بعد أن أنهيت تناول فطوري في “المحلبة” وضعت يدي في جيبي وسحبت ورقة نقدية من فئة 20 درهما، مددتها لصاحب المحلبة، فأعطاني صرف 200 درهما، أحسست بالصدمة، كأن أحدهم سكب علي سطل ماء بارد، لا أخفي أني فكرت في أن أنبهه إلى خطئه، وجال في خاطري أنه سينظر إليَ بعيون جديدة مليئة بالامتنان، وسيتذكرني في القادم من الأيام كلما وقفت عنده، وسيحكي عن مدى نزاهتي للآخرين الذين سيقولون أن الدنيا لا زالت بخير، وأن أحياء الصفيح لا تنتج فقط اللصوص . وسيغوصون في ذاكرتهم باحثين عن حكايات شبيهة، مثل حكاية ذاك المغفل الذي عثر قبل شهرين على مليون سنتيم في حقيبة مع بعض الأوراق وأعادها إلى صاحبها، وسينطّ أحدهم محتجا بأن 200 درهما ليست مثل المليون، وسيجيبونه بأن من يرجع القليل سيرجع لا محالة الكثير. ومن يسرق درهما يمكن أن يسرق ألف درهم أيضا.
لكني طردت هذه الأفكار من رأسي، محركاً يدي في الهواء كأنني أطرد ذبابة مزعجة، وذلك بعد أن تذكرت أن صاحب المحلبة وغد لعين، جشع، يبيع للعاجزين عن التفريق بين الألف والزرواطة سلعة منتهية الصلاحية، ثم إني في وقت ما، منذ زمن طويل، جاء عندنا ضيوف لم يختاروا المجيئ إلا في يوم جاف، لا درهم تدور فيه، فنادت علي أمي بإشارة منها فهمتها. وقالت لي هامسة لما انفردت بي في المطبخ “اذهب عند الجيلالي صاحب المحلبة وخذ من عنده ما نضعه للضيوف حتى يأتي والدك ويدفع له” وعندما ذهبت عنده. رفض بـ “لا” جافة بكل وقاحة.
كنت قد نسيت هذه الواقعة، لكني تذكرتها الآن، جلبها شيطاني من أعماق أعماقي، ليدفعني دفعا، ويعطيني مبرراً لما أنا مُقدم عليه، فالإنسان يحتاج إلى مبرر ليفعل ما يفعله، لهذا حسمت قراري وأخذت الصرف وأنا أحس بالسعادة، لكني كنت أعرف في قرارة نفسي أنها سعادة ليست تامة، ناقصة، لأن شعوراً لعيناً أعرف أنه سيمسك بخناقي بعد أن أبدد النقود، مثلما يفعل دائما، فهذا هو ديدنه . فملاكي جبان، رعديد ، يستقوي علي عندما أكون وحيدا، ويغيب عندما يحضر شيطاني. فما أن يرى شيطاني قادماً حتى يحمل حقائبه موهماً إيانا بالرحيل، لكنه يخفي فقط نفسه في مكان لا تراه فيها العيون، ويبقى ينتظر، فهو متمرس على الانتظار، تلك هي هوايته اللعينة، وما أن يُحس أن شيطاني غاب، حتى يحضر، ويجلب معه أسنانه الحادة ومعاوله، ويبدأ في غرس أسنانه في روحي ، والحفر في داخلي، مُحسّساً إياي بهول ما اقترفت.
حشرت النقود في جيبي وخرجت من المحلبة، مُسرعاً قدر ما تسمح به سرعة المشي، بينما القرص الذي في السماء يرسل أشعته الحارقة والتي تشي بأن هذا اليوم سيكون جحيمي أكثر مما كان عليه يوم أمس. وما إن دلفتُ إلى الحي الخانز الذي أعيش فيه حتى تنفست الصعداء .
وصلت الى المنزل أعطيت لأمي 50 درهما، متعللا بأني عثرت على 100 درهم مرمية على قارعة الطريق، قالت لي وهي تسحب يدها من العجين الذي تعجنه وتتلقف الورقة النقدية وتدسها تحت “الهيدورة” الجالسة عليها:
كيف سيكون حال هذا المنحوس الذي سقطت منه مائة درهم في الصباح.
قلت لها، وأنا أفكر في صاحب المحلبة، عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، ستخفف عنه بعض الذنوب الكثيرة التي يحملها فوق أكتافه، ربما يكون يا أمي أحد مصاصي الدماء وربي أراد أن يخفف عنه قليلا.
**
كانت الساعة تقترب من منتصف النهار، عندما توجهتُ نحو السقّاية التي تقع قرب السور الذي يطوق حينا ، دافعاً العربة التي تحتوي على ثلاثة براميل فارغة، مُخالفاً نصيحة أمي التي يبدو أنها تعرف أني ضعيف أكثر مما أعرف نفسي، إذْ أخبرتني أن ثلاثة براميل أمر كثير عليّ، املأ كل برميل على حدة. لكني قاطعتها بالإعلان أنها ولدت الرجال ولم تلد الخطايا. وتركتها تبتسم. ابتسامة أمي شمس تبدد عتمة الحي الخانز.
وجدتُ السقّاية ممتلئة بالنسوة اللواتي يقمن بغسل الملابس، والأطفال الذين يجتمعون على صنبور الماء مثل النمل في موسم لَمِّ الحبوب، يريدون غسل أطرافهم المتسخة، نتيجة اللعب في الواد الخانز الذي يخترق الحي من المنتصف، خوفاً من آبائهم الذين حذروهم من اللعب في الواد أو بالقرب منه. فقلت مُتمتماً مع نفسي: “من هذا المغفل الذي يستمع إلى تحذيرات الآباء، فهي تقال ليس لكي يتم تطبيقها، وإنما ليتم خرقها”.
وتذكرت الصفعات التي تلقتها خدودي وقفاي من يد والدي رحمه الله لأني كنت في الغالب أفعل ما لا يريد مني فعله. فقد خلصت منذ زمن إلى أن الآباء بخوفهم على أطفالهم يتحولون الى قاتلي المتعة، مَمْنوعاتهم تطال كل ما هو ممتع في عيون أبنائهم. فكل ما كان ممنوع في طفولتي كنت أجده مليء بالمسرات:
“التعلق في مؤخرات الشاحنات والذهاب في جولة مجانية عبر شوارع المدينة، إمساك الجرذان وتفجيرها بقنابل نحشرها في مؤخراتها، القفز من جهة إلى أخرى في الواد الخانز الذي تجري فيه فضلات الساكنة. جمع قناني النبيذ التي يتركها السكارى خلفهم وبيعها، التلصص من ثقب في باب أمينة التي كانت تُدخل الرجال إلى كوخها. إشعال أكبر شعايلة في المدينة كلما حلت عاشوراء، التراشق بالحجارة مع حي الحشرات، الذين يطلقون علينا لقب أبناء الفيلات نصف كُمْ وإخوان الفئران وأصدقاء الجرذان . السباحة في بحر لاحوني الذي لا حد له، الدقُّ في الأبواب الصفيحية والركض هاربا”.
لم يستمر انتظاري في السقّاية طويلاً، ليس لأن الصغار أفسحوا لي المجال.
لا، هم لن يخطر في بالهم ذلك، وإنما الفضل كله يعود إلى مي الضاوية، حارسة السقّاية التي انهالتْ عليهم ضرباً بعصاها التي لا تفارقها، فأطلقوا سياقانهم للريح.
قمت بملء البراميل، وضعتها فوق العربة ودفعتها بصعوبة بالغة عبر الأزقة الضيقة المتشعبة. لكن ما هذا؟ مالتْ كفَّة العربة التي أنا منهمك في دفعها إلى جهة على حساب جهة أخرى، أثَرَ مرور عجلتها على حجر صغير، وضعه لعين ما هناك، فلم أنتبه له.
انقلبتْ وأسقطتني معها سقوطاً لعينا. كنت مغفلاً، فبدل سحبِ يدي من العربة، أمسكتها بقوة محاولاً منعها من الانقلاب فرفعتني عاليا. كان سقوطاً غريبا، خُيّل لي كأني حلقت في السماء، ويبدو أن النسوة اللواتي كن يقفن أمام باب إحداهن، بدا لَهنَّ ما حدث أيضاً غريبا، لهذا لم يتمالكن أنفسهن من الضحك، ثم أسرعن إلى محاولة رفع البراميل التي انسكب كل مائها. وهنّ يحاولن كتم ضحكهن دون فائدة، فما إن يتذكرنَ الطريقة التي سقطتُ بها حتى تبدأ نوبة أخرى من الضحك. لعنتهن في سِرّي. ونهضتُ بثيابي التي أضحت مبتلة، رفعتُ العربة وأعدت إليها البراميل الثلاثة، وبدل العودة إلى السقّاية، وملء البراميل التي فرغتْ، قصدت الكوخ مباشرة كي أبدل ثيابي وأنا أفكر في أني بدأت في دفع ثمن سرقتي مبكرا . لم يمهلني القدر الوقت الكافي ليذكرني بما اقترفت يداي. عندما رأتني أمي في تلك الحال، قالت لي: “ألم أقل لك أن ثلاثة براميل بزّاااف عليك، لكنك لا تسمع، رأسك قاسح مثل الحجر”.