إنه انخطاف بالتفكير في الماضي، عودة مفاجئة في الذاكرة المتجردة جعلت جوهر الشيء يشع ليبعث في الماضي حياة، كقوة نشطة، وبهذا لا ينزل الماضي إلى العدم، بل يُصبح أحد الطرق التي تتم بها مواجهة الحاضر، والاستجابة له.
في قلب حارة «مصْفيَّة» وعلى أرض يباب تلامس الساحة التي تقام عليها مختلف أشكال الفنون الشعبية في مناسبات معينة وأوقات محددة غالباً ما تكون ليلا، هناك أنشأ العم عاجب نفسه بنفسه عريشاً في مساحة لا تتعدى أربعة أمتار مربعة متساوية طولاً وعرضاً تقريباً وارتفاع منخفض ليتخذه معملاً صغيراً للحدادة، شكَّله بتوليفة طبيعية بسيطة، متجانسة، فجعله مُحاطاً بسعف النخيل «الخوص» الجاف المنسوج يدويا، فصناعة الخوص من سعف النخيل المتوفر في الطبيعة من حولهم واحدة من المهارات التي أتقنها العمانيون وساهمت فيما مضى في بناء المنازل، وتأمين احتياجاتهم، أختار العم عاجب أن تكون عوارض سقف العريش من سيقان نبات “البامبو” المجوفة الأخف وزناً لتحمل «الدَّعن» الذي يشكل السقف، والتي تستورد وقتئذ بواسطة السفن من الجزر المتواجدة في المحيط الهندي، بينما أعمدة الزوايا من جذوع النخل كونه أكثر احتمالاً لتفاعلات التربة والرطوبة، ولا حاجة له للخشب الذي أسعاره أعلى بكثير من جذوع النخل وسيقان البامبو.
في طفولته قد يكون العم عاجب تعرض لحادث عرضي، أو هكذا هي خلقته، لا نعلم حقيقة أمره، فهو قليل الكلام وعندما تحاصره الأسئلة الحرجة يقابلها بابتسامة، وضحكة خفيفة، يستمع لأي شيء، ولا يبوح بشيء، فقد كان يعاني منذ الصبا الباكر من صعوبة في النطق لا تنفك عن إرباكه، وإعاقة في قدمه اليمنى جعلته يمشي في عرج على مشط القدم، لكن خطواته سريعة وخفيفة. هو العامل الوحيد في معمله، ما من أحد يساعده، يقضي نهاره كاملاً في صناعة المسامير الكبيرة ذات الرؤوس المقوسة التي على شكل نصف دائرة، والتي تدخل في صناعة السفن الخشبية والأبواب، إلى جانب صناعة السكاكين بإتقان، وشحذها، كان يواصل العمل منذ الصباح وحتى الغروب، لا يتوقف إلاَّ في أوقات محددة، وكان في حالات معينة يسعى إلى منادات البعض من أطفال الحارة العابرين أمام عريشه معرباً عن رغبته لمن يرغب في مساعدته حينما يفيض عليه العمل في الأعياد والمناسبات نتيجة لإرتفاع الطلب على السكاكين الجديدة، والعمل على شحذ القديم منها.
كنّا نمد له يد المساعدة بفرح، فيشعر بغبطة وكأنما نزعتَ عنه التعب وعذابات العمل، ولكننا لا نستطيع العمل معه لفترة طويلة، لعدم قدرتنا على إحتمال حرارة النار الملتهبة، وغالباً ما كان يطلب منا الرحيل حينما يشعر أنه لا قدرة لدينا على احتمال المزيد من الحرارة العالية. فقد كان على خُلق عالي، متعاونا، وكريماً ما استطاع إلى ذلك، شخصية محبوبة من كل أفراد الحارة، دائماً ما يستقبل الإنسان بابتسامة جذابة تعلو ملامحه، هي بمثابة محور علاقاته الإجتماعية الفذّة.
خاض العم عاجب تجارب عملية عميقة قبل أن يمتهن الحدادة مكَّنته من إدراك الطبيعة الأختلافية بين البشر، وشكَّلت بالتالي علاقاته الإجتماعية والعملية، فقد عمل بحاراً في إحدى السفن العملاقة إبان مواسم زنجبار، ثم في عملية بناء منازل السَّعف، إلى أن استقر نهائياً في مهنة الحدادة إثر بلوغه منتصف الخمسين.
كان دورنا في المعمل نحن الأطفال يتمثل في تفعيل أداة الإشتعال لعلها تسمى (الكِيرْ) وهي عبارة عن قربة من جلد البقر بفوهة خشبية ومِقْبضين من خشب، فنعمل على آلية فتح وإغلاق القربة لتوليد الهواء المضغوط باتجاه «الكانون» لتأجيج الجمر حتى يصل لأقصى درجات التوهج، في حين يقوم هو بدفن مجموعة من السكاكين الصدئة المراد شحذها في الجمر فيختار واحدة يعرضّها للنار الملتهبة، يرقبها، ولا يسرح ببصره حتى تتحول هي الأخرى كالجمرة، آنئذ يرفعها ليقوم بطرقها بعنف بمطرقة ثقيلة لا صوت يعلو صوتها، ثم يشحذها بعد تبريدها بالماء الفاتر في آنية نحاسية بأداة حديدية مسطَّحة ومسنَّنة حتى تبلغ الحدة اللازمة، أو يعمل على صناعة سكاكين جديدة، أو مسامير من صفائح الحديد، فقد وجد نفسه مُجبراً للعمل في هذه الحرفة وفقاَ لقوانين الضرورة، للهروب من تفاهة الفقر وضغائنه، بعد أن توقفتْ في مدينته مواسم الإبحار إلى زنجبار وغيرها في بداية الخمسينيات من القرن المنصرم، ولم تعد هناك حاجة للمنازل السعفية، حينما بدأ العمل بالمنازل الأسمنتية.
بعد فترةٍ وجيزةٍ لحقت بالعريش بعض الأضرار، كانت بسبب الإعصار، ولم يبدِ الكثير من الإحباط إزاء ما حدث، واصل العمل في العريش بوتيرة مطردة، سيأتي من يساعده، لكنه عادة كان يعمل وحده؛ يحفر، يربط ويقطع، وفي أيام معدودات أستطاع إصلاح الأضرار التي لحقت بالعريش. كنا نُدهش ونستغرب من مدى صبره، وقدرته الخارقة للعمل سيما أثناء فصل الصيف الحارق، وفي مواجهة النار المتوهجة، بينما العرق يتصبب من جبينه قطرات متتالية ثقيلة كالندى على جبينه، وهو لا يمد يداً لمسحها، برغم أن عينيه ملأى بالأحتراق، في حين يكاد العرق يغمر جسده، الذي يلفه قميص «ساسوني» من الكتان الشفاف بدا ملتصقا به، إلّا من فوضى فقاعات هواء.
كان العم عاجب صباح كل يوم جمعه يزور الجيران يحمل شيئا من الصالونه المكونة من اللحم المحلي الطازج والطماطم الحية يبتاعه كل جمعة حيث لا يتوفر في المدينة إلاَّ في هذا اليوم من كل أسبوع، وكان يُطهى بواسطة زوجته حَبُّوه «سعادة» التي لا تقل عنه شأنا في الطيبة، وحسن المعاملة، فكان مذاقه مميزا، فضلاً عن أنه كان يطوف يومياً على الجيران في الحارة قبل توجهه إلى المعمل لتلبية احتياجاتهم من السوق.
كان عمله يثير فينا نحن الأطفال الإعجاب بغرابة، ويقدم لنا في الوقت نفسه درساً طبيعياً في القدرة والتحمل، أبعد غوراً، وأكثر استواءً، ليس باستطاعة القوالب الأخرى أن تقدمه. فكَّرتُ في النار المشتعلة، وفي الإحتراق الذي يواجهه، ولو تأملنا طبيعة العم عاجب لعثرنا على تآلف إنساني أخَّاذ مع رجل يبدو باهتًا، نحيلًا، وصامتًا معظم الوقت!