تجسّد مسرحية الرَوْع لكاتبها ومخرجها طاهر الحرّاصي والتي قدّمتها فرقة تواصل المسرحية على خشبة مسرح قاعة عُمان بكلية الدراسات المصرفية والمالية بتاريه 4/يونيو 2023 الصراع التاريخي الكلاسيكي: قوى الخير والشر، الظلام والنور، الجهل والمعرفة، وباقي الثنائيات التي عُرِف عنها الصراع منذ باكورة الحضارة الأولى، في تقسيمة لا مناص منها؛ ملائكة وشياطين، نسّاك عابدون ومذنبون مخطئون. أمّا مخرج المسرحية هنا؛ فقد أوحى لنا منذ الدقيقة الأولى، وهو ما يحسب له، أن النزاع هو نزاع على السلطة واستعباد البشر، فكان الشيخ بمثابة السلطة السياسية المركزية، ومن جهة أخرى كان شيخ الدين (المعلم صالح) ممثلًا عن السلطة الثيوقراطية بكافة أشكالها: فتاوى، عبادة، شؤون حياة. وقد اجتمعت كل السلطات على استعباد البشري البسيط طمعًا في السيطرة على ماله وحريّته.
يصّور مخرج مسرحية الرَوْع أحد المشاهد وهو يجسّد استعباد البشري، من خلال التقليد الأعمى الذي يقوده شيخ الدين، نحو الخلاص من الأذى الذي يفرضه الروع على من يغضبه، والرَوْع هنا يقصد به الأرواح الشريرة أو الشيطان، وربما الجِنّ، وفي إشارات أخرى في المسرحية، الأموات. جدير بالذكر أن النص المسرحي استطاع أن يحاكي العالم المستقل وتحويله صورة حيّة عبر عمليّة التشيّوء، تلك الخرافات غير الموجودة في عالمنا المادي، وإنّما في المتخيّل والموروث الميتافيزيقي، وتجسيده للمشاهد في توظيف رائع وساخر في الوقت ذاته، ولا سيما وأن المُشاهِدَ كان يرى كيف يُصنع الوهم أمامَ مرأى عينه. وفي الوقت الذي يخدعُنا فيه المخرج المسرحي في أول لوحة للمسرحية التي بدأت مرعبة، تَنْقشع تلك الظلامية في الدقائق القادمة ليسطّر كاتب النص بشكل تدريجي مراحل صناعة الوهم حتى يتحوّل القالب المرعب حول الأسطورة إلى مادة دسمة للسخرية على من يصدّق الوهم الذي ليس سوى أكذوبة استفادت منها القوى المسيطرة بكافة أشكالها في سبيل تقييد العقل البشري.
تتجلّى مظاهر الرمزية في مسرحية الرَوْع في مشاهد معينة، وهو ما يجعل المسرحية تنتمي للمدرسة الواقعية التي أضفت قليلًا من السريالية والغموض في بعض المواقف، ويمكن القول أن العلّة وراء ذلك قد تكمنُ في هدف كاتب النص من المسرحية التي أثمرَ بُعدُها التوعوي والإنساني وبطابعها الفكاهي في مواقف عديدة في إرسال صورة عظيمة يكمنُ عُمقها في بساطة تكوُّنِ الخُرافة وصناعة الوهم، ولا سيّما وأن انتصار الخير في الأخير لم يخلُ من مشاهد تراجيدية قد أصابت أبطال المسرحية من معسكر الخير: وارث/ زيانة/ غصن.
منذ الوهلة الأولى يتراءى لك العمل المسرحي وكأنّه الصراع الأزلي بين قوى الخير والشر، وهو عمل شبيه –في الفكرة على الأقل– بعمل الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في مسرحيّته الشهيرة بعنوان (الشيطان والرحمن)، إذ تجد منذ بداية المسرحية صراعًا ومواقفَ بين رجال يدّعون التديّن الذي أوشك الكاتب أن يصفهم بالدجّالين والمنتفعين بعواطف البشر الدينية ليكوّنوا ثروتهم الخاصة -وهو ما يتقاطع تقاطعًا كبيرًا مع فكرة المسرحية، وتفوّق كاتبها على كافة الأصعدة: الألوان/ الإخراج/ الحس الفكاهي/ التراجيديا/ السخريّة على الانسان ومآسيه/ العَود الأبدي. لعبت السينوغرافيا وبالتحديد الإضاءة في خلق أكثر من مشهد على الخشبة في ذات الوقت، في حوار جدلي غير مباشر بين مشهدين أو أكثر، مع الانتقال من الأحمر في رمزيته الشيطانية، إلى الأزرق الغامق كأنما غيمة مكفهرة تُخيّم على الرؤوس، إلى الأسود والظلال للإيحاء بشبحية الكائن الحيّ المسكون بالجن في المتخيل الشعبي. في حين أن الموسيقى التي صاحبت العرض من بدايته إلى نهايته، مستفيدة من ثيمات موسيقية محلية ومشاهد تستدعي جلسات الزار، كانت تقود ذلك الإحساس الفجائعي وتجذّره في تصاعد درامي.
أحدُ أبطال المسرحية وهو صاحب دور غصن، ذكرنا بأنتيجون الأسطورة اليونانية القديمة لسوفوكليس، الذي وإن كان الأخير قد تحدّى وواجه الحاكم الدكتاتور الذي ينتهكُ كلَّ المحرمات لأغراضه الشخصية وعلى حساب شعبه، فقد كان غصن الوحيد في مواجهة كلا السلطتين: الدينية والقبلية، والتي وإن انتهت تراجيديًّا بخسارته حياته في الأخير؛ إلّا أن كاتب النص قد قال كلمته: لا ضيرَ من سبارتاكوس آخر معلقًّا في الميدان، أو بالأحرى مرميًّا على الوادي المظلم. وعودة إلى تاريخ الأحداث التي تدور، نجد أن هذه الشخصيّة لم يقدها “الوعي” حول اكتشاف الخرافة والوهم، بل أنّ ما قادها هو “جذوة الحب” لحبيبته، وهذا التوهّج قد صنع أبطالًا لا علاقة لهم بالوعي في معظم النصوص الأدبيّة بشقيها المسرحي والروائي، إذ نجد سبارتاكوس/ يهوذا/ شمشون/ أوديب –على الصعيد الأدبي على الأقل- قد غيروا سياقات تاريخية أدبية لأغراض خارج سياق الوعي والحريات، وهو ما يُحسَبُ لكاتب النص الذي كان سيساءل كثيرًا عن تلك العقلنة التقدّمية لغصن نظرًا للحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث والمستوى العلمي حينها.
-عليك صدقه، تذبح بقرة بيضاء. “خدوم”
هكذا يقول أحد شخصيات المسرحية، خدوم الصعلوك الذي استفاد من الوهم المنتشر بين العامة، فهو تمامًا يدرك أن عليه أن يستفيد من هذا ويكون لاعبًا أساسيًّا، ولا يمكن صبغ تلك الشخصية بالتآمر مع سبق الإصرار والترصّد؛ بل يمكن القول أن كافة السلطات اعتقدت أن خدوم لا يمكنه أن يكشف اللعبة التي تُحاك، لذا تماشى مع فكرة الروع وقام بإضافة التوابل هو الآخر، وهو الذي لا ينتمي إلى أيّ سلطة، بل يمثّل الشحّاذين المستفيدين من فساد المراكز ولسان حاله يقول: ما الذي يجعلني أنا الآخر لا أستفيد؟ وما الذي يجعلني أمارس دورًا بطوليًّا كدور غصن أو زيانة اللذين سيخسران النزال؟
-هينك يا الرَوْع، طلع وثيب صنّاعك. “غصن”
هكذا يقف بطل المسرحية، متحديا والده شيخ الدين والآخر شيخ القبيلة، في إشارة لاكتشاف أمرهم المخفي وكشف ألاعيبهم، ثم يغتالنا كاتبُ النص بنهاية تراجيديّة لا تخلو من سعادة، ولا سيما وقد كُشِفَت حقيقة الروع، فقد كتب صاحب النص لوارث أن يصيبَ صاحبهُ “غصن” في مقتل، بعد صراعه الشجاع لمواجهة الدجل والفساد، في تجسيدٍ درامي آخر شبيه يبرومثيوس الذي آثر شقاءه الأبدي لنصرة البشري العاجز، وهنا قد أربكنا كاتب النص والمخرج في آن واحد: يا ترى هل أذعن وارث بعد قتل صاحبه للخرافة المتداولة؟ أم فضّل أن يلوذ بجلده بعد قتله لصاحبه بأن نسب للروع تلك الجريمة النكراء؟
بسّام علي الكلباني؛ روائي عُماني