تواصل مجلة قنّاص في «خطوة على طريق النشر» نشر شهادات الكُتّاب عن حيثيات الدخول إلى عالم النشر. هنا شهادة الأديب الفلسطيني محمود شقير وسياق إصدار مجموعته القصصية الأولى «خبز الآخرين».
1
“لم يكن إصدار كتابي الأوّل سهلَ المنال في القدس إبَّان ستينيات القرن العشرين. إذ لم تكن هناك دور نشر معنية بطباعة الكتب في المدينة وفي غيرها من مدن الضفتين الشرقية والغربية اللتين تشكّلت منهما آنذاك المملكة الأردنية الهاشمية. ظهرت في المدينة بعض المطابع التجارية، عرفتُ منها مطبعة مشَحْوَر التي داومت على طباعة مجلة “الأفق الجديد” المقدسية.
بعد توقّف المجلة عن الصدور عام 1966، عكفت على نسخ قصصي التي نشرتها في المجلة، لعل ّالمطبعة المذكورة تصدرها في كتاب مقابل دفع نفقات الطباعة. ولم يصدر الكتاب بسبب هزيمة حزيران 1967.
“خبز الآخرين” هو كتابي الأول الذي قدّمني للقراء ولمحبّي الأدب وللنقاد. كتبتُ قصص الكتاب في الفترة من العام 1962 إلى العام 1968، وتأخر إصداره إلى العام 1975 بسبب صعوبات النشر آنذاك في البلاد.
وحين أقدم شبابٌ معنيّون بالأدب على تأسيس “منشورات صلاح الدين” في القدس عام 1974، بادروا إلى جمع قصصي التي كانت منشورة في مجلة “الأفق الجديد”، وفي مجلة “الجديد” وصحيفة “الاتحاد” الحيفاويتين، وأصدروها في كتاب.
كنت آنذاك معتقلاً إداريًّا في سجون المحتلّين الإسرائيليين بسبب نشاطي السياسي ضد الاحتلال. وقد شعرت بأن إصدار كتابي الأول، وأنا قابع في السجن، هو أفضل مكافأة لي من دار نشر فلسطينية ابتدأتْ مسيرتها بجدارة، وصار لها فيما بعد دورٌ مرموق في تحفيز الكتابة الإبداعية في فلسطين، وبخاصة في ميداني القصة والشعر، إبّان سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.
2
ظهرت مجلة “الأفق الجديد” في القدس عام 1961 واستمرّت إلى ما قبل هزيمة حزيران 1967 بأشهر معدودات.
وقد نشرتِ المجلة أولى قصصي عام 1962، ولم يتحقّق هذا النشر بالسهولة المتوخّاة. تأكّدتُ من ذلك حين قابلتُ رئيس تحرير المجلة، الشاعر أمين شنّار، في مكتبه الواقع في شارع الزهراء بالقدس، ومعي أربع قصص كتبتها في فترات متقاربة. قرأها ولم تعجبه. قال إنّ فيها ما يشي بكاتب واعد، لكنّها في حالتها الراهنة لا تصلح للنشر.
ولم أيأس. واصلتُ المحاولة تلو الأخرى إلى أن نجحت في كتابة قصة نالت إعجاب رئيس التحرير. وحين وجدتُها منشورة في المجلة طرتُ من الفرح، وشعرتُ بأنني أصبحتُ منذ تلك اللحظة كاتبًا. كانت تلك القصة هي اللبنة الأولى التي انبنى عليها كتابي الأول.
3
وحين وقعت هزيمة حزيران 1967، وأصبحت فلسطين التاريخية كلها تحت سيطرة المحتلين الإسرائيليين، وقع تحوّل واضح في قصصي التي صارت معنيّة بالهمّ الوطني أكثر من اهتمامها بالهمّ الاجتماعي، مع عدم نسيان هذا الهمّ حين يتداخل الهمّان معاً.
كتبت بعض القصص مباشرة بعد الهزيمة، ونُشرتْ في كتابي الأوّل، وفيها تركيز واضح على ضرورة الصمود فوق أرض الوطن ومقاومة الاحتلال.
وما أفرحني وأنا في السجن الإسرائيلي، أنّ الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد، رئيس بلدية الناصرة لسنوات طويلة، هو الذي كتب مقدّمة الكتاب، وأنّ الفنّان التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور هو الذي رسم لوحة الغلاف، ومما جاء في المقدّمة: ” أمّا في قصصه التي كتبت قبل 1967 فإن محمود شقير يقدّم لنا القرية الفلسطينية بطبيعتها الجميلة وأهلها الطيبين البسطاء، الذين يكدحون بقسوة ويجوعون وهم يحلمون بحياة أفضل يسودها العدل والاكتفاء. وهو يعالج بوعي مسألة التناقضات الاجتماعية بين أغنياء القرية وفقرائها، حيث تحسّ أن القرية وناسها تحت جلده. وشخصياته التي يرسمها نموذجية تستطيع أن تتعرّف إليها في نفسك أو في الذين من حولك، وهو يكشف لنا عن طبيعة القهر الطبقي والاجتماعي الذي هو نصيب فقراء الفلاحين”.
4
الجدير ذكره أن الطبعة الثانية من “خبز الآخرين” صدرت عن “دار الثقافة الجديدة” في القاهرة في العام 1990، بالتعاون مع دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية.
ومما جاء على الغلاف الأخير لهذه الطبعة: “محمود شقير الذي كتب، بنجاح، الدراما التلفزيونية، وقصص الأطفال أيضاً، يعرف كيف يطوّر أدواته التعبيرية، وكيف يعمّق رؤيته الفنية ويطوّرها، مما وفّر له قدرة على تنوّع الأساليب الكتابيّة، جعلت القارئ يتساءل عمّا إذا كان مؤلف “خبز الآخرين” هو نفسه مؤلف “طقوس للمرأة الشقيّة”. ولكنه هو نفسه: المبدع، الصافي، المتجدّد، والمنتسب إلى كلّ ما يجعل الحياة أكثر جمالاً وعدلاً”.
بعد ذلك بخمس سنوات، أي في العام 1995، صدرت الطبعة الثالثة من الكتاب في القدس عن دار القدس. وفي عام 2012، صدرت المجموعة مع ثلاث مجموعات قصصية لي في مجلد واحد من دار راية للنشر في حيفا.
أخيرًا يمكن القول: لولا إصدار كتابي الأوّل كان يمكن ألا أستمرّ في الكتابة الإبداعية. تلك كانت مفاجأة ملهمة جاءت في وقتها الصحيح.
***
محمود شقير: كاتب فلسطيني، متفرغ للكتابة، ويعيش في مدينة القدس. مواليد جبل المكبر/ القدس عام 1941. حاصل على ليسانس فلسفة واجتماع من جامعة دمشق عام 1965. نشر العديد من القصص القصيرة والمقالات الأدبية والسياسية، في عدد من الصحف والمجلات في فلسطين والأردن وبعض البلدان العربية والأجنبية. ترجم العديد من كتاباته الأدبية إلى عشر لغات بينها: الانجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية. عمل في الصحافة، وكان رئيس تحرير أسبوعية “الطليعة” التي كانت تصدر في القدس، ورئيس تحرير مجلة “دفاتر ثقافية” التي كانت تصدر في رام الله. نشر حتى الآن 79 كتاباً للكبار وللصغار، بينها سيرته الذاتية في كتابين، واثنتا عشرة مجموعة قصصية، وثلاث روايات للكبار، وسبع روايات للفتيات والفتيان.