سريعا.

على نحو أدق، كان شعر أشبيري في ذلك الوقت جذّاباً في تقنيته ظاهريا، إشكالياً في بُنيته، مُربكاً في بيانه، غير محدد في المنظور، وغير مترابط حين تقرأه. فيما بعد، كانت عناوين قصائده تميل إلى التصريح أكثر من المحتوى. إحدى قصائده من تلك المرحلة عنوانها (صورة الضئيل ج.أ. من منظور أزهار/ The Picture of Little J.A. in a Prospective of Flowers) تُفتتح الفقرة الثانية من القصيدة هكذا:

«ذاكرة صِرفة هو الخير حتى الآن

أو تَذكّرُ مشاهدٍ حديثةٍ للشرّ

حتى أنّ هذه الحيوات، أطفال،

التي يمكن أن تَعْبرها حتى تُبارَكَ،

كل واحدة تبتكرُ فضيلتها بكل عدل »2

جاءت التأثيرات الأساسية لتجربته الشعرية المبكرة – كما اعترف لي – من: أودن (اشتغاله على الاختصارات وجعلها صلبة شعريا)، ولاس ستيفنز (شاعري المفضل)، ماريان موور (ابتكاراتها)، وليم كارلوس وليم (نصه المفتوح ولغته البسيطة)، اليزابيث بيشوب (لغتها غير المترابطة). يقول أشبيري: «لا أظن أن شعري يأتي من لا مكان. إنه امتداد لتقاليد مُعينة».

عندما سَئِم من نيويورك؛ تقدم في عام 1959 إلى منحة تأخذه إلى فرنسا (Fullbright grant)، والتي استفاد منها قبله الشاعر كينيث كوشز. في الأول رُفض طلبه، لكنه قُبل في الصيف التالي، بعد أن تخلى عنها الفائز السابق بالمنحة. عُيّن أولاً في جامعة مونبولييه. يقول أشبيري عن تلك التجربة: «كانت رحلتي الأولى إلى فرنسا. شعرت بالوحدة والحرمان من الحديث والحوار الأمريكي. حينها لم أكن متمكناً من الفرنسية، لذلك لم أسمع شيئًا في الشارع يُحركني». في الفصل التالي نُقل إلى باريس، ثالث العواصم الكبيرة في حياته، حيث عاش عقد الستينيات.

مُحْبطاً من ردّة الفعل تجاه (بعض أشجار)، تخوف أشبيري من عدم قبول أيّ من مجموعاته الشعرية للنشر بتاتا، فتظل حياته المُحترفة كشاعر محصورة كلية في مشاركات مُشتتة بين المُجلات. يقول مُعترفاً: «شعرت أيضاً أني وصلت إلى النهاية من تلك المرحلة. كان الوقت قد حان لخلط أوراق اللعب».  

المصدر التالي للإلهام كانت قطعة أخرى من الموسيقى المعاصرة، (أوماجيو جويس Omagio a Joyce)، للإيطالي لوسيانوبيريو (Luciano Berio) عام 1959. يقول أشبيري: «أدخلتني إلى نوع من الشعر المتشظي. كذلك أخذت الفكرة من أنتون ويهرن (Anton Wehern)، لعزل كلمة مُحددة، مثلما تعزل نغمة موسيقية محددة، لتشعر بها بطريقة جديدة». كان لهذا النوع من الولع الذي جعل من اكتشافاته تختلف عن غيره من الكُتاب – ولاختياره تأثيرات الموسيقى الطليعية – ما جعل من شعره مُتفردا.

قصيدته (أوروبا) التي نشرها في 1960، كانت إحدى نتائج هذا التغيير المتعمد، والتي أعْتَبِرُها إحدى أعظم قصائده في السنوات الأخيرة. انتشار غير مترابط بالمعنى الكلاسيكي، يقول أشبيري: «أتذكر أني كنتُ أكتبها في حالة من الحيرة في ما كنت أريد كتابته. كنت أستغرق في كتابة صفحات دون أن أدري صراحة ما كنت أكتبه». مَسحَ شاربه ثم أكمل: «كنتُ أفتح مجلة أمريكية مثل (Esquire)، آخذ عبارة منها، ثم أكمل عليها من عندي. عندما تفرغ مني الأفكار، أعود إلى المجلة وأنزع منها عبارة أخرى. كانت تجريبية خالصة. حقيقةً لم أكن أعتقد أن هذا سيكون شعرا!» مقاطع كاملة من قصيدة (أوروبا) مأخوذة من كتاب إنجليزي للأطفال: زبرجد الطائرة ذات الجناحين (Beryl of the Biplane) للكاتب وليم ليكويكس (William Le Queux)، وجد أشبيري الكتاب في كشك كتب فوق رصيف باريسي. وكما قال تي.اس.إليوت: «الشعراء غير الناضجين يقتبسون، الشعراء الناضجون يسرقون. هناك شعراء يُشوهون ما يأخذونه، والشعراء الجيدون يُحسنون ما يأخذون، أو يجعلون منه شيئًا مُختلفا».

المقطع الشعري الثاني والخمسون من قصيدة أوروبا بأكمله يقول:

«الحب الحقيقي ينتظر وردة

قذارة

أنتَ قذارة

تدفعُ

المباني شجرة

احتجاج غير مُقرر هذا الكوكب»3

للتأكيد؛ هذا شعر متشظٍّ وغير مترابط. إلا أن، وحرفيا، لرفضه استعمال ركائز الترابط الشعرية، فإن قصيدة (أوروبا) يمكن أن توصف بأنها – غير مترابطة، مثلها مثل موسيقى مُعينة في بدايات القرن العشرين، كانت تسمى (حُرّة) أو موسيقى بدون مفتاح موسيقي – عديمة النغميّة (atonal music). هكذا خلق أشبيري عملاً أصيلاً يبدو مُلتبساً تماماً من الوهلة الأولى، لكنه يصير مألوفاً بالتواصل المستمر معه. يُفسر قائلا: «لم أكن حينها أرغب في كتابة الشعر الذي يأتيني بشكل طبيعي»، أكمل في سياق سلبي: «ونجحت في كتابة شعر غير الذي لم أكن أرغب في كتابته، وأيضاً لم يكن الشعر الذي رغبت في كتابته. كانت فترة من اختبار أفكار عن الشعر. كما لو أني كنت أعالج كل فكرة بشكل منفصل، حتى أصل في الأخير إلى انتظامها مجتمعة. لم أكن أعرف ما كنت أريد فعله، لكني عرفت ما الذي كنت لا أريد فعله».

هذا الشعر الأكثر تجريبية، يمثل المرحلة الثانية البيّنة في تطور تقنية أشبيري، انساب هذا التطور في مجموعته الشعرية الثانية (قَسَمُ ملعب التنس)، والتي قَبلتْ نشرها في عام 1962 مطبعة جامعة ويلسيان Wesleyan University Press))، بشكل فاجأ أشبيري. المراجعات النقدية لم تكن أفضل من ذي قبل. كتب جون سيمون مازحاً في (Hudson Review): «أتقن السيد أشبيري شعره بحيث لا ينحرف أبداً إلى خانة من الفهم، منطقياً، شبقياً، أو كجملة شعرية». لم يكن سهلاً أن تكون شاعراً صعباً في أمريكا.

توفي أخوه الأصغر وجون في الثالثة عشرة. وفي العام 1965؛ توفي فجأة والده. مما أجبره للعودة إلى البيت. يقول: «كذلك؛ شعرتُ بأن عشر سنوات كانت كافية للتغرب». وكشاعر غير معروف قبل عقد من الزمان، عاد كفاتح منتصر، بمعنى من المعاني. في غيابه كان ما زال حاضراً في نيويورك. يقول تاجر الفن، جل كورنبلي (Jill Kornblee): «الجميع يتحدث عنه كما لو أنه كان معهم في الغرفة». في صيف 1963، كانت القاعة مكتظة لسماع قراءته في (LivingTheatre). بروفيسور اللغة الإنجليزية في كلية كولومبيا، كينيث كوش، كان قد عرّف الطلبة على شعره. أحد هؤلاء الطلبة؛ جوناثان كوت كتب أول مقالة نقدية طويلة بتبصر واحترام عن شعر أشبيري، كجزء من أنطولوجيا نقدية، راجعْتُها وحررتها بنفسي، بعنوان: الفنون الأمريكية الجديدة. جوناثان عرّف أشبيري بأنه «الأكثر راديكالية في الشعر الأمريكي المعاصر». مَجْدُه في أمريكا كان قد نمى في غيابه (أو نتيجة غيابه). هكذا أصبح شعره حالة جدلية. اختبار للمصداقية، ويبدو قبل ما يقارب العقد من الزمان، كفاصل بين الذائقة التقدمية والذائقة الرجعية.

قال لي أشبيري في اليوم التالي على طاولة العشاء في أحد المطاعم الإيطالية: «كانت لدي سُمْعة مُتحققة كشاعر لم تكن موجودة حين غادرت. الشعر ذاته كان قد صار فنّاً مُزدهرا، شكري الكبير لكل من غينسبرغ، وكورسو. قراءة الشباب لأشعارهم لم تكن موجودةً قبل أن أرحل. كان روبرت فروست وحده يقوم بهذا النوع من القراءات. عندما رجعتُ وجدتها عادة مُتأسسة كفعل ثقافي». لاحقاً في ذلك المساء اعترف لي أشبيري قائلا: «حقيقة لا أحبُّ سماع الناس وهم يقرأون شعرهم. لأنه من السهل تشتيتك. تسمع مقطعاً وتفكر: هل خرجت من البيت ناسِياً الفرن مُشتعلا؟. هكذا يكون قد فاتك جزء مهم من القراءة. تأتي موسيقى المعاني عندما ترى/تقرأ القصيدة، وتحصل على تجربة غريبة للقصيدة من هذا الانقطاع، حيث تُقاطعُ تيّار وعيكَ الخاص». هذا أيضاً يصح لشعر أشبيري: عندما يقرأ للجمهور، إلقاءه بلا تنغيم، بالأحرى جامد وغير مُحفّز. خرَسٌ للموسيقى التي تظهر واضحة حين تقرأه في صمت لوحدك.

عندما عاد ليستقر في نيويورك مرة ثانية، عمِل أشبيري كمحرر تنفيذي في (أخبار الفنون)، حيث اشتغل خمسة أيام في الأسبوع لسبع سنين تالية. تخصص في تجهيز الاستطلاعات الإعلامية والنقدية السريعة، حيث فشل الكتّاب المنتدبون في ذلك. صدر كتابه التالي البارز (أنهرٌ وجبال) عام 1966، مُجسّداً خطوة أبعد عن عمله المفصلي (قَسَم ملعب التنس). يتحدثُ  أشبيري عن (الساعة المائية Clepsydra) آخر قصائده الباريسية قائلا: «شعرتُ لأول مرة بالوحدة في قصيدة محددة. بعد مرحلتي التحليلية، أردت الدخول إلى مرحلة تخليقية. أردت كتابة نوع من الشعر يتجاوز لغتي المُجزَّأة. لن يكون جميلا –قلت لنفسي- أن أكتب قصيدة طويلة تصبح جدلاً مُطولا، بل الأفضل أن أكتب قصيدة تحمل جمال كلمة واحدة مُحددة. كانت (الساعة المائية) تأمّلا فعليّاً في كيفية الإحساس بالوقت وهو يمر. العنوان يعني ساعة مائية كما كانت تستعمل في اليونان القديمة والصين. هناك صور كثيرة للماء في هذه القصيدة. كلها قطعة واحدة، مثل تيّار».

(أنهرٌ وجبال) جسّد أيضاً انعطافة نقدية في تقبل شعر أشبيري. المراجعات النقدية كانت دليلاً على الاستحسان. في القصيدة الأطول من هذا الكتاب (المتزلجون)، أراد أشبيري أن يكتب قصيدة «يضع داخلها كل شيء، خلافاً لقصيدة (أوروبا) التي ترك خارجها أشياءً»، حتى يصل إلى نسخته الخاصة. قرأ لي أشبيري فقرة تمثل نموذجاً لشعره، بخصائصه غير التقريرية، كما قدّمها لي: القصيدة تتحدث عن ذاتها:

«هذا، إذن، جزء من موضوع هذه القصيدة

التي هي على شكل ثلج يتساقط:

لأن هذه، الندفة المُنفردة ليست جوهرية لأهمية الكُلّ

حتى تصير بديهةً بِقدْرٍ ما. أهميتها هذه تُستدعى

مرّة أخرى في السؤال، ليتم تجاهلها لاحقا، مرّة بعد

مرّة بهذه الطريقة.

بالتالي، لا أهمية الندفة المنفردة،

ولا أهمية الانطباع الكلي للعاصفة، إن كان لها أيّ انطباع، هو ما هو عليه،

لكن إيقاع سلسلة من القفزات المُكررة، من المُجرّد إلى المادي ورجوعاً

إلى المُجرّد المخفف قليلا».

كان (مصدره) هذه المرة كتاب أطفال آخر: ثلاثمائة شيء يمكن لولد ذكي فعلها (1911، انجلترا)، وأيضا وجده في كشك كتب على رصيف باريسي. هنا كما في مكان آخر، أقرَّ أشبيري بمرجع قصائده، ولو أن عناوينها كثيراً ما تُقتبس من مؤلفين آخرين، كمثل (التمدن وسوءاته) لـ سيغموند فرويد، و (المهمة) لـ وليم كوبر، أو حتى من الفنون البصرية، كما شرح أشبيري: «العنوان نقطة انطلاق، باب للبدأ في قصيدة، يمكن أن لا يكون موضوع القصيدة، لكنه مَنْفَذ». كلما طال حواري مع أشبيري، يتضح أن مُحفزات قصائده وإلهامه يأتي من كتب أخرى، ثم من الموسيقى، وأحياناً من الفنون البصرية. تجارب حياته غير الثقافية لماماً ما تظهر في شعره.

النقلة التالية في مهنته الإبداعية كانت صَيْحة عنْونها بتواضع بـ (ثلاث قصائد) عام 1972. خطوة جذرية ومثيرة لتأليفها كاملة بالنثر (Prose Poetry). يقول أشبيري: «عُدتُ لشيء يشبه (الساعة المائية)، قصيدة طويلة لكنها مترابطة كجديلة واحدة. استخدمت النثر لأني طالما حاولت التفكير في أشياء لم أقم بها مُسْبقا، وشعر النثر حتى ذلك الحين، كما عند بودلير أو رامبو، كان يبدو مُنحرفاً قليلاً وغير صائب. إنه نوع من أصوات الوعي الذاتي الشعرية، وهي جودة في الشعر لم أكن أُحبّذها. كنتُ أتساءل: ماذا عن كتابة شعر نثري حيث تُستثمر بشاعة النثر في جسد شعري؟ وذاك كان صعباً فعله، ككل شيء، بالطبع».  

«هناك قدْر كبير من النثر في (ثلاث قصائد)، وهو مُنَمّق، ومُرهِق. شعر الوعي الذاتي الذي كنت أحاول الهروب منه. رغبتُ في استخدام الأشياء غير الشعرية في شيء يمكن أن أعْتبره قصيدة، وشعرتُ أني نجحتُ». من ضمن مراجعه، كما ذكر: (البحر والمرآة) للشاعر الأمريكي أودن، ورواية الإيطالي جيورجيو دي شيريكو (Hebdomeros)الصادرة في 1929، والتي ترجمها أشبيري جُزْئيا، حيث يصفها: «البطل يلتقي بناس هم أكثر غموضاً منه»4.

قُلتُ له مُخاطرا: واجهتُ صعوبة بالغة في قراءة (ثلاث قصائد)، رغم فهمي أنها تأملية أكثر منها جدلية، وجدتها منيعة أكثر من أشعارك الأخرى. ألم يَقُل أقرب النقّاد إليك مَرة – هارولد بلوم من ييل – عن فقرة من شعرك النثري: كان صعباً فهم كيف ينتقل أشبيري من نقطة إلى أخرى، أو حتى تحديد إذا ما كانت هناك نقاط أصلا؟.

جاوبني أشبيري: «حسناً؛ أنت لستً وحدَك. يبدو لي أن معظم من قرأها شَعرَ بما شعرتَ به إلى حَدّ ما. أنا مهتم بالتواصل، لكن أشعر أني لا أُوصل شيئًا حين أقول ما يعرفه القارئ مُسبقاً. إنها إهانة مُبطّنة للقارئ. ثلاث قصائد هي المفضلة لدي». سألته؛ لماذا؟ «إنها بَوْحي المُسهب بالطريقة التي أفكر بها دون غرائبية، وهناك فقرات في هذه القصائد أحبها جدا». في رأيي؛ ومُنذ (ثلاث قصائد)، صار شعره أكثر إسهاباً مقارنة بما قبله، قابلاً جداً للتقليد، ولذلك أقل فرادة.

وجد أشبيري نفسه في ضائقة دون عمل عندما تغير مالك صحيفة أخبار الفن في 1972. ولو أن كتبه الشعرية كانت تُباع بشكل كاف لإصدار طبعات جديدة، لكن لم يُكسبه أيٌّ منها أكثر من 300 دولار في العام كحقوق تأليف. ساعدته المداخيل من أذونات ضمّ أعماله إلى الأنطولوجيات، مع المداخيل من القراءات الشعرية، إنما لم تكن كافية. قال لي مازحا: «لو أن المرء كان شاعرا مشهورا، لاختلف الأمر. لا يزال المرء غير مشهور».

قراءة له في كلية بروكلين جلبتْ له عرض عمل في 1974. اكتشفَ أن التدريس مُتعة، وتوافق مع طلبته جيدا. لأول مرة في حياته، صار مَعْنيّاً بشكل محترف بالشعر، بدلاً من التحرير أو النقد الفني. بالكاد قبل عامه الخمسين، (فَعَلها) أخيراً في أمريكا.

في الخريف الفائت؛ التحق طالب بكلية بروكلين خصيصاً للدراسة عند أشبيري، (جون ياو) وهو خريج كلية بارد 1972. كان جون ياو قد قرأ بتمعّن كتب أشبيري الشعرية، حتى أنه فتّش المكتبات، ومخازن بيع الكتب المُستعملة، بحثاً عن أعماله الشعرية والنثرية غير المُجمعة في إصدار. قال لي ياو: «إن رغبتَ في معرفة أحدهم حقاً، ستكتشف أنه عليك أن تدرس على يده. ليس لأنه سيعلمني سراً، لكنه شخص سأتعلّم منه شيئا».

سَألته؛ كيف سارَ الأمر؟ جاوبني: إنه غير مهتم بالتَبَعية – أن يتحول طُلابه إلى تابعين له – لذلك فهو لا يقلق من فقدان طُلابه. إنه لا يُوجّه، إنما يساعد في اقتراح بدائل، واقتراح كتب للقراءة. بعد الانتهاء من فصله، أشعر بأني خرجت بشيء جديد، وهذا الجديد لا يكون مُحددا، لكن يكفي أن يَهزّني.

خريج آخر، (هينريراسوف) جاء إلى بروكلين لأجل أشبيري، قال لي: لقد تغير شعري بشكل لا يصدق منذ التحقتُ بدرس أشبيري.

كانت حياة أشبيري مشغولة في السنوات الأخيرة. بالإضافة إلى التدريس، كان يقوم بجولات للقراءات الشعرية، ويقضي عدة أسابيع سنوياً مع والدته. صحّح ترجمة لأشعاره إلى الفرنسيةً، ظهرت في باريس العام الفائت، مع تجاوب نقدي مُناسب. أصدر نصاً، معظمه نثري، بطول كتاب بالتعاوم مع (جو برينارد)، عنوانه: مُفَكّرة فيرمونت (The Vermont Notebook). وفي 1975، ساعَدَ صديقه (ديفيد ك. كرماني) لتحرير بيان بمؤلفاته: (جون أشبيري: ببليوغرافيا شاملة)، إرشيف مُستفيض ومُفصّل، بذهول وصل إلى 244 صفحة. هكذا كتب الشاعر في مقدمة الببليوغرافيا: «أنا مُندهش ومرعوب قليلاً لحجم الببليوغرافيا. هل كنتُ حقاً غزير الإنتاج لهذا الحد!».

عمل أيضاً مع (كرماني) لتجميع وتنسيق أشعاره غير المنشورة، والتي تضاهي تقريباً خمسة كُتب من أعماله المنشورة. يُعَلّق أشبيري: «إنْ كان شيء هناك لأقوله عن هذا الأمر، فهو أنها لن تُنشر جميعها، فقد أحرقت منذ بضع سنوات كل أشعاري التي تعود إلى مرحلة دراستي الثانوية».

المشروع الحالي لـ أشبيري هو إنهاء مجموعته الشعرية الجديدة، عنوانها لم يقع عليه الاختيار بعد. سيختار من القصائد التي نشرت في المجلات الإنجليزية والأمريكية. كذلك يعمل على مخطوطة مسرحية يقول عنها: «ستكون طويلة جدا، جدا، ليست كمثل مسرحياتي السابقة، والتي لم أرغب في أن تُمثّل أو أن يعاد طبعها. هذه المسرحية الجديدة ستكون ذات ترابط حُر وغير منتظمة الشكل». مشروعه الآخر هو الترجمة الكاملة لكتابات الرسّام البلجيكي السوريالي رينيه ماغريت (Rene Magritte). وأخيرا؛ يتعاون مع المؤلف الموسيقي إليوت كارتر في عمل صوتي لأجل الأوكسترا.

سألته: ماذا يوجد في المجموعة الجديدة؟. أجابني: «تحدثنا سابقاً عن الإشكاليات التي لم أتناولها في كتابتي من قبل. إحدى هذه الإشكاليات ربما تكون كتابة قصيدة قصيرة». توقفَ قليلا… «لا توجد قيمة جوهرية في كتابة هذا النوع أو ذاك، لكن الأهمية تكون في الجموح. القصيدة القصيرة، هذا هو النوع الحالي لتجاربي». طالما كان أشبيري فضولياً مُحِبّاً للبحث والتجريب. مرة كتب قصائد بالفرنسية، وَصَفَها كالآتي: «رغبت في أن أرى إن كان صوتي سيبدو مختلفا، واستنتجت أنه لم يختلف». كما تعاون مع الشاعر جيمس شويلر (James Schuyler)، في تأليف رواية بديعة، كل واحد منهم كان يكتب فصلاً بالتناوب، يقول عنها أشبيري ناقلاً عن جيمس شويلر: رواية (عُشُّ البلهاء) نوع من الروايات التي لم ولن يقدر على كتابتها أحدنا دون الآخر.

بعد إشعاله سيجارة أخرى، تحدث عن الشعر بشكل عام: «لدي شعور أنه في سريرتي تيار جوفي، إذا ما أحببت، أستطيع الوصول إليه عندما أريد. أرغب بقدر الإمكان، في أن لا يأتيني الشعر بشكل عفوي غير مُخطط له. لكني لا أريد أن يكون تياراً من الوعي. لقد سأِمتُ من الكتابة الأوتوماتيكية على الطريقة السوريالية التقليدية. هناك أكثر من اللاوعي في دخيلة الإنسان. لقد نظّمتُ الأشياء، بحيث حين يظهر هذا التيار، أقوم بتنقيحات سريعة عليه. شعري ذو طبيعة استكشافية. عندما أجلس لأكتب، لا يكون هناك مُخَطط قَبْلي».

«ما يُحفزني هو الشكل غير المنتظم – الكلمات الماكرة والأصوات الشاذّة، كما قال ستيفنز: هذا يؤثر فينا كلما حاولنا أن نقول شيئًا مُهمّا بالنسبة لنا – أكثر من المعنى الذي نقوله في لحظة معينة». اقترحتُ عليه: هل تقصد الباطني واللاواعي؟. أجابني: «ليس فقط الباطني. المرء يقول شيئًا بقصد أن يكون مفهوما، وهذا ليس سهلاً أبدا. التواصل الناقص أو المشوب بالعيوب، ما زال تواصلا. ما يُشجيني ويؤثر فيّ بشكل خاص هو الحوار الدارج بعدم دقته وشذوذه اللغوي. هذه النوعية من التواصل هو ما يُعجبني في الشعر». 

«أظن أني تعلمت الفن من الموسيقى. ما أحبه في الموسيقى هو ذلك الاستدراج والاستمالة التي تأخذ مكانها فينا دون أن نَعي. يمكن للمرء في نهاية سيمفونية أنطون بوكنز أن يقف ويهلل، وآخر يستلم رسالة – من السيمفونية – دون أن يعلم أن هناك رسالة قد قيلت أصلا». أطفأ سيجارته ثم واصل: «التحدثُ في هذا الموضوع يؤلمني، لأني لم أتعود أن أصيغ تعبيراً عن ماهية الشعر. الشعر يتحدث عن ذاته، هذا هو أساس ما يفعله. المزيد من الحديث عن الشعر لا أهمية له بالنسبة لي، إنها رياضة غير عبقرية. إنه من الصعب أن تكون فنّاناً جيداً وأن تملك في ذات الوقت القدرة على التفسير بذكاء عن ماهية فَنّك. في الحقيقة؛ أن أسوأ الفنون هو ما يسهل الحديث عنه، على الأقل هكذا أحبُّ أن أفكر».

أحد تصريحاته القليلة والتي كتبها لمقدمة موسوعة (الشعر المعاصر، 1975) تقول: «لا توجد ثيمة أو موضوع بالمعنى المعتاد، إنما وبالمعنى الواسع جداً الثيمة هي الوعي الفردي الذي يُواجِه أو يُواجَه بعالم من الظواهر الخارجية (externalphenomena). هذا العمل مُعقد جدا، لكني أتمنى أن يكون صورة شفّافة وصلبة للانطباع الذي تركته تلك الظواهر في الوعي. المظهر الخارجي بأدواته ذات الخصائص الرومانسية يتكون من حذوفات، تغير مستمر في النغمة والصوت، الذي هو صوت المؤلف. وجهة نظر، تعطي مفعول الاندفاق». هذا نقد مختصر وبليغ لأعمال شاعر صعب.

يرغب أشبيري في أن يظل شعره غامضا، يقترح تجارب لكنه لا يُحدّدها، مؤكداً تلك التجارب في شعره دون تحديد أو تعريف. وكلمة (غموض)، هي الكلمة المفتاحية في نقده الذاتي الذي يُقَدِّر ويُثَمّن الفن. يتذكر بحماس كيف أن صديقه جين فريلشر (JaneFreilicher) عَرّفه على رسومات ليغر (Fernand Leger): «تبدو الرسومات واضحة، منفتحة ومباشرة، لكن تكتشف غموضها فيما بعد». في الببليوغرافيا التي أعدها كرماني، هناك اعتراف بأن عدة أجزاء من المجموعة الشعرية (المتزلجون) كانت في الأصل ذات عناوين فرعية، والتي أزيلت قبل النشر. يقول أشبيري: «بعد حذف العناوين الفرعية، وجدت أن القصيدة أكثر غموضا». يتذكر أنه في باريس شاهد أفلاماً صامتة دون عناوين فرعية للمَشاهِد ودون ترجمة: «ستعرف بعض ما كان يحدث في الفيلم. وبطريقة ما، كان ذاك أجمل. هناك شيء قد تم إيصاله للمُشاهد، لكنك لا تعرف ما هو ذلك الشيء». أظن أن أشبيري في أعماقه يؤمن بأن الشعر – وإن دَرَسه أحدهم طويلاً وعن كثب – عليه أن يظل مُلتبساً.  

سألته ماذا يظن حين يقول له أحد قُرّاءه أنه لم يتمكن من فهم شعره؟ أجابني: «في الأول كنت مذهولاً ومجروحا. أحاول التواصل، والإيضاح، وتفسير ما يبدو غامضا. لا تكمن الصعوبة في شعري لغرض الصعوبة لذاتها، إنما المقصود أن تعكس صعوبة الحياة، والتغير المستمر لحياة الانسان، والتعديلات والتسويات التي نجريها في حياتنا مع كل دقيقة ولحظة بلحظة. الصعوبة في الحياة مع عبورنا للزمن، وكلاهما – الحياة والعبور ـ صعب وتلقائي، بما أننا نَتَدبّر أمر الاثنين».

«توقفتُ عن القلق عندما أدركتُ أن التفاعل مع شعري سيظل ذاهباَ إلى عدم الفهم. قال كوكتو (Jean Cocteau): عليك أن تأخذ النقد السلبي وتطور ذلك الجانب في عملك. فكّرتُ في أنه من الأفضل أن أستفيد إلى الحد الأقصى من الأوضاع السيئة كمثل امرئ مُقَدّر له أن يكون بلا قُرّاء ولا جمهور». ردّدَ قائلا: «لقد حصلتُ على شيء يُشبه الحَبْل الزَلِق، وذلك لانعدام أي شيء آخر أفضل».

قُراءه الأساسيون يتكونون من المحترفين المتعاطين للشعر كتابة أو تدريسا، ثم يأتي قرّاء الشعر الخُلّص. الأعداد في كلتا المجموعتين تتزايد. هؤلاء هم المشغوفون بالشعر المثمنون للقيمة والتجربة الابداعية.

امتدح بعض النقّاد قصيدة (بورتريه شخصي) على أنها أقل غموضاً من سابقاتها. إجمالاً ينفي أشبيري ذلك: «ما يجعلها تبدو أكثر سهولة هو شكلها المُتدافع كمقال بحثي، لكن إن جَلَس أحدهم وحلّلها عن كَثَب، سيجد أنها مُفَكّكة ومُجزأة كمثل قصيدة (أوروبا). في الحقيقة هي ليست عن لوحة بارميجيانينو، التي كانت ذريعة لكثير من التأملات والتعليقات الجانبية، الموصولة بخيط رفيع إلى اللُبّ من القصيدة كما هو حال الكثير من قصائدي، التي تنزع إلى الابتعاد عن الفكرة المركزية». الظاهر أن نقّاد الكُتب الأمريكيين يُفضلون (بورتريه شخصي) عن غيرها من أعماله. جوناثان كوت يفضل قصيدته (نِعمة في لباس تنكري/A Blessing In Disguise) في مجموعة أنهار وجبال. جون ياو يفضل قصيدته (اختلافات، كاليبسو، وشرود في الثيمة لـ – إللّاويلر ولوكس)، والتي أعيد طبعها في مجموعة (حلم مزدوج للربيع) عام 1970. ديفيد كرماني يفضل (شهرزاد) في مجموعة بورتريه شخصي. ديفيد شابيرو يفضل (المتزلجون). جون برنارد مايرز يفضل (الساعة المائية). أشبيري ذاته يفضل (ثلاث قصائد). لقد أعطيتُ صوتي لقصيدة (أوروبا). وبكلمات أخرى؛ الجدل حول شعر أشبيري، وعبر مراحله المختلفة، وصل بصعوبة ومشقة إلى نهايته.

على العكس من أشبيري، أجد أن المواضيع المتكررة في شعره تتكون من الحنين إلى مرابض الطفولة الريفية، ومن الإحساس بالزمن العابر. لكن كل قصائده في الأساس هي عن شيئين: عن الأفكار التي في خاطره لحظة التأليف – بورتريه لحالته النفسية – وعن عملية التأليف بذاتها. لذلك؛ فان إحدى الثيمات لأعماله بالمجمل – ولمهنته المتواصلة كشاعر – هي ثيمة أدبية إلى حد بعيد: الإمكانيات المحتملة في اللغة الإنجليزية لشعر معاصر.

إن أبعاد الذكاء الفني عند أشبيري تنتشر عبر إحساسه فوق الطبيعي للغة بنغمتها وإيقاعها، ذاكرة قوية لتجربته مع الفن، خيال متعالق بالصوتي أكثر من التصويري، قدرة واضحة وغير محدودة لتركيبات لفظية جديدة ومذهلة، وأخيراً؛ حاسّته التجريبية فيما يخص الأهمية التي يمنحها لتغيير الحدود (أو القواعد الذاتية) والتي يعتبرها – القواعد – مناقضاً للعملية الابداعية.

حسب نظري، المفتاح الحقيقي لعبقرية أشبيري تكمن في (صوت) أشعاره. هناك أيضاً قدرته النوعية على التملص من قارئه العجول. يتواصل عمله مع المتلقي كما تتواصل الموسيقى، في مستويات تَحُدّ من التعريف المفهومي. لا يتطلب شعر أشبيري قراءة بأعلى تركيز فقط، إنما قراءة متواصلة ومثابرة، بحيث يصير التمكن منه تجربة روحية.

هوامش:

  1. نُنوّه إلى كتاب أصدرته مجموعة كلمات للنشر (الشارقة، الامارات) عام 2019؛ مختارات شعرية تحت عنوان «جون آشبري.. صورة ذاتية في مرآة مُحدبة وقصائد أخرى» ترجمها الشاعر السعودي غسّان الخنيزي.
  2. نجد في هذا المقطع أن “أطفال” كلمة اعتراضية، لها هدفان. أولا؛ تشتيت سياق الجملة. فاذا حذفت “أطفال” يسهل إقامة صلة بين السطور، ومن ثم فهم الفقرة بشكل مُقارب! وفي ذات السياق، فان كلمة “أطفال” ترمز إلى مرحلة الطفولة بكل طهارتها. والفضيلة يرجع غرسها في هذه المرحلة. أي أن تجربة الطفولة هي التي تؤسس للخير والفضيلة لدى المرء في قادم أيامه –المُترجم.
  3. الحب الحقيقي ينتظر وردة: جاءت في الأصل الإنجليزي (Tlw rose)، ونظن أن الشاعر يقصد بـ Tlw: True Love Waits -المترجم.
  4. كتبتْ باللغة الفرنسية وهي أفضل عمل روائي سريالي حسب جون أشبيري في مقالة له عن تلك الرواية.

Exit mobile version
التخطي إلى شريط الأدوات