صدر حديثاً عن دار الرافدين وبالتعاون مع الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء، كتاب جديد للكاتب والإعلامي العُماني سليمان المعمري حمل عنوان “من مسافة قريبة”، حيثُ تضمن حوارات إذاعية أجراها المؤلف خلال عمله بإذاعة سلطنة عمان مع 17 كاتباً ومثقفاً عربياً، وهم: أدونيس، أمجد ناصر، بهاء طاهر، توفيق صالح، سماء عيسى، سمير جريس، صالح علماني، صبحي حديدي، عبدالسلام بنعبدالعالي، عبدالعزيز الفارسي، عبدالفتاح كيليطو، عبدالله حبيب، قاسم حداد، ماري طوق، نادرة محمود، هبة القواس، وواسيني الأعرج.
مقدمة كتاب سليمان المعمري “من مسافة قريبة” :
“أن تحب ما تعمل، لتعمل ما تحبّ”، لا أذكر في أي كتاب تنمية بشرية قرأت هذه العبارة، لكنها تلخص بامتياز عملي الإذاعي على مدى أكثر من ربع قرن. أستطيع أن أقول إنني كنتُ محظوظًا بوظيفتي في إذاعة سلطنة عُمان منذ مارس 1997م، سواء تلك السنوات السبع الأولى محرِّرًا للأخبار، أو ما تبقى من أعوام في البرامج الثقافية. فعلاوة على أنني أحببتُ هذه المهنة التي تصبّ في نطاق اهتماماتي اليومية بالقراءة والكتابة، أتاح لي عملي مُعدًّا ومقدمًا للبرامج الثقافية التعرف على كثير من المثقفين العرب ومحاورتهم، بل والارتباط بصداقات حميمة مع كثيرٍ منهم.
وإذْ أجمع اليوم هذه النخبة من الحوارات مع أهم الحاضرين في المشهد الثقافي العربي في السنوات الأخيرة؛ فإن الأمر يتعدى الرغبة في توثيق شيءٍ من عملي الإذاعي (على ما يحمله هذا الأمر من أهمية) إلى الرغبة في نشر عصارة فكر هؤلاء المفكرين والأدباء والفنانين، وآرائهم ورؤاهم في الفكر والأدب والفنّ والحياة. وإني واثق أن المتعة التي تحصلتُ عليها وأنا أستمع إليهم ستكون هي ذاتها المتعة التي يجدها القارئ وهو يقرأ هذه الحوارات التي تغطّي الفترة الزمنية من 2007م إلى 2021م وهي فترة زاخرة بفعاليات ثقافية كثيرة نُظِّمتْ في سلطنة عُمان واستُضِيف خلالها هؤلاء المثقفون، كلّ في مجال تخصصه، ثم انتهزتُ الفرصة واستضفتُهم بدوري في ستوديو إذاعة سلطنة عُمان، باستثناء اثنين فقط جرت محاورتهما بالهاتف، وثالث كان حواره عن طريق جهاز تسجيل خارجي في مدينة أبوظبي.
اخترتُ “من مسافة قريبة” عنوانا للكتاب ليس فقط لأن الحوارات كانت حميمية إلى درجة يمكن للقارئ أن يشعر فيها بقرب المسافة بين المحاوِر والمحاوَر، ولكن أيضا لأن “من مسافة قريبة” هو أقرب عناوين برامجي الإذاعية إلى نفسي، وهو برنامج بثته إذاعة سلطنة عُمان في الفترة من 2012م إلى 2016م، وشرُفتُ فيه بمحاورة أكثر من أربعين مثقفًا عربيًّا حول تجاربهم الإبداعية والفكرية المختلفة، لكنه مع ذلك لم يكن البرنامج الوحيد الذي حاورتُ فيه مثقفين عربًا، فقد سبقه برنامجان آخران هما “على ضفاف الإبداع” (2007م)، و”مسارات” (2008م)، وتلاهما برنامج “نوافذ ثقافية” الذي بدأ بثه سنة 2017م، ومازال مستمرًا حتى وقت صدور هذا الكتاب، وهو برنامج تقتضي مهمته تغطية الفعاليات الثقافية العربية، لكنه يستثمر أحيانًا فعالية ثقافية ما، يشارك فيها مثقف عربي متميز، فيحاوره حول مجمل تجربته.
في هذا الكتاب ستقف عزيزي القارئ على مشروع أدونيس الثقافي الذي يستيقظ في كل يوم ليجد نفسه جديدًا ،كما يقول. رحلة سنين طويلة من الشعر والفكر والجدالات الثقافية، قد تتفق معها أو تختلف، ولكنك لن تملك إلا الإعجاب وأنت ترى حضوره الذهني المتّقد في كل إجابة رغم أنه كان في وقت الحوار على أعتاب التسعين. وستقترب من عبدالفتاح كيليطو؛ الكاتب والناقد المغربي المعروف، الذي عَمِل على نحوٍ جعل منه فريدًا في الثقافة العربية، إذْ انجذب إلى التراث الأدبي العربي الكلاسيكي بمنعرجاته ودروبه العديدة، مقدمًا قراءات جديدة وفاتنة له، مؤكدًا أننا “حين نبحث عن الأول فإننا نبحث عن الأخير”. كما ستستعيد تجربة صالح علماني؛ المترجم الفلسطيني، الذي قدم للمكتبة العربية أكثر من مائة عمل أدبي مترجم من اللغة الإسبانية، مؤكدًا أن المترجِم مهما كان أمينًا أو ظن أنه كذلك، لا بد أن يكون ثمة تأثير لثقافته وروحه في النص المترجَم، وهو رأي يشاطره فيه المترجِم المصري سمير جريس، أحد ضيوف هذا الكتاب أيضًا، والذي قدم للقارئ العربي عددًا من أهم الروايات الألمانية المعاصرة، ولا يقل حواره متعة عن حوار علماني، خصوصًا عندما يتدفق في ما يواجهه المترجم العربي من تحديات، وأهمّها أن “النص المترجَم ينبغي ألا تُشْتَمَّ فيه رائحة الترجمة” كما تقول المترجمة اللبنانية ماري طوق، التي قدمت لنا هي الأخرى أجمل الأعمال الأدبية المكتوبة بالفرنسية. ماري طوق هي إحدى ثلاث مثقفات عربيات سعدتُ بضمّ حواراتهن إلى هذا الكتاب. الثانية هي الفنانة التشكيلية العُمانية نادرة محمود التي هي بحق “الواجهة الحضارية لعُمان” كما وصفها بعض المتذوقين لفنّها الذي وهبت له حياتها كلها، وأنفقت عليه من مالها الخاص، دون انتظار هبات من هنا، أو دعم من هناك. أما الثالثة فهي الموسيقية والمطربة الأوبرالية اللبنانية هبة القواس التي قرنتْ موهبتها بالدراسة إيمانًا منها بأن “الموهبة ليست كل شيء، فهي تنتهي ولا يتأتى لها أن تتطور دون المعرفة”.
وإذا كانت هبة القواس سعت إلى الصعود بذائقة المتلقي الموسيقي العربي إلى ذُرى جديدة، فإن المفكّر المغربي والباحث في الفلسفة عبدالسلام بنعبدالعالي حاول جاهدًا –ولا يزال– النزول بالفلسفة من عليائها نحو المتداول اليومي، بعد أن “أصبحنا نفكر لا بما نرغب أو نعتقد، وإنما بما يُرغَب لنا أن نفكر فيه” كما يقول في حواره الذي أسعدني أنه أول حوار إذاعي يُجريه خلال مسيرته الثقافية، وهي السعادة ذاتُها التي خامرتني وأنا أحاور سماء عيسى، الشاعر والكاتب العُماني المعروف، الذي أزعم أن حواره في هذا الكتاب، هو الحوار الإذاعي الوحيد عن تجربته الثقافية المتوزعة بين الشعر والمسرح والسينما والمقال والنشاط الثقافي الميداني، وهي تجربة شبيهة في تنوعها بتجربة صديقه الشاعر البحريني قاسم حداد الذي امتاز عبر تاريخه الأدبي الطويل بالانفتاح على الفنون التعبيرية، من مسرح وموسيقى وتشكيل وغيرها، وتميز شعره بالجدة والابتكار والتنوع، ولغته بالحيوية والابتعاد عن قوالب التعبير الجاهزة. لا عجب إذن أن يقول في حواره: “أنا خارج الكتابة كائن هش لا معنى له”.
