ترسم الشمس الغاربة طريق عودتنا إلى البيت، يبدأ النهار فى الاختفاء التدريجي حتى تطفو العتمة من خبايا الضباب. فى غبش الغروب غيمةٌ مِن دخان تطير وتتراقص، ينصب الكون حولنا الفخاخ.. كم من الطيور يكوّرها غروب الشمس فى شِباك الصيادين! بيوت طينية تنفس دخانًا، يسيل الدخان ويغمر لونه الرمادي الأفق الذي تعبره الطيور الناجية إلى أعشاشها، تضرب الأدخنةَ بأجنحتها، تشق لها طريقًا فى العتمة.
أشاهد الكونَ من خلال عيون مهتاجة بأشعة الشمس الصفراء، رائحة الليل القادم تتسكع لوقتٍ طويل فى الدروب، يتلاشى الضوء الأخير للنهار المارق، يسلّمني ضوء النهار قبْل أن يتلاشى عهدةً للظلام الآتي، أنتقِل من رائحة المرعى إلى رائحة البيوت، بينما يكنس المساء الأشياءَ الهشة ويحيى الذكريات. الشارع حفرةٌ ضيقة ومتعرجة ينام فيها الليل، هأنذا قد وصلت إلى البيت الذي تسنده كومة من رماد الفرن، يضاعف الظلام الأشياءَ هنا بينما تضيع أشياء الذاكرة فى تفاصيلها الكثيرة هناك , تستنكر المِرآة المغبّشة وجهي الباحث عن هويةٍ ما، فى البداية جعلت أشعر بثقل تلك الأشياء، اسمي.. صوتي.. وملابسي، ومن ثَم أخذت فى التعود عليها، في هذا المساء الذي لا يشبه المساءات التي عشتها ثقل الدهشة أسَرَني حتى شعرت برأسى كما لو كان يقرع فى الجدار، كنت فقط والأرض تدور بي بعدما سمعتها لأول مرة كانت شفَتَا أمّي لا تتوقفان كمَكَنة رَي ينبجس من رأسها شيء آخر غير الماء يحملني فى غيبوبةٍ أبدية، وهي تردّد قائلة “ابن عمك يريد الزواج منك!” ووقف هناك جدار أسمنتي فى حلْقي فلم أقل شيئًا، ولكني قلت لنفسي مذهولة كيف يسعى رجلٌ للزواج من رجلٍ مثله تمامًا؟ لقد نسيت كيف ينبغي أن يبدو عليه شخص مرت عليه كل هذه الأعوام من التحول، توفّي أبي وتركنا، كنا خمس بنات، كنت أنا الكبرى، وكان أبي يقول لي “انتي راجل في وجودي، وراجل في غيابي، انتي أخ لإخواتك”. بعد أن مات كنا خائفاتٍ أن نخرج بأغنامنا إلى المرعى، نخاف الذئاب والبشر. اجتمعت أنا وأخواتي وأمّي في هذا المساء البعيد، وفكّرنا واعتصرنا أنفسنا حتى وصلنا لحل، ولأني كنت طويلة.. وكان أبي قصيرًا فقد جاءت ملابسه مضبوطة تقريبًا على جسدي، فى هذا المساء ارتديت جلابية أبي وعمامته، وتبخترت فى قطعة المِرآة التي تلصقها أمّي بالطين على الجدار، فأعطتني صورة ولدٍ وسيمٍ أسعدَ أخواتي وحلّقن بي، ومِنهن مَن قالت “أخي”، ومنهن مَن قالت “أبي”، وبدأنا نتدرب على تغيير الصوت لكى يكون جافًا وخشنًا ومرتفعًا، كما الرجال، واقترحنا أيضًا تغيير الاسم؛ فنحن لم نسمع عن رجلٍ اسمه “سهام” واقترحت أخواتي أن يجمعن لى اسمًا مخيفًا يخيف مِني الناس، ويمنحنى الهيبة، جرّبنا الكثير من الأسماء واخترنا اسم “عتريس” لأنه كان جبارًا فى فيلم شادية الذى نشاهده فى التليفزيون الذي نمتلكه، والذي لا يعمل إلا بالضرب على رأسه، وصار اسمي بمرور الوقت “عتريس” فى البيت وخارجه، حتى أمّي صارت تناديني به، وتتعامل معى بمنطق الولد، ولا تخاف عليّ مِن الليل كما تفعل مع أخواتي؛ فقد اعتقدت أني ولدها عتريس الذي أكرمها الله به ليساعدها وبناتها على المعيشة، كنت رَجَلهن، وحينما يأتى الشتاء وينقضي ويحل الصيف محله تبدّل الأرض ثوبَها بمحاصيلَ للشتاء وأخرى مختلفة للصيف، أمّا أنا فأظل هكذا رجلاً، وقد استبدلت ملابسي الداخلية بملابس أبي فانلاته وسراويله الطويلة، وفى الشتاء أرتدي كلاسينه الصوف الخشنة، وتماديت فجربت أشياء جديدة تُمكّننى من قهر المخاوف التى كانت تغافلني وتطرق باب قلبي الذي أوصدته أمامها، فقد كنت أجبر نفسي على الذهاب بمفردى فى طريق الطاحونة المهجور عندما يتنفس الظلام أشباحه ومخاوفه هنا لإخافتي من اللاشيء، كان ما يميزني عنهن وهو ما كنّ يلمسنه فى الواقع، هذه القدرة على مواجهة الظلام، كنت أرى نفسي كما لو كنت ابنةً شرعية لليل، فهو لا يخيفني مثلما يخيف الآخرين، فى البداية كنت أرى نفسي فى ثوب أبي وعمامته كما لو كنت فأرًا ألبسوه جِلد نمر، كنت أشعر كما لو أنني ألبس جسدَ حي، كان الثوب ينثر فيّ القوةَ والهيبة حتى استطعت من خلاله منازلةَ الأولاد الذين كانوا يصادفوننا فى المرعى، أنا وأخواتي، هؤلاء الذين كانوا يرغبون فى فرض سيطرتهم علينا، أمّا هذا الولد الذى كان يحوّم حولنا، فكان يبدو أنه يكبرنى قليلا، ويسير دائمًا متسكعًا فى المرعى، بدا يومًا مختلفًا حينما مزق صوته الصمتَ حولي كرشاش بندقية خرطوش، كنت أجفل منه بكوني أراني صبيًا، خفتُ فى البداية تحرشَّه بي وأخواتي الصغيرات، كنت أهمّ، كلما حاول الاقتراب منا بدون أن أرفع وجهي نحوه، أن أمطره بوابل من الأحجار، أنشغل فى جمع الأحجار وأوجّهها له وأنا أتظاهر أني أهشّ بها على الأغنام فتصيبه، فيولّي صامتًا ويذهب بعيدًا عنا، وكانت اللحظة فى أحد الأيام عندما لم تكن أخواتي يتحلّقن حولي، تَدحرج خلفي كذئب، لقد تمكّن مني إذ طوّقني من الخلف بشكلٍ مباغت، وسَكّر فمي وأنفاسي بيده وهو يردد “لا تخافي؛ أنا مثلك تمامًا”، وأزاحت العمامة عن شَعرها الذي هبط منسدلاً أمامها، وعندما هدأتُ واستوعبت المفاجأة سألتها “كيف عرفتِ أني بنت ولست ولدًا؟” ملأت ضحكاتها المرحة الفضاءَ، جبهتها وعيناها يتلالئ فيهم شيء غريب، ومن يومها صرنا صديقين، أقصد صديقتين، قصت عليّ تجربتها فى الزواج، قالت لى إنه شيء مؤذٍ أن يتزوج رجلٌ برجل، “تصوّري طلب منى أن أرقص! في الحقيقة مجربتش” قلت استني . قال :هترقصي؟
قلت “هاخذ هدومي”، وفعلاً مشيت ورجعت راجل مثلما ما كنت قبل أن تتم كلامها بحثت بعيني عن موضع ثدييها، كان المكان فارغًا تمامًا، وسألت نفسي هل تخلصت منهما؟ ركّزت فى كلامها حينما عادت تقول “جميل ان نشوف الدنيا بعين راجل، يمكن قصتنا فيها شبه، كنت وحيدة أبويا، كنت باتكلم بصيغة الولد، وكان ده يسعد أبويا وامّي، وصمم أبويا اني ألبس ملابس ولد، وكنت أشوف الفرحة بتنط فى عِنيهم بكوني ولد مش بنت”. كانت تعود لتحكي لي عن أيام زواجها فتتأرجح الكلمات والحكايات المحرِجة تندلق على لسانها، ويتذبذب وجهها بين الشحوب والألم، ثمّة لمعة تشبه الإعصار في عينيها؛ فقد بدت لى مثل زهرة العباد تزهو في الشمس، كانت تبدو لى باردةً وسعيدة بهذا الانفصال والتحرر، لم تكن معنيةً بمن يراها أو بمن لا يراها، مليئة بالحيوية، وضعت يدَها فى جيب ثوبها الرجالي وأخرجت علبة سجائر وعلبة كبريت، كشطت رأس الثقاب وقرّبته من السيجارة المثبتة بين شفتيها، أخذتْ نفَسًا عميقًا شهيًا، غيّبت عينيها ملامح الدهشة التى عامت فى وجهى نحوها؛ فقد فرغت حمولة فمِها الممتلئ بالدخان ونثرتها فى وجهي وهى تردد باسمة “انتي لسّه مش راجل كامل”. قد تبدو لى أنه ليس لها دور فى كل تلك الأسئلة التى تفجرت داخلي، تلك الشجاعة التى مدّتني بها لأرى بها نفسي فى تلك الليلة المتوغلة فى عتمتها، لماذا صرت أنا مثل البوم يستهويني الظلام؟ حيث نامت أمّي وأخواتي، وفى الصالة على نور اللمبة الباهت وأمام تلك المرآة المثبتة بطين فى الجدار، والتى شهدت تحوّلي منذ سنوات وباركته وقفت أمامها متحسسة ملابسي التى أرتديها، أنفاسي المضطربة تخرج مصحوبة بتنهداتي، جرّبت صوتي بحثًا عن صوت البنت بداخلي، ولكن ظل الصوت صوت عتريس، صوتًا معجونًا بعواء الذئاب!.
خاص مجلة قناص
رجاء عبد الحكيم: قاصة من مصر.