جَدَل القراءاتمكتبة بورخيس

لعنة سين أسطورة الحيرة لا أسطورة اليقين | أحمد عمر زعبار

رواية لعنة سين: بسّام علي يكتب أسطورته الخاصة

رواية لعنة سين لـ بسّام علي: أسطورة الحيرة لا أسطورة اليقين

لا يزال الروائي العماني بسّام علي يحاور ذاته والعالم ويعالج القلق بمزيد من حيرة الأسئلة الكبرى، أسئلة الوجود والمعنى، أسئلة العقل، أسئلة الإنسان منذ بداية وعيه بذاته إلى يومنا هذا وإلى آخر الدهر إن كان للدهر آخر. وقد يكون هذا أمرا مفهوما، بل ومتوقعا بالنظر إلى ما كتبه بسّام علي في روايته الأولى «عزلة الرائي»، حيث يقول في آخر صفحاتها «سأبدأ مشواري بالكتابة فهناك من سيخطو خُطاي يوما ما باحثا عن الحقيقة»، ويؤكد ذلك مجددا في آخر سطورها، إذ يسأل: إلى أين؟ وسرعان ما يجيب: إلى البحث مجدّدا.

إذن هو البحث مجددا ومرّة أخرى من خلال رواية تشتغل فيها الحبكة وعلاقة شخوصها وأبطالها الأساسيين والفرعيين بالأحداث وما تُحيل إليه.

تتألف «لعنة سين» من ثلاث حكايات/قصص مختلفة لثلاث رحلات في أزمنة وأماكن متباعدة ومختلفة تتشابك خيوطها في فصلها الأخير. الرحلة الأولى هي رحلة السفينة انفستيجاتور (Investigator) التي تنطلق من ميناء سبيتهيد في جنوب انجلترا باتجاه تيرا أوستراليس في أفريقيا لاحتلالها، يروي قصة هذه الرحلة روبرت الأخ الأصغر لمساعد القبطان ماثيو فليندرز، ولا يخفى هنا أن اسم السفينة (انفستيجاتور) يحيل إلى البحث والتحقيق والاكتشاف وكأن الرواية تكشف بمواربة منذ بدايتها أنها ستكون رحلة بحث واكتشاف.

الرحلة الثانية تبدأ في بابل 1600 سنة قبل الميلاد بطوفان يذكرنا بطوفان زمن النبي نوح وسفينة نجاة تذكرنا بسفينته ورجل هو ايشوكو الذي تُبنى ثيمة الرواية الأساسية على رحلته وما مر به عبر العصور والأزمنة من صراع متكرر مع نفسه ومع العالم عبر اسطورة يموت فيها ويحيا (وإن كنت أعتقد وأفضل ينام فيها ويصحو لأن الحياة لا تموت) يتصور ايشوكو أن لعنةً أصابَتْه لأنه لم يقدّم الاله على نفسه ولم يفضله حين كاد يقتله الجوع فأكل السمكة الوحيدة التي يمكن أن تنقذ حياته ولم يقدمها قربانا للإله سين. 

الرحلة الثالثة تنطلق من ميناء خور جراما في صور العُمانية. يروي عبد الله تفاصيل الرحلة المقررة إلى بمبا بإفريقيا بغرض المتجارة بالعبيد وغيرهم من (البضائع) الأخرى!

الشخصية الأساسية التي ترتكز عليها الرواية وتبني من خلالها رؤيتها هي شخصية إيشوكو ورحلته، أما رحلتا السنبوق وأنفستيجاتور فضروريتان كتقنية فنية تحتاجها الحبكة الروائية لخدمة الرؤية العامة لمضمون الرواية الذي أراد المؤلف طرحه وايصاله للقارئ، فجاء ذكر الرحلات الثلاث رغم اختلاف الأبطال واختلاف أزمنتهم وغاياتهم ومشاربهم بغرض تأكيد أن الحياة هي أساسا رحلة بحث متواصلة قد يكون للصدف تأثير كبير فيها لكنها تبقى مغامرة متحركة لا تنتهي، وقد تؤشر نهاية الرواية التي تتشابك فيها خيوط الأبطال الثلاثة وتنتهي بما يشبه اللقاء في عصر واحد وزمن واحد، قد تؤشر إلى أن السؤال الذي يشغلنا كبشر سؤال متشابه وربما متطابق وأن المصير مشترك رغم اختلاف التفاصيل.

ولئن استعان الكاتب بالأسطورة فإنه لم يعتمد على أسطورة تاريخية محددة ليبني عليها وحواليها روايته، بل ألّفَ وبنى أسطورته الخاصة انطلاقا من أفكار مستوحى بعضها من الأساطير في حين أن الأحداث والرؤى والتفاصيل هي من خلق وإبداع الكاتب وليست إعادة لأحداث أسطورية. وأسطورة بسام علي ليست من أجل أن يؤمن القارئ، بل لكي يشك أو عل الأقل لكي يبحث ويطرح الأسئلة فكأن أسطورته الخاصة تناقض الغرض الأساسي للأساطير التي يكون غرضها الأساسي ترسيخ المعتقد وتأكيد اليقين. ورغم هذا النفس الأسطوري في الجزء الأهم من الرواية (رحلة ايشوكو) فإن الرواية لا تغرق في التعتيم وتبدو رمزيتها واضحة وغير مخفية لأن الكاتب كما قلت بنى أسطورة خاصة به من أجل إيصال ما يريد إلى القارئ ولم يغرق في التشعب في ايحاءات الأساطير القديمة.

أهم ما يمكن ملاحظته وما يبقى في الذهن بعد قراءة « لعنة سين » يختلف من قارئ لآخر بحكم أنها رواية مفتوحة على التأويل وقابلة لأكثر من فهم بحسب مستوى القارئ. بالنسبة لي لاحظت التالي:

لا تهتم الرواية بالتفاصيل الصغيرة للأحداث إلا بقدر ما تكون تلك التفاصيل جزءا من الرؤية العامة أو الثيمة التي تسعى الرواية لرسمها. تسائل الرواية المعتقدات ليس من خلال نقاش فكري بلغة فلسفية جافة، بل من خلال حبكة روائية ذكية تتمثل في الدخول في الأسطورة والعيش فيها كواحد من شخوصها والمؤمنين بها وذلك من خلال متابعة إيشوكو (والعيش معه) والاقتراب منه ومن أحداث حيواته ومشاركته معاناته. ندرك من خلال رحلة إيشوكو بين الأزمنة أن الآلهة التي تُعبد بأسماء مختلفة بحسب اختلاف البلدان والأزمنة هي في الأصل نفس الآلهة في كل زمان ومكان وإن اختلفت الأسماء وبعض الطقوس. قد تكون صدفة أن الرواية تقوم في جزء منها على مركزية الإله سين، وكلمة/حرف سين مقترن عادة بالسؤال في سين وجيم (سؤال وجواب)، وأيضا سين هو اسم لإله القمر في بلاد بابل وآشور، معروف كذلك باسم نانار أو نانا وتعني المنير. هنا تشتغل المفارقة واللعب على المعاني المتعددة لمفردة واحدة ومستويات دلالتها.

أخيرا.. تبقى هذه القراءة واحدة من عدة قراءات لا يمكن أن نحكم عليها بالخطأ أو الصواب لأن « لعنة سين » كما سبق وذكرت رواية قابلة لأكثر من تأويل ومفتوحة على مزيد من الأسئلة والحيرة والقلق فهي تحاور الوجود وتسائل الإنسان وتدعوه إلى التأمل أكثر مما تحرضه على الشك المباشر في معتقداته، وقد تكون لذة الحياة في لذة البحث وليس في سبات اليقين.

لعنة سين رحلة بحث عن المعنى الجوهر، ربما معنى الإنسان في علاقته بمسألة القدر والمصير.. رحلة لا نعود منها بيقين مطلق فاليقين المطلق شبيه بـ(حياة ميتة). الانسان في هذه الرحلة الأسطورية يواجه عبثَ لعنةٍ دائمة حيث تطارده الأسئلة المستحيلة التي لا تعرف اليقين ولا يمكن أن تكون إجاباتها إلا احتمالات فقط.. مجرد احتمالات؟

لعنة سين صدرت عن دار عرب لندن 2023 للروائي العُماني بسّام علي، وقد سبق أن صدر له: فصام الأديان، وعزلة الرائي.

خاص قناص

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى