صدر حديثاً رواية « متاهة الأوهام » للكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج عن دار هاشيت أنطوان/نوفل في بيروت، هنا فصل من الرواية (الكتاب الثالث):
***
لا يتذكّر حتّى اسمه ولا يعرف أين هو مستلقٍ الآن وليس يتذكّر سوى أنّ هذه نوبة الصداع الأشدّ التي تصيبه.
ليمنع خيوط ضوء الصباح من التسرّب إلى عينيه، ضغط جفنيه بكامل عزم القوّة الممكن لجسدٍ منهك استيقظ لتوّه من نومٍ لم يشف للتعب غليلًا. لولا أنّه لا يتذكّر شيئًا لقال إنّه استيقظ أكثر تعبًا ممّا كان قبل نومه. لم يكن بمقدوره أن يفتح عينيه. موجات الضوء المنفلتة من الحقل الكهرومغناطيسي لذرّات سبيكة زجاج النافذة وجزيئاته المارقة عبر الثقوب الدقيقة للستارة القاتمة اللون كانت كافية لتشعل في رأسه الحرائق. عندما فتح عينيه أوّل ما فتح، حين استيقظ، شعر بموجة عاتية تنهال على عينيه وأحسّ بقنبلة تنفجر داخل رأسه. أحسّ بالشظايا تطير في كلّ تجاويف جمجمته. عضّ شفتيه ليمنع الصرخة من الإفلات وعاد ليطبق الجفنين على العينين، قبل أن يتورّطا بانفتاح غير مأمون العواقب. تردّدت في دماغه أصوات نواقيس ضخمة. أجراس مثبّتة في أبراج قلاع نابتة على سهول شاسعة وأجراس في أبراج قلاع أعلى الجبال، وتشارك الصوت الخالد القادم من السهول مع الصدى المتردّد بين أودية الجبال، واهتزّ دماغه حتى إنّ الاهتزاز يكفي وحده ليفتّت الجبال. ثمّة أيضًا الشعور القاتل بالغثيان. الرغبة الملحّة لإفراغ جوفه، ولو أنّه لا شيء في جوفه ولا قوّة لديه لدفع عصارة معدته إلى الصعود. إنّه الشعور المزمن والآثم برغبة التقيّؤ التي تطلّ من حافة حلقه وتبقى كامنة هناك. متردّدة لا هي تريد القفز إلى الأمام ولا العودة إلى الخلف. مستلقية على بطنها تطلّ من الحافة، كأنّها خائفة أن تسقط. كأنّها تعاني من رهاب الأماكن المرتفعة. الوضع هذه المرّة أسوأ من أيّ مرّة سابقة. إنّه لا يتذكّر شيئًا. لا شيء في ذاكرته. لا شيء إلّا مشاهد ضبابية من عالم الأحلام. يتذكّر الحلم. أو بالأحرى نهاية الحلم الذي حلم به مباشرة قبل أن يستيقظ. يتذكّر الحلم وهو ليس واثقًا من أنّه كان يحلم. ليس غريبًا عليه أن يحلم الحلم داخل الحلم، بدرجات تفرُّع تتجاوز تداخل الدمى الروسية ودوّامة الحكايات في الليالي العربية، حتى تختلط عليه العوالم ويتيه لا يعرف إن كان مستيقظًا أم نائمًا يحلم. شعر لوهلة، أو أطول، بأنّه كان هناك فعلًا ممدّدًا على الأرض الصلبة الباردة. حين عثرت عليه كان الوقت فجرًا. كان يلتحف غطاءً باليًا لا يمكن أن يحميه من البرد ويتكوّم على نفسه فوق قطعة من الكرتون لا تملك أن تمنع عنه شيئًا من برودة الأرض. كان الفصل شتاءً. كان صباحًا باردًا من نهايات يناير. انحنت عليه. وضعت كفّها على كتفه. لم يتحرّك. لم يشعر بشيء. مسّدت لحيته الكثيفة غير مبالية بالأوساخ المتراكمة عليها. فتح عينيه بصعوبة. ملامح الوجه ضبابية غير واضحة القسمات. لم يستطع أن يتحمّل النور. أغمض مجدّدًا. لا يزال الوقت فجرًا وستارة الليل الثقيلة لمّا تزل تنتظر يدًا إلهية تسحبها عن وجه النهار. «حبيبتي عواطف». همس ولم تسمعه. انحنت عليه أكثر. لامست أذنها شفتيه. قال: «خالة ميمونة. أفتقدك».
رغم أنّه حلمه هو بدا له كأنّه يشاهده من زاوية نظرها هي. كأنّه داخل رأسها هي. عرف من خواطرها المتدفّقة في رأسها أنّ افتقادها له أكبر. أنّها تبحث عنه منذ زمن. ترقّبت. سعت. اشتهت. تمنّت. طال الانتظار وبدا لها أنّها خسرته. فشلت في مهمّتها الوحيدة الموكلة إليها. لقد أغضبت القدر. لكنّها أصغر من أن تكون الخالة ميمونة.
لا يدرك كيف أنّها أغضبت القدر. فقط يعرف، بالأحرى أحسّ، أنّها اغتبطت بالعثور عليه. كما عرف من أفكارها الهائجة أنّه صار حطامًا نحيفًا، غزير شعر الرأس، كثيف اللحية، طويل الأظافر، حافيًا ممزّق الملابس، مكسور الأسنان، عطن الرائحة. لكنّها تعرف، كما عرف من أفكارها المبعثرة، عبثٌ أن تتوقّف عند هذا. لقد صار حطامًا وهو من الداخل محطّم تمامًا. بحثت عنه كثيرًا لكن كأنّما كان مخفيًّا عنها بتعويذة سحرية لم تجد إليه سبيلًا. أيّ مكانٍ تصل إليه تجده قد غادره توًّا. كأنّ القدر كان يسحبه بعيدًا عنها. كانت تعرف. لم يحن أوان اللقاء بعد. تصاريف القدر أحكامٌ لا استئناف لها. لا سلطة لها على القدر. عرفت أنّ عليها أن تنتظر. أن تسعى بحثًا عنه وتنتظر. ستجده عندما يحين الأوان. كان العقاب لها وله. عقابًا لها أنّها أخفقت في مهمّة أن تحميه وعقابًا له أن اختار الطريق غير الطريق. لكن هل كان حرًّا في الاختيار؟ قرأت له يومًا قوله إنّ سقف الحرّية منخفض ومسارات الاختيار محدودة محدّدة سلفًا. الحرّية مقيّدة في الاختيار من الخيارات المحدودة المنتقاة من قبل أن تُخلق إرادة الاختيار نفسها. هذه ليست حرّية. هي تعرف. هي تؤمن. القدر يأمر وهي تطيع.
لم يستوعب شيئًا من أفكارها المتلاطمة وإيمانها الغريب بسلطة القدر وحديثها عن التعاويذ السحرية. تلك لغة قديمة ما عاد أحد يحرّك بها لسانه. ماذا تعني بأنّه كان مختفيًا وهي تبحث عنه منذ شهور؟ ما هذا الطريق الذي اختاره؟ قالت أفكارها إنّها قرأت له يومًا. هل هو كاتب، صحافي، شاعر؟ هل فعلًا ما رآه حلم أم هي شذرة من ذكرياته الغائبة عنه تمثّلت له حلمًا؟ هي أسئلة لا حدود لها، كما دومًا هي كلّ أحلامه مسكونة بشبكة التساؤلات التي لا تمسك أيّ أجوبة. لا يتذكّر هذا، هو فقط يشعر بتلك الأفكار كأنّها كتلٌ مادّية ملموسة.
يحتاج لأن يفتح عينيه ليعرف أين هو. يرتجف الجفنان بحركات عصبية لكنّهما يأبيان الانفتاح. يشدّ أصابع اليدين على ما يبدو أنّها ملاءة السرير. يعضّ الشفة على الشفة. يُسخِّر الدفقة الأخيرة من مخزون الإرادة لديه وينفتح الجفنان ويشرعان عن عينين جاحظتين تقزّم بؤبؤ كلٍّ منهما بسرعة هربًا من الضوء الساطع الذي تدفّق عليهما. السقف لا يبدو مألوفًا. ليس سقفًا رآه من قبل، أو ليس سقفًا يتذكّر أنّه رآه من قبل.
رأى بطرف عينه ظلًّا باهتًا على يمينه. مال برأسه ووجد رجلًا يلتحف السواد من قمّة رأسه إلى أخمصي قدميه جالسًا على كرسيّ خشبي، يضع ساقًا على الأخرى، ويسند رأسه المائل إلى أصابع يمناه المستند مرفقها إلى مسند الكرسيّ.
«أخيرًا استيقظت»، تمتم الظلّ الباهت للرجل الملتحف بالسواد.
لم يستوعب الكلام الخفيض في البداية. تاه في ذهوله وحيرته. حدّق في الشعر الفاحم. البذلة الباذخة السواد. الحذاء اللامع من انعكاس ضوء الصباح المتسلّل من الخارج. عاد إلى الوجه. إلى بريق الحزن في العينين يلمع كما الضوء المنعكس عن الحذاء.
أغمض عينيه ثواني وزمّ شفتيه وحبس أنفاسه محاولًا التغلّب على دفقة جديدة من صديد الصداع المتهيّج. فتح عينيه وتنهّد. سأل. «من أنت؟ أين أنا؟ من أنا؟»، خرج السؤال الأول بصوت منفلت الوضوح مرتفع النبرة، وانخفض الصوت مع السؤال الثاني الممسك بذيل السؤال الأول، وحين سلّم السؤال الثاني دوره للسؤال الثالث تعثّر الأخير وتبعثر بصوت مبحوح غير واضح المخارج وغير مفهوم الأحرف.
اعتدل الظلّ في جلسته. فرّج ساقيه. انحنى إلى الأمام. شكلّ هرمًا بيديه المسندتين إلى فخذيه وأسكن ذقنه على أصابع اليدين المتشابكتين. حدّق بعينيه الواسعتين في الجسد المنهك على الفراش وتفرّس في وجهه طويلًا قبل أن يعود ويسند ظهره إلى ظهر الكرسيّ وتعود الساق إلى الساق.
– الوقت يمضي بسرعة. الفناء اقترب. أنت لم تنجز شيئًا من المهمّة بعد.
– المهمّة! أيّ مهمّة؟ لم تجب عن سؤالي بعد، من أنت؟
***
محمد سعيد احجيوج: روائي مغربي، من إصداراته الروائية: «ليل طنجة» (2022) التي فازت بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة، و«كافكا في طنجة» (2019) التي تُرجمت إلى الإنجليزية والكردية (الكرمانجية). «متاهة الأوهام» هي روايته الثانية الصادرة عن هاشيت أنطوان – نوفل، بعد «أحجية إدمون عمران المالح» (2020)، التي تأهّلت إلى القائمة القصيرة لجائزة غسّان كنفاني للرواية العربية (2022).