مساراتمقالات

خطوة على طريق النشر | عزالدين بوركة

تواصل مجلة «قناص» في زاوية «خطوة على طريق النشر» نشر شهادات الكُتّاب عن حيثيات الدخول إلى عالم النشر. هنا شهادة الزميل عزالدين بوركة، وهو شاعر وباحث وناقد مغربي:

إن كل عملية كتابة حقيقية– إبداعية كانت أو بحثية أو نقدية- هي حفْر في الذات والعالم معا، بالمعنى الأركيولوجي والنحتي في الآن ذاته.. تارة بما تستدعيه العملية من نبش خفيف وحذر وتارة بما تتطلبه من نقش وقوة وتدخل حكيم لا مجال للخطأِ فيه. فالكاتب –مثل الفنان- بقدر ما يكشف عن الغائر والخفي فهو ينحت اللامرئي ليجعله مرئيا.

ولأن كتابة البدايات –في الغالب- هي كتابة تجريبية تسعى إلى إعلاء الصوت وقول “أنا هنا فلتنتبهوا لي” ! لا بد لها أن تكون مغامرة غير محسوبة المخاطر.. يتبعها الكاتب “الشاب” ليكشف عن ذاته داخل أدغال المؤلفين والكتاب والمبدعين. لهذا كثيرا ما تبدوا النصوص الأولى كأنها خارجة للتو من معركة صاخبة، قد شقت طريقها بصعوبة وسط الفرسان والموتى.. يندفع الكاتب في البدايات نحو «قتل الأب» قبل المنافس.. كاسرا «جدار الصمت» ومخترقا الحدود ومتجاوزا الفواصل وقافزاً على الموانع. إذ غالبا ما تكون النصوص الأولى تجريبية النزعة، تتخذ التخريب «نسقا» لها. أقول غالبا، لأن من الكتاب الشباب من يتبع تقليد الأصوات الأولى، حتى يدرّب صوته ويبتعد عن الخصومات والصراعات، إذ يهتدي بالمهادنة سبيلا..

بين هذا وذاك، ليس للنصوص الأولى، أبدا، أرض مفروشة بالورود ولا معبدة يصلح المشي عليها. لهذا لا بد لها من انتهاج التحدي طريقة لإعلاء الصوت في عالم ضاج بالكتابات.

كانت أولى النصوص التي كتبتها عبارة عن محاولات لتجريب الذات وسط كل ما اكتنزته من ذوات أخرى في داخلي، عبر قراءات مختلفة لنصوص متعددة باللغتين العربية والفرنسية. وجدت نفسي أكتب عن نفسي وعن الطفولة وعن الأسرة، مبحرا في عوالم متخيلة لكنها تنطلق من الواقع لتحرّفه قدر المستطاع. هكذا تدربت يدي على التدوين ونقر الكلمات (على الورق وشاشة الحاسوب). أنا من جيل الانترنيت وفضاءات النشر الإلكترونية التي دمقرطت عملية النشر والكتابة، لم يكن من الصعب نشر مجموعة من النصوص الأولى، التي سوف يتضح لي فيما بعد على أنها «محاولات لا ينبغي الندم عليها وإن فيها ما فيها»، إلى أن فتحت لي مواقع وجرائد متخصصة صفحاتها البيضاء لِملْءها بسواد كلماتي التي آمن بها الكثيرون. هناك مرّنت يدي على اختيار النص اللائق للنشر والكشف عنه، من النص الذي لا ينبغي أن يخرج إلى العلن.

ظلت محاولات وكتابات شعرية طيّ الصمت، إلى أن اكتمل مشروع عمل شعري آمنت به، آنئذ عملت على إصلاح أعطابه وتوصيب هفواته رفقة بعض الأصدقاء المقربين، فلا بد للكاتب من قراء أولين مهمتهم تبيان مكامن الخلل، أو حتى العمل على تمزيق العمل إن دعت الضرورة. في تلك الفترة كان من الصعب –نسبيا- نشر العمل ورقيا.. شخصياً لا أحبذ أن ينشر الكاتب تعب تفكيره ومخيلته ويده على حسابه الشخصي.. ولم توجد حال ذلك دور نشر بالكم المتميّز الذي نشهده اليوم.. انتظرت زمنا إلى أن حظي العمل، الذي ظل في أدراج وملفات الخزانة الحاسوبية لمدة طويلة، بفرصته ليظهر على هيئة الورق بعدما توّج بجائزة شيماء الصباغ لسنة 2016 بمصر. لم تكن سيرورة الكتابة سهلة، أو واضحة المعالم والسبيل، فكثيراً ما كنت أقف لأطل على الأفق البعيد، وأقول لنفسي الصامتة «هل لا بد أن نتبع هذه الطريقــ(ـة)؟». إن الإبحار في عالم الكتابة يشبه سبر أغوار المحيط الهائج بقارب من خشب هش، وعلى الكاتب/البحار أن يتمرّس في التقاط الأعواد والألواح الملقاة في عرض البحر لإصلاح قاربه وترميمه، وأيضا لجعله أكثر قدرة على مجابهة الأمواج العاتية والعواصف الضارية: فلا كتابة مع اليأس !.

خاص قناص

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى