دمشق – خاص قناص: احتفالية يوم المسرح العالمي
ما إن ندخل إلى المعهد العالي للفنون المسرحية فنشعر أننا وبلمسة الفن السحرية تحولنا من جمهور اعتياديّ إلى شخوصٍ في نصٍّ مكتوب، أو إلى شخصياتٍ تلبسُ أقنعةً كرنفاليةً، لكنها مع ذلك تؤدي عرضاً أكثر “حقيقيةً” من الواقع “الواقعيّ” خارج خشبة المسرح والذي لا يكفّ عن تحويلنا إلى كائناتٍ هائمة بدلَ أن نكون أناساً مؤثرين.
فضاءُ المسرح والمعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق هو فضاءٌ بهواءٍ مختلف وأنماط تفكيرٍ جريئةٍ متجددة متنوعة، وربما متعارضة، لكنه فضاءٌ يقترب أكثر من أجواء الحرية الإنسانية بمعناها الأشمل والأكثر غنىً من المعنى السياسي، لأننا دائماً أمام اختباراتٍ احترافيةٍ لنصوص مسرحية عالمية وعربية وسورية تجعلنا نحتفي في كل عرض بـ “أبو الفنون”!
وهذا العام أيضاً احتفلت المسارحُ السورية بـ « اليوم العالمي للمسرح »، فضمّت خشباتها عروضاً احتفائية بالمسرحيين المخضرمين والأساتذة المدرسين.
لكن التظاهرة الأساس احتضنتها أروقة المعهد العالي للمسرح بدمشق، حيث استقبلتنا، في أول أبهاء المعهد، ثلاثُ منحوتات نصفية لثلاثِ شخصياتٍ مسرحية كان لها بصمةٌ لا تتكرر في تاريخ المسرح السوري: محمد الماغوط، فواز الساجر، ونعمان جود، كأنها تقول لنا بنبرةٍ ترحيبيةٍ: أهلاً بكم في مغارة “علي بابا” السحرية، ادخلوها آمنين وفرحين… واستمتعوا، ولكن لا تنسوا أنّ في زمنٍ مضى كُنّا هنا وأهدينا المسرحَ أجمل ما يُهدى: عمرَنا!
أما الأقنعة والمجسمات المصنوعة من الكرتون والأسلاك والتصاميمُ الملونة لديكوراتٍ مفترضةٍ والأغراضُ المسرحية المرصوفة في بقية الأبهاء فأكملت الفرجة بعناصر مثيرةٍ للخيال، صممها طلاب قسم السينوغرافيا الذين لا يكتملُ عرضٌ مسرحي من دونٍ “فانتازيا” خيالاتهم وإبداعاتهم، حتى عن “بوستر” الاحتفالية و”البروشور” كانا من تصميم لافتٍ للفنان كريم هوّاش، يُشكّلُ فيهما كلمة “مسرح” على هيئة ممثلةٍ تحتضنُ الكرة الأرضية وترقصُ معها.
فيما ضمّت خشبة “مسرح سعد الله ونوس” حفلاً أقامه طلابُ أقسام المعهد (تمثيلاً، وفنوناً بصريةً وسمعية، وسينوغرافيا، وقسم الرقص) بإشراف عام من كفاح الخوص.
وبعد كلمة اليوم العالمي للمسرح والتي كتبتها “سيدة المسرح العربي سميحة أيوب” وألقتها الفنانات: وفاء موصللي ولينا حوارنة ومجد نعيم، قدّم الطلاب تنويعاتٍ مسرحية مضمونها لا يخلو من ترميزاتٍ وإيحاءاتٍ عن واقعٍ اجتماعي مؤلم نعيشه تحت وطأة القهر في طِباقٍ واستلهامٍ من مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” للراحل سعد الله ونوس، إلا أن نكهة الكوميديا والمبالغاتِ اللفظية المحمولة على تنويعاتٍ بلهجات القرى السورية، مع طرافة الأزياء النسائية التي ارتداها الطلاب إناثاً وذكوراً لطّفت من إيقاعات الحزن الخفيّ وقسوة الفكرة الأصل، إذ يتحولُ مشهد الندّابات على الطفل `المدعوس بقدم الفيل` إلى مشهدِ مُشاحناتٍ نسائيةٍ و”همروجات” عراكٍ فكاهيٍّ جعلت الجمهورَ الذي ملأ المكان والأدراج والممرات يهرِجُ بالفرح والتصفيق والضحكات.
الحفلُ الفني تناوبَ بين عروض راقصة أدّاها طلاب قسم الرقص بـ”كوريوغرافيا” أضافت نكهة الموسيقى إلى فقرات تكريمٍ قام بها الطلاب لخريجي قسم التمثيل/دفعة 1988 (خالد محمد الطالب، غسان الدبس، يحيى عبد الرحيم الكفري، غسان عزب) ولخريجي قسم الدراسات المسرحية/أيضاً دفعة 1988 (سمير عدنان المطرود، بسام ناصر، طلال الحلبي، فايزة أحمد علي، لبانة أحمد شيخ أحمد، ناصر عبد الحكيم ونوس، وياسر دريباتي).
وأكمل طلابٌ آخرون فقراتهم الكوميدية كما لو أنهم في “مسرح داخل مسرح” حين راحوا “يمثّلون” أنّهم نسوا أدوارَهم المرسومة لهم سلفاً، ودخلوا في سجالات تنافسٍ مفتعلةٍ، وغيرة صبايا مكبوتة، وانتقادات لطيفة لأساتذتهم ومدربيهم ومشرفيهم الجالسين وسط الجمهور، ففي إحدى الفقرات اللطيفة يقدمها طالبان يقولان سويةً في لعبٍ لفظي: «هذا المعهد يعلمنا الأناقة، يعلمنا النظافة، وفي هذا المعهد نمرض ونتعب ونعرق، نأكل ونشرب…» ثم يتشاكلان أيُّ العبارةِ هي الأصحّ: «في هذا المعهد نمسح ماضينا ونرسم أمانينا» أمْ «نمسح أمانينا ونرسم ماضينا»! ويدخلان في نوبةِ معاتبة تنتهي ببكاء استعراضي ومخاط… لنكتشفَ -في غمرة الضحك- أنهما يقدّمان `إعلاناً تجارياً مفبركاً لماركة محارم`!
ولم يتوانَ بعض الفنانين والخريجين القدماء مثل الفنان مصطفى المصطفى وحلا رجب ومروان فرحات وغيرهم عن المشاركة بشهاداتٍ من ذكرياتهم الحميمة في المعهد العالي للمسرح بدمشق، وكيفَ أن مهنة التمثيل، كما وصف الفنان فراس إبراهيم «تحتاجُ إلى شغفٍ يجب ألّا ينقطعَ أو يتلاشى، لأنه أمرٌ لازمٌ للممثل كي يؤدي أدواره بسعادة متبادلة، وإلا فليرحل عن عالم التمثيل إلى الأبد»!
إذ كما تقول الفنانة سميحة أيوب في كلمتها: إنّ المسرحَ في جوهره الأصلي هو فعلٌ إنسانيٌ محض قائمٌ على جوهر الإنسانية الحقيقي ألا وهو الحياة، وعلى حد قول الرائد العظيم قسطنطين ستانسلافسكي «لا تدخلِ المسرحَ والوحلُ على قدميكَ، اترك الغبار والأوساخ في الخارج، تحقق من ترك مخاوفك الصغيرة والمشاحنات والصعوبات الصغيرة مع ملابسك الخارجية، وكل الأشياء التي تدمّر حياتك وتلفت انتباهك بعيداً عن فنّك… عندَ الباب»!
وكما في البدايات، ها نحن في الختام نسمعُ أصواتَ من رحلوا، ومَن لا يزالون يعطون من أرواحهم وقلوبهم، ونرى أطيافهم في الأبهاء وعلى الأدراج وفي قاعات التدريس وصالة المرايا والليونة وقسم الديكور: فواز الساجر، سعد الله ونوس، نائلة الأطرش، صلحي الوادي، نبيل الحفار، حنان قصاب حسن، ماري إلياس، نعمان جود، جهاد سعد، عوني كرّومي، حاتم علي، لاريسا عبد الحميد، فايز قزق، سامر عمران، غسان مسعود، مصطفى عبود، وتامر العربيد… وغيرهم الكثير الكثير ممن شكّلوا ذاكرة هذا المكان الأكاديمي الاستثنائي: المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق.