نشر هذا المقال بموقع دي تسايت “Die Zeit” الألماني في نوفمبر 2022، بقلم إيريس راديش تحت عنوان: إنجبورج باخمان و ماكس فريش.. حب القرن، ترجمته عن الألمانية شيرين ماهر

أخيراً، تظهر الرسائل الأدبية المتبادلة بين أحد أشهر الثنائيات في الأدب العالمي الناطق بالألمانية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية: إنجبورج باخمان – الشاعرة النمساوية الشهيرة الحائزة على جائزة Gruppe 47 والروائي والكاتب المسرحي السويسري الشهير ماكس فريش، الحاصل على جائزة بوشنر. قرابة 300 رسالة ظلت على قيد الحياة، والتى صدرت حديثاً في كتاب بعنوان «مراسلات إنجبورج باخمان و ماكس فريش… لم نٌبلي بلاءًا حسناً» عن دار نشر Suhrkamp. وعلى عكس الصورة الكلاسيكية للعاشقين الذين يقاتلان من أجل بعضهما البعض، ينتهي هذا الحب الأدبي نهائية مأساوية. مثل هذا التبادل الدراماتيكي للرسائل الذي طال انتظاره من جانب القٌراء، والذي استحوذ على اهتمام الباحثين في سيرة كل من “باخمان” و “فريش” الأدبية، يرسم صورة جديدة ومدهشة للعلاقة بين الثنائي الشهير ويضع التقييمات السالفة لعلاقتهما الأدبية ومساحات اللوم بينهما موضع تساؤلات كثيرة: القرب والمسافة، الدافع للفرار والخوف من الفقد، الإعجاب والتنافس. لقد تركت العلاقة بصمات واضحة على كتابات “باخمان” و “فريش”، لا يمكن شرح بعضها إلا من خلال مطالعة مراسلاتهما المفعمة بالحب واللعنة في آن واحد.. لقد شغلت هذه الرسائل النقاد والمتابعين لأعمال كلا الأديبين، لكونها – قطعاً – ستكشف العنفوان الأدبي الذي مرت به أطوار كتابتهما.
إنجبورج باخمان و ماكس فريش.. حب القرن
***
الشىء الوحيد المؤكد هو أن إنجبورج باخمان لم تكن ترغب في نشر هذه الرسائل. وبعد انفصالها عن ماكس فريش، انتزعت إحدى رسائلها. وكتبت له: «أريد استعادة كل رسائلي.. لن احتفظ بأي شيء سواها». ولكن منذ أن رفض فريش إعادتها إليها، قائلاً: «رسائلك تخصني، تمامًا كما أن رسائلي ملكٌ لكِ»، فقد طلبت منه «حرق كل شيء حتى لا يتلاعب أحد بأقصيصهما في يوم من الأيام. لقد أفزعتها الفكرة بشدة – باعتبارها “كاتبة»- أن تكون هناك معالجة أدبية تتناول علاقة حبهما. لذلك كتبت فى رسالة إلى فريش تقول: «الوقاحة يجب ألا تنتصر بأي حال من الأحوال على كل هذا الألم الطاعن»، جاعلة من كفاحها من أجل “«الحفاظ على سرية هذه المراسلات» موضوعاً رئيسياً لروايتها الأولى والأخيرة التي اختتمت بها حياتها الأدبية، فقد كانت شاعرة تلوذ بالكلمات من قسوة الواقع، لكنها غزت بستان الرواية كي تزرع شجيرتها الوحيدة وتدون على أوراقها كلمات النهاية.
أما “فريش” فقد كان مختلفًا. لقد أنقذ رسائل “باخمان” من التلف، وغالبًا ما كان يصنع نسخًا كربونية أو مكتوبة بخط اليد بهدف إعادة التدوير الأدبي، وهو ما كانت تخشاه باخمان. كانت رسائل الحب- بالنسبة له- مادة أدبية منذ البداية – وربما حتى الحب نفسه كان مجرد أداة. لقد نهى، في وصيته الأولى، عن “نشر الرسائل”. ثم سمح، في وصيته الثانية، بالنشر خلال مدة لا تتجاوز 20 عامًا بعد وفاته. ولحسن الحظ، وبعد الكثير من التردد، وافق ورثة باخمان أيضًا على النشر. ويمكن القول: إن انتهاك سرية الرسائل التي تنبأت بها “باخمان”، يقابله أكثر من مجرد تجربة فهم وإيغال في حالة الاضطراب الداخلي المؤلم لهاذين الأديبين الراحلين. رومانسية الحروف في رسائلهما تجعل التاريخ الأدبي والتاريخ المعاصر وقصة حبهما – بمثابة إضافة أدبية رائعة وصولاً إلى لغة تٌذهِل العقل جاءت إلى الحياة في لحظة غير محسوبة.
التقى العاشقان للمرة الأولى من خلال رسالة “إعجاب إلى المحرر” أرسلها المؤلف السويسري الناجح “ماكس فريش” إلى دار نشر “Piper Verlag” في صيف عام 1958، حيث كتب ماكس إلى المؤلفة والأديبة الشابة باخمان، التي كان مولعا بمسرحيتها الإذاعية “The Good God of Manhattan”، ليعبر لها عن مدى تقديره الجمّ لأهمية تجسيد المرأة للرجل، وكذلك تعبيرها عن نفسها، قائلاً: «نحن بحاجة إلى تصوير الرجل بعيون المرأة، والتصوير الذاتي للمرأة». يتجلى ذلك لاحقاً، عندما استغل فريش حبه لـ باخمان في الكتابة، حيث يقول فريش- بعد سنوات من وفاة باخمان- في كتاب سيرته الذاتية الذي حمل عنوان “Montauk”: «لقد كان اللقاء الأول في باريس، حيث ارتدت باخمان رداءً فضفاضاً، وأقبلت في الليل على مقعد شاغر في الحديقة لتحتسي قهوتها مع بزوغ الفجر بالقرب من قاعات السوق، بينما كان يوجد على الطاولة المجاورة، اثنين من الجزارين بأدواتهما الملطخة بدماء الذبائح.. ياله من تحذير أخرق…».
في اليوم السابق للقائهما، الأربعاء الموافق 2 يوليو من عام 1958، انفصلت إنجبورج باخمان عن الشاعر اليهودي بول سيلان، حبها الكبير الذي لم تٌكتَب له الحياة. لقد تأثر سيلان تأثراً بالغاً بأهوال الهولوكوست، التي عايشها في الـ 15 من عمره، ووجد نفسه تائهاً في شرود الموت ومتخبطاً بين ردهات الماضي، ومن ثمة شق طريقه إلى قصائد الخراب الأنيق، وكتابة أشعار تشبه في قسوتها الصحاري القاحلة. لقد شارك مع الشاعرة الشابة باخمان المشاعر الغنائية، والإيمان بالقوة الطوباوية لخلاص الأدب والوعي التاريخي المأساوي- الذي جعل هاذين الغريبين يكنان كل الشغف والاحترام لأدب ما بعد الحرب، وكانت رموز هذه المرحلة آنذاك مجموعة من الشعراء الفطاحل في الأدب الألماني، من أمثال هاينريش بول، مارتن فالسر، أوي جونسون وجونتر جراس، الذين واصلوا مشروعهم الأدبي وصولاً إلى ملحمة سياسية واقعية أزالوا بها حطام الماضي.
أما ماكس فريش الذي وقعت باخمان”في حبه في 3 يوليو 1958، أي في اليوم التالي من هجر بول سيلان لها، كان على النقيض منه تمامًا. كل ما يتعلق به حداثي، واثق، لا يلتفت إلى الوراء. ربما هذا ما جذبها إليه، كما لو كان صادفها في لحظة وهن نفسي وعاطفي أرادت فيها الهروب حتى من نفسها. لقد كان فريش كاتباً مسرحياً يميل إلى الواقعية والإثارة، كما كان روائياً ناجحاً، له روايات مهمة مثل “ستيلر” و “هومو فابر”، التي تتعامل مع فقدان الهوية الذكورية وإعادة بعث الرجال في أوقات ما بعد البطولة. يحاول أبطال فريش الأذكياء والعاطفيون مواصلة الحياة بالانغماس في قصص جديدة. هكذا يصف الصحوة الذكورية لحداثة ما بعد الحرب في رواية “Mein Name sei Gantenbein”، التي عمل عليها لاحقاً جنبًا إلى جنب مع باخمان على مر السنين، حيث جسد فريش الروح الحداثية في صورة شخص يبحث مرة أخرى عن مفاجأة جديدة يصفع بها منطقة الراحة السويسرية الخاصة به، والتي أصبحت هادئة للغاية بصوره تؤرقه – وبعد زواجه من إحدى فتيات الطبقة الوسطى، أصبحت علاقته الزوجية تشبه، في فتورها، “صداقة قاتلة”، حيث كانت زوجته سليلة واحدة من أفضل عائلات زيورخ، وعكفت على الاعتناء بأطفالها الثلاثة في مسقط رأسه، إلا أنه كان بحاجة إلى ما هو أكثر من الاستقرار.
يقول فريش عن باخمان: «لست مغرمًا بكِ، إنجبورج، لكنني ممتلئاً بكِ». لقد أطلق عليها لقب «ملاكه المخيف منذ زمن طويل» واصفاً إياها بـ«مخلوق بحري لا تظهر ألوانه إلا في الماء». وأضاف: «أنت جميلة عندما تكونين عاشقة، وأنا أحبك. أعلم أن كل شيء آخر غير مؤكد». وبعد مرور ثلاثة أسابيع على علاقتهما، أعرب عن خوفه قائلاً: «سنكون كارثة لبعضنا البعض». كان يحلم بـ«قلعة الأحلام» المشتركة التي يمكن أن يعيشا فيها معًا بـ«جناحين» لا يفترقان عن بعضهما البعض، لكنها أجابته قائلة: «تصميم رائع لا يمكنك العيش فيه». كانت تفضل أن تحيا معه حياة كاملة، لذلك كان عليهما إعادة ابتكار نموذج الحب الذي أرادا العيش به والعمل والكتابة جنبًا إلى جنب. والأغرب أنه لم يكن يحب نفسه سوى بالقرب من هذه الموهبة الأدبية الفذة التي لطالما أبهرته في المقام الأول. لقد كان يفكر منذ البداية في الخصوبة الأدبية لهذا الحب.
لم يمضِ وقت طويل، حتى واصل كلاهما حربه العاطفية بشكل مذهل عبر رواياتهما. جسدت باخمان نفسها، بشكل مباشر وغير مباشر، على أنها مغنية متقلبة للغاية ونرجسية في روايتها Mein Name sei Gantenbein، وكذلك جسدها فريش في قصته Montauk – حيث يقول: «هناك فقط بالقرب منها، يقبع الجنون». لقد أثارت باخمان في روايتها “مالينا” اتهامات صارخة ضد الرجال في القرن العشرين، وانتقدت تدميرهم لذات المرأة وإبادة أنوثتها. ومن المفارقات أن روايتها، التي نُشرِت قبل عامين من وفاتها المفاجئة، انتهت بكلمات قاسية تشبه السياط، حيث قالت في ختامها: «لقد كانت جريمة قتل بالمعنى الحرفي للكلمة».. ومن المتوقع أن تُحمِّل الدراسات الأدبية النسوية ماكس فريش مسؤولية هذه الجملة وتعلنه الشخصية الحقيقية خلف جميع أولئك الذين تسببوا في العنف الذكوري في أعمال باخمان.
لقد وضع الاثنان معاً خططًا للحياة والعمل إلى الجوار، وأطلقا على نفسيهما اسمى “بير” و”شنورليمورلي”، محاولين إعطاء حبهما سبباً للبقاء، حيث امتلكا منزلاً ريفياً يطل علي بحيرة زيورخ في أوتيكون، فيما خطط فريش، حتى دون أن تعلم باخمان شيئاً عن ذلك، لامتلاك شقة مشتركة في روما مكونة من ست غرف وشرفة وخادمة، فضلاً عن انطلاقهما سوياً في رحلات إلى إسبانيا والمغرب واليونان. ربما تكون السعادة العظيمة في الحب في شقة الأحلام الكائنة في Via de Notaris مع إطلالة واسعة على المدينة الإيطالية الخالدة. أو في منزل ريفي فخور بجدرانه الراسخة المنتمية إلى العصور الوسطى على بحيرة زيورخ.
لقد دعا فريش “باخمان”، في أحد رسائله، قائلاً: «عزيزتي، أيتها الغريبة.. يا امرأة يسكن أحشائها الجحيم، ولا مفر لي منه.. أيتها المرأة غير القابلة للتبديل، إنجبورج، رفيقتي التي تجيد قراءة حماقاتي.. رفيقتي، التي ألازمها حتى هجرت نفسي.. هديتي وجنوني وضياعي»، فيما تقول باخمان، في إحدى مراسلاتها: «أريد الحب، الكثير من الحب، وإلا فلن أتمكن من العيش معك، والأفضل لي أن أكون وحدي». ومع ذلك لا يمكن أن يُطلَق على هذه الرسائل وثيقة حب. بل كانت وثيقة تؤكد استحالة الحب في كنف ذلك الضيق الخانق ومعركة عاطفية في أوائل الستينيات بين شخصين غير عاديين لا يستطيعان إيجاد لغة مشتركة. وحتى في حالة الفشل، أمكنهما كتابة حب عظيم من الناحية الأدبية. قد تصل إلينا رسائلهما كرسائل عتيقة تقبع في زجاجة من التاريخ الأدبي الضائع منذ زمن طويل. لكن شجاعة الانكشاف الذاتي البارعة لكليهما، ونبض قلبيهما المتسارع بشدة وإرادتهما غير المشروطة لتكثيف الحب اليومي بشكل شاعري كانت حاضرة تمامًا في مراسلاتهما، ما جعل من المؤثر قراءتها بعد مرور كل هذه الأعوام.
وبعد انقضاء أربع أعوام من الحب واللاحب، افترقا كغرباء، حيث انتقل فريش إلى بقاع جديدة، إلى كتب جديدة، وإلى نساء أصغر سنًا، بينما فقدت باخمان نفسها في متاهاتها العقلية وبين سراديب الموتى التى كتبت عنهم في مشروعها الأدبي المتعلق بوفيات الإناث نتيجة العنف الذكوري. فعندما نُشرت روايتها الأخيرة بعد وفاتها، أمكن للمرء استدراك فكرة مدى عزلة هذه المثقفة العظيمة، والتي كان ضعفها متسقاً مع الصعوبات التي واجهتها خلال الحقبة الأخيرة من التسلط الذكوري المتواصل. وقد جاءت نهاية المأساة بسرعة وبشكل مؤلم، فيما ستظل القصة القديمة جديدة إلى الأبد. ففي سن الـ 51، وقع فريش في حب الطالبة ماريان أويلرز البالغة من العمر 23 عامًا، والتي أصبحت فيما بعد زوجته. وفي يناير 1963، أثناء سفره إلى نيويورك مع فتاته الجديدة، خضعت باخمان إلى جراحة اضطرارية لإزالة رحمها من قبل الصليب الأحمر في منزل الممرضات في زيورخ – وفق توصية من الطب النفسي، حيث تكررت لديها نوبات القلق والإغماء والاكتئاب والتشنجات ومحاولات الانتحار.
في البداية، لم تعط باخمان أهمية لهذه الجراحة، لكنها أُصيبت لاحقًا بجرح غائر في أنوثتها، حيث تقول: «لم أعد أمتلك أنوثتي، لقد اٌقتلِعت مني». لقد تأثر فريش بكلماتها واستجاب ليأسها ولكن بطريقته الواقعية المعتادة، وعرض عليها أموالاً كثيرة. لكنها رفضت «التعويض» بغضب. كلاهما لخص النهاية بلغته الخاصة التى ظلت متنافرة. لقد كتب باسمها غفرانًا يقول: «لم نبلي بلاءًا حسناً»…لكنها أصرت على عدم قبول العزاء نهائياً، قائلة: قلبي سيبقى محطماً…
حب القرن.. إنجبورج باخمان و ماكس فريش، ترجمة شيرين ماهر
شيرين ماهر؛ مترجمة ومحررة صحفية من مصر

ترجمت فتوفقت في نقل معاناة امرأة مبدعة عاشت معاناة الحب وما يكتنفه من غموض العلاقة بين رجل وامرأة، عادة ما تنتهي لتجديد البداية للذكر وتطابق البداية مع النهاية للأنثى، ويبقى الرد في رسالة كل طرف شاهدا على صدفية الحكم على كليهما.
مع تحياتي