فصل العائلة من رواية «مشروع النوم» للتونسي شهاب عبد الله، الصادرة حديثا عن دار نوفل 2023
***
مساء الثلاثاء الخامس من فيفري سنة 2008
قاعة إنزيان للمؤتمرات بفندق موفنبِك – برلين
ليست حلبة قتال. لم تكن هناك معركة. لكنّ الآلام كانت ماثلة في وجدانه وكأنّها صدى مرتدّ آتٍ من بعيد، أو ذكرى عالقة تأبى الانمحاء.
هذا العالم المشوّش المضلِّل لم يعد مكانًا صالحًا للأناس العاديين مثله، ولهذا كان دائماً يقول، ما يبدأ باستعارة قد ينتهي بأمثولة، فليختر كلّ واحد استعاراته بحذر.
كلّ الذين عرفوه صنّفوه كرجلٍ عاديّ، إلّا أنّه بطريقة ما كان يمضي في طريقه نحو الكمال. فكيف أمكن إنسانًا في القرن الواحد والعشرين امتلاك هذه السّمة واستقطار الكمالات الكامنة فيها وترسيخها في النفس لتنبجس أصيلةً بلا تصنّع؟
السهل، المعتدل، الليّن، غير المتكلّف، كانت صفاته ولقد حازها في خفّة لأنّها أصله وجوهره. لأنّها تنتمي إليه.
أن تحفظ عاديّتك في زماننا هذا لفعلٌ شجاع، ولقد رأينا رجالًا ونساءً عبروا من ضفّة العاديّ إلى ضفّة الاستثنائيّ، فتاهوا ولم يعودوا أنفسهم. ولَكَم ودّوا استرجاع عاديّتهم، لكن لا جدوى حين تطلب النفس البشريّة الكمال بأيّ السبل ومهما دُفع من أثمان.
من سمات قرننا هذا، الانزياح… الاختلال… الانتهاك… التشويه… الالتباس… الادّعاء… التضليل.
يا لهذه الأفانين التي يشتهيها العقل. إنّها أدوات الكائن البشريّ المستعارة لأجل مواجهة هذا العالم، ففي هذه الأيّام، لم يعد للأناس العاديين موطئ قدم راسخ، ولم تعد لديهم تلك الدّائرة الآمنة، حيث يتحرّكون بسلام.
في ذلك اليوم حين قالت العجوز جوانا شتاينبر إنّه رجلٌ عاديّ، كانت تريد القول «أنت يا سيّد مروان العابد لا تتحلّى بالصفات والمؤهّلات اللازمة للفوز بحبّ ابنتي الوحيدة كلارا».
ويا للطرافة حين قالت وحيدتها كلارا إنّها لا تريد شيئًا في العالم أكثر من رجل عاديّ. وألزمت الابنة أمّها بحكمها، فلم تستطع العجوز تبديل رأيها. ولئن تجرّأت وفعلت، فستقول كلارا إنّها لا تهتمّ، ذلك أنّها تعلم مكر العجوز وتصبر عليه كما يصبر طبيبٌ على مريضه. وفي أعماق نفسها، تعلم الشابّة أنّ لدى أمّها وهمها الخاصّ، وجرحها ذا الندبة المتوارية في غَوْرِ قلبها. وكصندوق متاعٍ قديمٍ في أحد متاجر الحنين، كان قلب العجوز جوانا. وكان البحث داخل الأماكن القديمة والفضول يعوزان ابنتها، وبالأحرى لم تُرِد إدخال يدها في ذلك الصندوق المُلغِز. فالمثل القديم يقول «الجحور المهجورة هي المكان المثاليّ لالتقاط ثعبان، إن كنت تبحث عن متاعب».
كان مروان يقف قبالة ما يقارب مئتي ضيف من الأكاديميّين وطلبة الجامعات، الذين جاؤوا لمناقشته في يومٍ شديد البرودة من أيّام برلين، هو الذي يؤثر العزلة على الاختلاط. لم يشعر بمرور الوقت إلّا حين رأى عبر النوافذ كآبة الدنيا في الخارج، والرماديّ الداكن الذي صبغ السماء بلونه.
ألقى نظرةً سريعة على ساعة معصمه، وأنهى الجلسة بعدما فرغ من الإجابة عن الأسئلة التي أُمطر بها. أطفأ جهاز العرض الضوئيّ بكلماتٍ مقتبسة من كتابه الذي يحمل عنوان «الجانب الغامض للفنّ في عصر النهضة»: يمكن أن تكون الحقيقة مضلِّلة في بعض الأوقات، لكنّ الحقيقة في جوهرها تأبى الضّلال، وتتطلّب معرفتها النفَس الطويل والإيمان بإمكانيّة القبض عليها والنظر إلى وجهها.
صاح أحد الحاضرين:
- للحقيقة وجهها القبيح أيضًا يا سيّدي. القبح ينتظر في النهاية ولهذا فأنا لا أرهق نفسي بالبحث. لا أحد يفوز للأسف.
وعلّق آخر بلهجةٍ ساخرة:
- من الواضح أيّ الوجهين قد رأيت يا صديقي.
دفع هذا التعليق الحضور للضحك، واختتم النقاش على وقع هينمة وكلمات متندّرة، فجلس مروان على الكرسيّ ليُريح قدميه، لكنّه لم يحظَ بلحظة سلام واحدة. اندفع من الصفوف جماعةٌ من الطلبة الفضوليّين يحملون شاشاتهم الصغيرة وأجهزتهم. تحلّقوا حوله لالتقاط الصور، ولتوقيع نسخٍ من كتابه الصادر قبل نصف سنة، فاستسلم مُكرهًا لرغباتهم، وألحّ عليهم وهو يقول:
- لا تنشروا صوري على الفايسبوك أو غيره من المواقع. ولا تُنشئوا حسابات باسمي لو سمحتم.
قال أحد طلبته بنبرةٍ مُتذاكية:
- أستاذ مروان، يجب أن تواكب العصر فعدم إنشاء حساب شخصيّ يُعدّ جريمة.
- جريمة! هتف غير مصدّق:
- الجريمة هي أن ينتحل أحدهم شخصيّتي وينسّق لقاءً مع عمدة برلين من ورائي.
تبادل الطالب المتذاكي نظراتٍ لئيمةً مع زملائه وقال راسمًا على وجهه ابتسامةً صغيرة:
- وبطبيعة الحال لم تذهب.
هزّ كتفيه بلا حيلة وقال:
- اكتشفت الأمر عندما لم تعد زوجة العمدة تلقي التحيّة على زوجتي.
ابتسم الطالب مجدّدًا:
- أستاذ، يمكنني اختراق الحساب وإعادته لك.
فقال مروان موضّحًا:
- لكنّه ليس ملكي لتعيده.
فقال الطالب بنبرة العليم بخفايا الأمور:
- بل هو ملكك، ما دام استعمل اسمك وصورتك واستهدف معارفك. كلّ ما يجب فعله هو استعادة هويّتك المنتحلة. لنستعد وجودك أستاذ.
قطّب مروان جبينه وقال:
- لا يمكن، أنت لا تُصَدّق.
عندها هتفت طالبةٌ كوريّة بنبرةٍ متحمّسة:
- إن لم تستعده فستظلّ بلا هويّة. استرجع الحساب ودافع عن وجودك الافتراضيّ.
ضرب مروان يدًا بأخرى وجلس بعد التقاط الصور ممتعضًا. مدّد ساقيه، وراح ينقّل نظره بين طلبته محاولًا تخمين هويّة المُنتحِل. قلّب الأمر في رأسه من دون أن يجد متّهمًا بيّنًا، وإن شكّ في أحدهم فكيف يسعه إرغامه على الاعتراف. يبدو الأمر ميؤوسًا منه مهما نظر إليه، ولهذا رسم على وجهه ملامح متجهّمة ولعن هذه التقنيّة التي تمنح الآخر القدرة على سرقة هويّة المرء بكبسة زرّ.
فكّر فيما قالته الطالبة الكوريّة وتمتم في نفسه: للإنسان وجودان في هذا العصر. وجود ماديّ وآخر افتراضيّ. فإن كنتُ أمثل في هذا العالم الماديّ ببدني ووعيي، فإنّي أمثل في الافتراضيّ بأثري فقط. وإن لم يكن لي فيه أثرٌ فأنا غير موجود. خطر في باله الفيلسوف الفرنسيّ ديكارت فرسم شبح ابتسامة على وجهه.
لأجل كلّ هذا الالتباس الذي دمغ هذه الحقبة من تاريخ البشريّة، فإنّ مروان كان من أنصار أولئك الذين يفضّلون التواري في الظلال بعيدًا عن الأضواء. أولئك الذين يمتلكون في هذا العالم وجودًا واحدًا لا أكثر.
فلم يكن انتقاده للثورة التكنولوجيّة، أو لدخول العالم مرحلة تشتبك فيها الإنترنت مع الشخصيّ والخصوصيّ، متأتّيًا من فراغٍ أو جهل، فهو يمتلك نظريّة في الأمر. تقول نظريّته بأنّ نصف مشاكل العالم سببها الثورة التقنيّة، ونصفها الآخر سببها الحرمان منها أو عدم وجودها. أمّا هو، فيفضّل أن يكون متفرّجًا على السباق البشريّ المحموم، الذي يبجّل الصورة والشكل وتداول الخبر ومشاركته.
بعد تفكيرٍ وشرود دام دقيقة كاملة، أومأ برأسه إلى وسام، والتقط معطفه عن الكرسيّ. ارتداه وضمّه إلى جسده بإحكام. عبْر بلّور النوافذ رأى ندف الثلج تتساقط. القاعة المكيّفة، المليئة بالناس الذين يدفعون عجاجات البخار من أفواههم، منحته إحساسًا مؤقّتًا بالدفء، أمّا في الخارج فمسألة أخرى.
***
فصل العائلة من رواية «مشروع النوم» للتونسي شهاب عبد الله، الصادرة حديثا عن دار نوفل 2023
الروائي التونسي شهاب عبد الله