في أصياف مُراهقتي التي أقضي معظمها في قريتي الظاهر، اكتشفتُ كنزاً عجيباً: مكتبة عمي عيسى. صالة واسعة جداً تملأها الكتب في رفوف خشبية. وحتى لا يعبث الغرباء بها، كان يقول لأولاده: لا أحد يدخل غرفة المكتبة، أيّاً كان، إلا سالم، غامزاً لي بابتسامة تركلني للذهاب إلى البعيد.
في تلك الصباحات، كنز يَفْغر فاه ويقول لي: هل من مزيد!
عندما أكون في مسقط، يأخذني أبي معه إلى حيث كان يعمل، في وزارة الإعلام. عرّفني على أحد زملائه المقربين، مدير نادي الصحافة.
نادي صغير، يحتوي على صالة للندوات، حوض سباحة، مطعم، صالة بلياردو، ومكتبة. وبينما يقضي أبي ساعات العمل في مبنى الإذاعة مُحرراً الأخبار، كنت أقضي تلك الساعات في مكتبة النادي.
مكتبة صغيرة، لكنها تحوي كتباً أشتهيها. هناك تعرفت على صاحب “أولاد حارتنا”، وغرقت في روايات نجيب محفوظ. رواية أخذتني عميقاً، لا أذكر اليوم إسمها. قصة حب، يموت في نهايتها البطل بالسل، بعد أن ابتعدت عنه خطيبته وأصدقاءه حتى لا يصابوا بالعدوى. دخلتُ في مرحلة حزن متأثراً بطريقة موت ذلك الشاب. ربما لأني كنت في عُمْر المراهقة، الذي تستشيط فيه الانفعالات العاطفية. لكن بالتأكيد أن نجيب محفوظ كان بارعاً، فقد كنتُ حاضراً في الغرفة التي يحتضر فيها الشاب. صرتُ واحداً من شخوص روايته!
غرفة المكتبة؛ في بيت نور الدين، غرفة مُلحقة بالمجلس الذي كان يلتقي فيه بزعماء القبائل وطلاب العلم. وفي مدخل ذلك المجلس فناء مُغطى بحصى الوادي الأبيص الناعم الصغير، أمامه يعبُر الفلج بخريره . تلك المكتبة كانت عامرة بمخطوطات كتب نادرة، وبالمخطوطات الأصلية لمؤلّفات نور الدين السالمي.
هكذا نشأتَ وعبارة “غرفة المكتبة” يَطِنُّ صداها في أذنك الصغيرة، إلى اليوم.
وأنا أتذكر هذه الكنوز، أصطدم بمكتبة بابل، مكتبة بورخيس، ذات الرفوف السداسية غير المتناهية. أدخل في المتهاهة الشيقة تلك، بحثاً عن ذلك الكتاب، كتاب كل الكتب.
كل سَطْر من كتاب يُسلّمكَ إلى سطر في كتاب آخر، كل حكاية تُحيلك إلى حكاية أخرى، وكل قصيدة تبحث عن قصيدة سوف تأتي. إنها متوالية أبدية، وهذا هو سرّ الكنز:
لا يفنى…
– مقطع من كتاب سردي قيد الطبع بعنوان «منازل طَلْعة الشمس».