قصة لاتينية: عبدالهادي سعدون يترجم قصتين من أمريكا اللاتينية؛ الأولى تأتي من كوبا (أبريل، أشد الشهور قسوة) لـ جييرمو كابريرا إنفانتي، والثانية من المكسيك (الفنار) لـ خوسيه آريولا.
(1) جييرمو كابريرا إنفانتي
هافنا 1929، قام بتأليف رواية واحدة عام 1967 وهي «ثلاثة نمور حزينة»، التي يمكن القول عنها أنها من أبرز القصص أصالة في أدب القارّة. وكان قبلها قد نشر مجموعته القصصية الأولى والوحيدة المعنونة «في السِلْم كما في الحرب» 1961 التي ضمت خمسة عشر قصة قصيرة.
أبريل، أشد الشهور قسوة
لم يفهم هل كان الضوء الذي دخل من النافذة أم الحر، أم كلاهما، هو ما أيقظة. أو حتماً الضجيج الذي تُحدثه في المطبخ وهي تُحضّر الفطور. سمعها تَقْلي البيض أولاً وبعدها وصلته رائحة زيت القلي. تمدَّد في سريره وشعر ببرودة الشراشف تحت جسده مع ألم لطيف يحيطه من الظهر حتى الرقبة. في تلك اللحظة دخلت إلى الغرفة و صدمه أن يراها ترتدي صدرية الطبخ فوق بنطالها القصير. المصباح الذي كان فوق المنضدة الليلية لم يكن هناك الآن، وإنما وُضعتْ فوقها الأطباق والفناجين. حينذاك انتبهت إلى أنه قد استيقظ.
– ماذا يقول النوّام؟ – سألت مازحة.
بينما كان يتثاءب، قال: صباح الخير.
– كيف تشعر؟
أراد أن يقول ممتاز، فيما بعد فكَّر أنه ليس ممتازاً تماماً حَسْبها وقال:
– مُدهش.
لم يكذب. لم يشعر بتحسن مثل الآن. لكنه انتبه إلى أن الكلمات غالباً ما تخون
– ياه!- قالت هي.
أفطرا. عندما انتهت من جَلْي الأواني، عادت إلى الغرفة، وطلبت منه أن يمضيا للاستحمام.
– يوم رائع – قالت هي.
– رأيت ذلك من النافذة . قال هو.
– رأيت؟
– حسنا. شعرتُ. سمعتُ.
نهض، اغتسل وارتدى سِرواله، حينذاك حمل روبه المخمليَّ وخرجا حتی الشاطئ.
– انتظري – قال هو في منتصف الطريق – لقد نسيتُ المفتاح.
أخرجت هي المفتاح من حقيبتها وأبرزته له. ابتسم.
– ألا تنسين شيئا أبدأ؟
– أجل – قالت وقبّلته على فمه – نسيتُ أن أقبّلكَ اليوم، أعني عندما استيقظت.
شعر بهواء البحر يمر بين فخذيه و على وجهه واستنشق بعمق.
– هذه الحياة – قال.
خلعتْ الصندلين، وأدخلت أصابعها في رمل الطريق. نظرت إليه وابتسمت.
– هل تعتقد ذلك؟ – قالت.
– ألا تعتقدين أنت ذلك؟ – قال هو بدوره.
– آه، أجل. دون شك. لم أشعر بتحسن مثل الآن أبداً .
– ولا أنا. طوال حياتي – قال هو.
استحمَّا. كانت تسبح بصورة جيدة، بتطويحات طويلة من ذراعيها الخبيرتين. بعد بُرْهة عاد إلى الشاطئ ودفن جسده في الرمل. شعر بالشمس وهي تجفف الماء وحبيبات الملح التي علقتْ في مسامات جلده، واستطاع أن يُخمّن أي المناطق تحرقه أكثر، حيث تتكون فقاعات زيتية، شعر بلذة حرق الشمس. بقي هادئاً يضرب رأسه على الرمل، ويحس بالهواء مُشكلاً ومحطماً كثيبات رمل طفيفة، ومدخلاً الذرات الدقيقة منه في الأنف، والعينين، في الفم والأذنين، بدا له كصحراء نائية، شاسعة، غامضة وعدائية. طاب له النوم.
عندما استيقظ، كانت تتمشط إلى جواره.
هل نعود؟ – سأل.
– عندما تشاء.
حضَّرتْ الغداء وأكلا دون كلام. لقد أحترق جلد ذراعه بشكل طفيف. مضى حتى الصيدلية التي تبعد مسافة ثلاثة صفوف من المنازل عن داره واشترى مرهماً. الآن كانا في المدخل، يصلهم الهواء المنعش، وأحياناً هواء البحر العنيف الذي تُحدثه أماسي أبريل.
راقبها. رأی رسغيها الدقيقين، المرسومين بدِقَّة، ركبتان لامعتان وفخذان مستديران برِقَّة. كانت متمددة فوق الكرسي العريض، مسترخية، وعلى شفتيها الممتلئتين طيفُ ابتسامة.
– كيف تشعرين؟ – سألها.
فتحت عينيها ثم أغلقتهما أمام فيض الضوء. لها أهداب طويلة مقوسة.
– جيدة. وأنت؟
– جيد أيضا. لكن، أخبريني… هل مضى كل ذلك؟
– أجل. – قالت هي.
– و… لا يزعجك شيء؟
– إطلاقاً. أقسم لك إنني لم أشعر بتحسن قبل الآن مثل اليوم.
– يسعدني ذلك.
– لماذا؟
– لأنني لا أشعر براحة وأنت لست بخير.
۔ ولكن أشعر أنني بخير.
– سعيد من أجلك.
– حقاً، أرجو أن تصدقني، رجاء
– أصدقك.
ظلا صامتين. ثم تحدثت هي.
– هل نقوم بجولة عند طرف الشاطئ؟
– ترغبين بذلك؟
– كيف لا، متى؟
عندما تشائين.
۔ حسنا. بعد ساعة من الآن.
خلال ساعة واحدة وصلا الجرف، عندها سألته وهي تنظر إلى الشاطئ، مراقبة رسوم زبد الأمواج وكذلك العوّامات.
– كم تعتقد الارتفاع من هنا حتى الهاوية؟
– خمسون متراً. ربما خمسة وسبعون.
– أليست مئة.
– لا أعتقد.
جلست فوق صخرة، بوضع جانبي عن البحر، وساقاها متقاطعتان بين زرقة البحر والسماء.
– هل تصورني هنا؟ – سألت هي.
– بالطبع.
– عدني ألا تُصور امرأة أخرى هنا.
انزعج هو.
– ما هذه الأشياء التي تحصل لكِ. نحن في شهر عسل، أليس كذلك؟ كيف أفكر بامرأة أخرى الآن.
– لا أقول الآن. إنما في وقت آخر. عندما ستتعب مني، عندما سنفترق. رفعها وقبّل شفتيها بقوة.
– أنتِ مُغفّلة.
احتضنته هي من صدره.
– لن نفترق أبداً؟
– أبداً.
– ستحبني إلى الأبد؟
– إلى الأبد.
قبَّلا بعضهما. وفي الحال سمعا أحدهم ينادي.
– يناديك.
۔ لا أعلم مَنْ يكون.
شاهدا عجوزاً يخرج من خلف العوّامات المبنية بالحلْفاء.
-آه، إنه المتعهد.
حيّاهما.
– هل ترحلان يوم غد؟
– أجل، غداً.
– أجل، غداً. في وقت مبكر.
– حسناً، إذاً أريد أن تُحاسبني الآن. هل ذلك ممكن.
نظر هو نحوها.
– امضِ أنت معه، أريد أن أبقى هنا لفترة.
– لِمَ لا تأتين أنت أيضأ؟
– لا قالت هي – أرغب برؤية الشمس وهي تَغرب.
– لم أرد المقاطعة، ولكنني سأمضي إلى بيت ابنتي لرؤية برنامج الملاكمة في التلفزيون. أنت تعلم ابنتي، تعيش قرب الطريق العام.
– اذهبْ معه – قالت هي.
– حسنا – قال هو ومشى خلف العجوز؟
– تعرف أين توجد النقود؟
– أجل – أجابها وهو يعود إليها.
– ارجع لتبحث عني فيما بعد. أتريد ذلك؟
– حسناً. ولكن عندما تظلم سنعود. تذكري ذلك.
– أجل – قالت هي – قبّلْني قبل أن تذهب.
اقترب منها، وقبلته هي بقوة وألم.
شعر بها متوترة، وهناك ما يَخُزّها من الداخل. وقبل أن يفقد هیئتها خلف أمواج الحلفاء، حيته بيدها. ووصله صوتها عبر الهواء وهي تقول: «أحبك». أو ربما تساءلت إن كنتَ تُحبني؟ بقيت تنظر إلى الشمس وهي تهبط. كانت قرصاً ممتلئاً بالنار، حَوّلها الأفق إلى ثلاثة أرباع الدائرة، إلى نصف دائرة، ثم لا شيء، بينما بقيَ طيف أحمر في الموضع الذي اختفت فيه. لتصنع السماء فيما بعد دوّارتها الوردية. وليبدأ سواد الليل بمحو بقايا الشفق.
– هل سيظهر القمر هذه الليلة؟ – تساءلت بصوتٍ عالي.
نظرت إلى المنحدر ورأت الفتحة السوداء، ثم بعد حين إلى الأسفل أكثر، الزبد الأبيض ما يزال يُرى حتى الآن. تحركت في جلستها، وتركت قدميها تتجهان نحو الخارج، معلقتين في الفراغ. بعد ذلك استندت بذراعيها على الصخرة وحررت جسدها، وبلا أقل ضجيج تركته يسقط في البئر الأسود العميق، الذي كان الشاطئ، وهو تقريباً اثنان وثمانون متر إلى الأسفل.
(2) خوسيه آريولا
ولد في مدينة ثابوتلان المكسيكية (مدينة غوثمان اليوم) عام 1918 . ينتمي إلى جيل خوان رولفو وواحد من أولئك الذين أضافوا لأدبيّة المكسيك الكثير، ابتدأ حياته الأدبية بإصدار كتاب «ابتکار آخر» (1949)، بعد ذلك نشر مجموعتين قصصيتين أخريين: «مسامرات» (1952)، و«المعرض» (1963)، والذي يتضح فيهما نُضْجه الذي لا يرقى إليه شك.
الفنار
إن ما يفعله خینارو مروّع. يُديم من أسلحته الطارئة. بينما أصبح موقفنا قذراً. مساء البارحة ونحن جلوس حول المائدة، حكی لنا قصة عن الخيانة. كانت في الواقع ظريفة، ولكن لم نكن أميليا وأنا قادرين على الضحك، حتى قطعها علينا خينارو بقهقهاته الزائفة. قال «أهناك ما هو أكثر إضحاكاً؟»، ثم وضع يده على جبهته، بأصابع منتصبة كما لو تبحث عن شيء. وعاود الضحك «كيف تشعر بحملك قرنين؟»، ولم يُدرك تماما مدى ارتباكنا.
كانت أميليا يائسة. وكان لي رغبة في شتم خینارو، أن أقول له الحقيقة كلها، صارخاً فيه، ثم أخرج راكضاً ولا أعود مطلقاً لكن كالمعتاد، شيء ما أوقفني. ربما كان أميليا التي تنهار أمام وضْع لا يُطاق.
كان ذلك منذ زمن عندما فاجأنا تصرف خينارو. كان يعود كل مرة أكثر حُمقاً. تقبّلَ شروحات لا تصدق، ومنحنا مكاناً ووقتاً لخلواتنا الأكثر جنوناً، تصنّعَ عشرات المرات كوميديا رحلاته، لكنه دائما كان يعود في اليوم المحدد. كنا نكفُّ بلا فائدة أثناء غيابه. حين يعود محملاً بهدايا صغيرة، يضيّق بها علينا بأسلوب فاجر. يقبّلنا تقريباً من رقابنا. يشدّنا بإفراط إلى صدره. تصل أميليا إلى حد الإغماء عليها من الاشمئزاز بين الذراعين ذاتهما.
في البدء مارسنا الأشياء برعب، معتقدين أن خطراً عظيماً يحدق بنا. الانفعال من أن خينارو سيكتشفنا في أيَّة لحظة، مُغلّفاً عشقنا بالخوف والعار.
لقد كان الوضع واضحاً ونظيفاً في موقفٍ كهذا. كانت الكآبة تطفو فوق رؤوسنا كما لو أنها قد منحت خطيئتنا وقاراً. الآن عُدنا إلى القليل من الرتابة الغليظة والمحزنة. نحب بعضنا بعدم رغبة ضجرين مثل أي زوجين. اكتسبنا شيئاً فشيئاً طبيعة خينارو التافهة بالتسامح. كان حضوره بيننا غير محتمل لأنه لم يكن يُعيقنا. إذ يُسهّل علينا الروتين اليومي، مسبباً الملل.
ذات مرة أخبرنا ساعي البريد الذي يجلب لنا التعليمات بأن العمل جارٍ بقرار إلغاء الفنار. فرِحنا أنا وأميليا سراً، بينما تضايق خينارو بوضوح، «إلى أين نذهب؟» يقول لنا.
«نحن سعداء هناك» يتنهد، بعد حين يبحث عن عيني: «أنت ستأتي معنا، أينما نذهب ستكون معنا!»، وظل ينظر إلى البحر بشوق.
عبدالهادي سعدون: كاتب وأكاديمي ومترجم عراقي مقيم في إسبانيا. أستاذ مادة اللغة والأدب العربي في جامعة مدريد المركزية. دكتوراه في الآداب والفلسفة من جامعة مدريد.