أما بهاء طاهر؛ الروائي والقاص المصري الكبير، فإنْ أنسَ لا أنسى حكايته الطريفة عن ابنته التي سردها لي وهو يضحك، واختصارها أنها كانت تَدْرُس في كليّتها الجامعية مادة في الأدب، وكانت قصة من قصص أبيها ضمن هذه المادة، وفي ليلة الامتحان طلبت مساعدة الأب في تحليل القصة، وعرضتْ عليه مذكّرة كتبها أستاذها الجامعي. لم يقتنع بهاء طاهر بتحليل الأستاذ وقدم لابنته منظوره الخاص للقصة التي كتبها، فاقتنعت البنت وقدمتْ في الامتحان رؤية أبيها للقصة لا رؤية الأستاذ، فكان أن حصلت على درجة متدنية ظلت بعدها تلوم أباها فترة طويلة. هذه القصة على طرافتها تقول الكثير عن سوء الفهم بين المبدعين والنقّاد، ولَطالما اشتكى المبدع من غرق الناقد في نظرياته وعجزه عن فهم النصّ الإبداعي، وفي المقابل كم من ناقد دعا المبدعَ إلى الانتباه لما يقول عن إبداعه ليتعلم ويتطوّر. ونادرًا ما وجدنًا ناقدًا لا يؤمن أن على المبدع أن يتعلم منه، ومن هؤلاء النادرين صبحي حديدي، الناقد السوري المعروف، الذي يتبنى في حواره في هذا الكتاب عكس هذه المقولة، فالناقد لديه هو الذي ينبغي عليه أن يتعلم من المبدع وليس العكس، ربما لأن النقد هو عملية تالية للإبداع، كما يقول الكليشيه الثقافي الشهير. وإذا كان ثمة مثال عربيّ على تعلُّم الناقد من المُبدع، فهو واسيني الأعرج، الكاتب الجزائري المعروف، فقد تعلّم الناقد فيه أن يتنحّى جانبًا ليتفرّغ المبدع لكتابة رواياته الجميلة. لكن المبدع واسيني حين يتحدث في حوار – كما هي حاله في هذا الكتاب – سيُدْهشك برؤاه النقدية في فن الرواية، لا سيما حين يتحدث عن طريقته في كتابة الرواية المستلّة شخصياتها من التاريخ، حيث على الروائي ألا ينسى –كما يقول- أنه بصدد كتابة رواية لا تاريخ؛ إذ في هذه الحالة سيكون مؤرخًا فاشلا إذا كان التاريخ هو ضالته الأساسية، وسيكون في الوقت نفسه أديبا فاشلا إذا لم يستطع أن يوظّف المادة التاريخية لخدمة مساره الروائي. هذا التوظيف للتاريخ لدى الأعرج، سيكرره أيضًا أمجد ناصر، الشاعر الأردني المعروف– أحد ضيوف هذا الكتاب- ولكن في قصيدة النثر، مؤكدًا أن الإبداع من شأنه دائما خرق القوانين واجتيازها وتوسيع الحدود التي يحاول النقد أسره فيها.
كان للسينما حضور أيضًا في “من مسافة قريبة” من خلال حوار توفيق صالح، المخرج السينمائي المصري، الذي لم يصنع أفلامًا كثيرة بقدر ما صنع سينمائيين وجمهورًا وكرامة للسينما على حد تعبير محبيه، والذي ينصح سينمائيي اليوم أن يحلموا، وأن تكون أحلامهم حقيقية، وضرورية، مشدِّدًا على ضرورة إنتاج أفلام تشتغل على التأمل، وتجعل المتلقي يخرج من دار العرض السينمائي ليناقش ما اكتشفه في الفيلم من فكر ورؤية جديدة مع الآخرين. وإذا كان جّل حوار توفيق صالح مكرَّسًا للسينما فإنه من الصعوبة حصر حوار مع عبدالله حبيب، المثقف العُماني البارز، في السينما فقط، فهو متعدد المواهب والميول الكتابية، ما يجعل الحوار معه نزهة في حديقة من المعرفة والرؤى والتأملات، وهي المتعة ذاتها التي يجدها محاوِر عبدالعزيز الفارسي؛ القاص والروائي العُماني، وهو يتحدث عن كنز القصص الذي وهبته إياه مدينته الأثيرة شناص، وعن إيمانه بأن القصة حكاية في المقام الأول، وأن على اللغة ألا تتبرج كثيرا في النص السردي، ولا تُقحِم فيه زوائِدَها الفجة. وهنا أفتح قوسًا لأقول إن هذين الضيفين الأخيرين (عبدالله حبيب وعبدالعزيز الفارسي) هما الوحيدان اللذان لم يكن حواراهما في هذا الكتاب إذاعيَّيْن (وإن كنتُ قد حاورتُهما إذاعيًّا في مناسبات أخرى) وإنما كانا حوارَيْن صحفيَّيْن؛ الأول للملحق الثقافي لصحيفة القبس الكويتية سنة 2021م بطلب من الصديق الشاعر دخيل الخليفة، والثاني لفصلية نزوى الثقافية سنة 2008م بطلب من مدير تحريرها –آنئذ- الأستاذ طالب المعمري.
وقبل أن أترك القارئ الكريم للاستمتاع بهذه الحوارات، لا أنسى أن أتوجه في الختام بالشكر الجزيل للجنود المجهولين الذين كان لهم الفضل في إخراجها إذاعيًا في أبهى صورة سمعية، وهم زملائي المخرجون الإذاعيون محمد بن ناصر المعولي رحمه الله، وحمد الحبسي، وحمد الوردي، وخالد درويش، وعلي العجمي، متعهم الله بالصحة والعافية. كما لا يفوتني أن أشكر الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء على تبنيها طباعة هذا الكتاب، وأخصّ منها صديقي الكاتب خلفان الزيدي، مشرف مشروعها لطباعة الكتب، الذي صبر عليّ كثيرًا أثناء مراجعتي وتحريري لهذه الحوارات.
***
سليمان المعمري: كاتب وإعلامي عُماني من مواليد عام 1974. صدرت له روايتان: “الذي لا يحبّ جمال عبد الناصر” (2013). و”شهادة وفاة كلب” (2016) وهي رواية مشتركة مع الكاتب الراحل عبد العزيز الفارسي. وثلاث قصص قصيرة: “ربما لأنه رجل مهزوم” (2000). و”عبد الفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل” (2009)، و”الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة” (2006). التي تحصّلت على “جائزة يوسف إدريس للقصة العربية” (2007). له في المقالات كتابان أيضاً: “يا عزيزي كلنا ضفادع” (2007)، و”نظري ضعيف وعندي نظارة” (2022)، وكتاب سيرة مكان بعنوان “كائنات الردّة” (2018)، كما أعدّ كتاب “ليس من زماننا” حوار وشهادات عن الكاتب عبد الله حبيب (2015). بالإضافة إلى عدد من الكُتب المشتركة مع مؤلّفين آخرين.
ألف مبروك للأستاذ سليمان المعمري، جهد كبير وممتع