غزّة وجنّين: قصيدتان للشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى
في غزّةَ.. لم تعد صورُ الشهداءِ تسندُ جدران البيوت التي مالت بعد القصف على جثث القتلى،

الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب غزّة وجنّين …
غزّة
أن يستيقظ البحر على أصوات الصيادين
ورائحة الأسماك الطازجة تفتٌن الهواء وجيوب المارة أمام الميناء.
أن يتزاحم في متر مربع واحد بشرٌ طيبون بألوان وأحلام تشبه قوس قزح،
يفكرون بمدن أخرى كي يكتشفوا أنهم لا يحنّون إلا إليها.
غزة
أن يرسم عاشق على حائط جارته وردة حمراء قد تحبّه لأجلها،
أو أن تتفقّد بنت ظلّ أحدٍ تشتهي أن يتبعها في الطريق إلى الكورنيش،
أن يتعب الأطفال من محافظهم المدرسيّة كمن يحمل العالم على ظهره،
ويخجلون من أنفسهم حين يخطئون بإعراب «بلاد العرب أوطاني».
غزة
أن تعثر على امرأة تحمل الخضار في سلّة القشّ بيدها اليمنى،
وفي اليسرى تستدرج الماء الّذي انقطع منذ أيام في المدينة إلى بيتها.
أن يسخر صاحب ورشة الحدادة من صاروخ تأتي به حرب جديدة ليقطع رزق عياله،
أو ان يضع زائر مقبرةٍ آخرَ شتلة ريحان على قبر بأسماء وأشلاء كثيرة تركتها الحرب الأخيرة .
غزة
أن يضع شاعر في قصيدته ليلكة في مزهريّة على طاولة في مقهى قد يلتقي فيها من قد يحب،
أن يحلم العشّاق بدار سينما تعرض أفلاماً هندية ً ترِقّ بعدها القلوب،
أن يتصوّر المهووسون بنجوميّة عمر الشريف ومحمد عساف بمسرح ودار أوبرا.
غزة
أن يتمنى أعداؤها لو رأوها غارقة في البحر.
أن تبقى تغيظهم بالرائحة ذاتها التي لا تشبه رائحة مدن أخرى
وتفسد نومهم بأن تزورهم في الحلم بأطفال يمدّون لهم ألسنتهم قبل أن يعودوا إلى غدهم..
٢-
في غزّةَ
لم تعد صورُ الشهداءِ تسندُ جدران البيوت التي مالت بعد القصف على جثث القتلى،
لم يجدوا البحر يطل، كما كان، على دفاتر رسم الأطفال من نوافذ مدارس الأونروا .
الزجاج المكسور يلمع على أكتاف الطيارين الضجرين الذين لم يتمهلوا قذائفهم الذكية لتخطئ أجسادهم،
لم يتركوا شجرة ليختبئ الأولاد، أو غصناً ليجعله الجد عصا يهشّ بها خيبة الماضي .
في غزة
لم يعثر المارة، وقت الهدنة، في أحلامهم على مدن أخرى فيعودوا منها بأطفال يبتسمون كثيراً
وجوازات سفر ترطن أسماءهم،
فاكتفوا بالتجول في غرف الموتى قبل أن يقصّوا سيرتهم على مقتنصي الأخبار الأولى .
في غزة
تكتشف الأم التي انتهت للتو من غزل كنزة لابنها أن الشتاء مضى،
وأنه لم يعد من الحرب الأخيرة،
وتقبّل امرأة خطيبها، أمام الكاميرات، في ثلاجة الموتى .
لم يعد أحد من هناك، تقول، فلا تناد على أحد.
في غزة
حتى النوارس لا تموت من الشيخوخة،
فيما يتذكر من تبقى منا بعد تلك الحرب أنه لا يزال على قيد الحياة.
***
جنّين
١-
ج:
جُعِلتِ شجرة لأسمائِنا كلّنا
كي نناديكِ: يا أختَنا كلّنا
يشبهنا النهر لأنّ الغيم يتبعنا.
عودي بنا إلى نبعكِ العالي أعلى الجبال
حتى نصدّق أنّنا المجرى
وأنّا المصبّ.
ن:
نصعد، مثلك، أعلى الصلبان
ثلاث ليال سويّاً
لنروي،
ونذكرَ.
ندَعُ الموتى، على غفلة من المرايا، يدفنون موتاهم،
وندعو رائحة اللوز أن تتجول في المراعي،
وبين البيوت التي هرمتْ في انتظار عودة ساكنيها،
ونبقى نحرس البئر القديم من شبح الهدهد الأعمى.
ي:
ينبغي الخروج من الكهف، كلّنا وكلابنا معنا،
كي لا تتلاطم في العتمات ظلالنا الباردة.
لم نعد تتبعنا السواقي والقطا منذ أقمنا في حديث الرواة،
قسّمنا المرايا فلا نرى وجوهنا في الماء،
وتقاسمنا البلاد فضاقت علينا .
فاجعلينا عبرة لمن رآكِ فَسُرّ
وصلّى لأجلكِ.
ن:
نحن، مجرّد «نحن»،
حيثما يهتدي الضالّون إلى عجلهم،
ويختلي أبناء السبيل بأنفاس المرسلين،
ولا يكتفي العائدون من الحرب إلا بأسماء من انتظروا الموت فيك على الشواهد .
نحن. ما نحن إلا مجوّد «نحن»
نستحقّكِ.
لكنّنا يتامى.
٢-
ي:
يوماً ما
سنتلو عليكَ كتابكَ:
أهدرت ماء أصلابنا في البئر كي تفوز برحمة اللصوص،
نحن المرسلين إليك،
وربّيت الأفعى تحت قميصكَ حتى تقاسم الرعاة الّذين رأوا نجمهم للتوّ العصا والناي.
أنتَ الّذي أذنت للغريب أن يستظلّ بالجدار،
حتّى أضعنا البيت.
ن:
نرقى على الأكفّ الّتي هرمتْ بالدعاء من أجلنا.
نرقى على الشواهد الّتي آختْ أسماءنا الأولى.
أعلى كثيراً
من صوت المؤذّن
ورنّة الأجراس.
ولم يتمهّل الموت، موتكَ يا آخر الأوّلين، غدنا
فنصرخ: «اهبط إليهم وحدك، دوننا».
ج:
جسد آخر يُشبهني
يكفي لتكتمل الصورة،
وينهي مروّجو الشائعات نشرة الأخبار.
جسد آخر أشبهه
يدخل، مثلي، إلى المرآة
ويقول لي :
أنتَ، يا مجرّد «أنتَ»،
كأنّك تُشبه الليل
لم تحمِ ظلّي في غيابي .
***
قصيدتان للشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى: غزّة وجنّين

عبدالله عيسى: شاعر وأكاديمي فلسطيني يقيم في موسكو، أصدر العديد من الأعمال الشعرية والمسرحية والنقدية، إضافة إلى ترجماته لأبرز الشعراء الروس، وحاصل على العديد من الجوائز العربية والدولية. من مواليد 15 كانون الثاني عام 1964 في مخيم ببيلا الواقع في ريف دمشق. دبلوماسيّ في سفارة دولة فلسطين لدى روسيا الاتحاديّة، مسؤول الشؤون الثقافيّة والإعلاميّة منذ عام 2015 حتّى الآن.