جسدُ السردنصوص

الفـازا … قصة قصيرة | مفيد عيسى

لم يعد ينقصني إلا أن تكتب تعليماتها وتوزعها في البيت كشاخصات الطرق وما علي سوى التقيد، ألا يكفي تعليمات العمل والصحة والطريق والحدائق والأمن..

الفازا … قصة قصير

  • فاديا لم توقظني ومنبه الموبايل لم يرن. ضوء طري انفطر في الخارج، الساعة حوالي السادسة، هذا ما قدّرته وأنا نصف صاح، نصف نائم، علي أن أنهض. لو أن الاستيقاظ عادة لتخلصت منها. مشيت إلى غرفة الجلوس لأشغّل التلفزيون، فاديا أعادت الفازا من فاترينة التلفزيون إلى الزاوية، متى فعلت ذلك؟ وضعتها هناك في الساعة الواحدة صباحاً قبل أن أنام بلحظات، ما الذي يجعلها تصر على وضعها على الكمودينة في الزاوية؟
  • أحمد لا يستيقظ بسهولة، كل صباح ينغصني حتى ينهض، حاولت إيقاظه لكنه لم يتجاوب همهم والتف باللحاف، تركته للموبايل فمنبهه ألطف مني، هو أب ويجب أن ينهض باكراً ويساعدني في تجهيز رشا للروضة وعامر للمدرسة بدل أن يكون مثلهما.
  • ما الذي يجعل الرجل كالطفل؟ ليس في رأسه سوى تنفيذ ما يريد، هذا ما يفعله فقد نقل الفازا إلى الفاترينة، لا أدري متى فعل ذلك، فقد نمت وهي مكانها على الكمودينة. 
  • أجمل ما في النــوم أنه بلا تفاصيل، التفاصيل تبدأ منذ الصــباح، حلاقة الذقن تنظيف الأسنان، الاغتسال، ارتداء الثياب، فنجان القهـوة، والأســئلة التي لا تنتهي والتي ستنتهي بالسؤال التقليدي: ماذا سنأكل اليوم…؟ 
  • هذا الصباح ككل صباح، سوى أن منبه الموبايل لم يرن، تفحصته فوجدت أني ضبطته على الساعة الخامسة والنصف مساءً، كان يجب على فاديا أن توقظني قلت لها ألف مرة أيقظيني بقوة عندما تنهضين أو قبل الذهاب إلى عملك؛ ها قد نهضتُ متأخراً، هذا ما أزعجني وما زاد انزعاجي هو الفازا  وقد أعادتها إلى الزاوية.
  • لقد تغير، أصبح أكثر عنداً وحساسية، يهتم بأشياء كان يعتبرها تافهة، هل من المعقول أن يتشبث بوضع الفازا في الفاترينة وكأنها أهم شيء في البيت! منظرها النشاز هناك يجعلني أعيدها إلى مكانها في الزاوية، لكنه لا يلبث أن ينقلها إلى الفاترينة. منذ تعرفت عليه لمست اختلافاً في الذوق بيني وبينه وهذا أمر طبيعي لم أقلق منه لأنه كان يكرر أن التفاصيل لا تهمه، لكن الواقع غير ما كان يقول. هل تذكيري له بوجوب وضع حذائه في خزانة الأحذية؛ أو تعليق سترته بدلاً من قذفها عشوائياً هو اهتمام بالتفاصيل؟  هذه الأشياء تحتاج لجهد بسيط. يزعجه أن أسأله ماذا سنأكل اليوم، هو سؤال عفوي وبسيط يمكنه الإجابة عنه بكلمات، كل هذا محتمل ما عدا مسألة الفازا إنها أكثر ما يغيظني.
  • لم يعد ينقصني إلا أن تكتب تعليماتها وتوزعها في البيت كشاخصات الطرق وما علي سوى التقيد، ألا يكفي تعليمات العمل والصحة والطريق والحدائق والأمن.. ربما أهمل أشياء معينة لكني لا ألبث أن أتدارك الأمر، فاديا لم تعد فاديا، هي من شرًعت الضيق مدى، تحكم الآن كوة الحلم، لقد تغيرت كثيراً، أين أفقها وأحلامها!؟ تخلت عن أجمل اهتماماتها أناديها أحياناً لمشاهدة فيلم أو برنامج على التلفزيون، أحسها لا تأبه لذلك، لا يهمها الآن سوى المسلسلات الرومانسية الساذجة، تشاهدها وهي ترمقني بعتب، ما لا أحتمله هو تغيير مكان الفازا والتي لها تأثير خاص في نفسي.
  • أعرف أنه مزاجي، كان يميل للمرح لكنه أصبح أكثر صمتاً، غالباً ما نقضي سهراتنا بالقليل من الكلام، أعرف أن صمته يبطن تفكيراً وقلقاً، أحب أن أشاركه ما يفكر به وأبدد ما يقلقه، أحياناً يحيد عن صمته، عندما يفعل ذلك تصبح كلماته كالندى، أما عندما نتناقش بشؤوننا اليومية يتوتر، ما المشكلة إذا طلبت منه المساعدة بأن يضع كل شيء مكانه، هذا يتطلب جهداً بسيطاً، من الصعب أن يفعل ذلك والدليل الفازا التي يصر على نقلها إلى الفاترينة بينما مكانها الطبيعي في الزاوية.
  • هي لا تفهم صمتي، في البداية كانت أكثر تفهماً، لا بل كانت تجد ذلك ميزة، الآن تريدني ان أتكلم بأي شيء، كيف سأفكر أو أشاهد التلفزيون  وأنا أتكلم، غالباً ما يشغلني أمر يحتاج لصفاء، لكنها لا تطيق ذلك، المهم أن أخبرها عن كل شيء، هل علي أن أشرح طبيعة مزاجي بعد سنوات من الزواج، منذ بدء علاقتنا كانت تقول أنها تفهمني، لكنها لا تبدو كذلك، لأن أمراً بسيطاً  كموضع الفازا لم تستوعب أن يكون مختلفاً عما تريد.
  • ما يقلقني أنه لم يعلق بكلمة، من وقت لآخر يضعها في الفاترينة، فأعيدها بهدوء غير أنه يرجعها إلى الفاترينة لكن ليس أمامي، لا أعرف رد فعله لو تكلمت معه بالأمر، هو نادراً ما يغضب، ظننت أن الأمر عادي، لكن الأمر تجاوز ذلك، أترقب أن يكلمني لو تركتها في الفاترينة لن يفعل ذلك أبداً لذلك سأستمر في إعادتها حتى يفعل.
  • تعيد الفازا دون أن تلفظ حرفاً واحداً، وكأنها تستمد عزيمةً من صمتها رغم أنه صمت ظاهري فهي تحتقن بالكلمات أشعر بذلك من عينيها ووجهها، حركاتها، حتى أصابعها، الأمر في البداية كان أشبه بمزحة لكنه تحول إلى ما يشبه النكاية بمثابرتها على عندها، بإمكانها أن تصبر على وضعها في الفاترينة عدة أيام ولتعدها بعد ذلك.. لكنها لا تفعل، تعيدها خفيةً عني وبصمت، لا أريد أن أحدثها بالأمر لأنه سيفتح نقاشاً طويلاً ومتشعباً، ستسرد خلاله يوميات حياتنا، فذاكرتها لا تغفل شيئاً.
  • لن أتكلم، سأنتظر ما سيفعله، أخشى أن يغضب إن تكلمت، سأنتظر أن يفاتحني بالأمر لم يعد يفيد لفلفة خلافاتنا بالصمت، سأحافظ على الفازا في مكانها ولتكن سبباً للكلام.
  • خطر لي أن أحطم الفازا، أو أن أشتري أخرى لأضعها في الفاترينة، يبدو أن الأمر يتجاوز الفازا، ماذا لو وضعت الفاترينة في الزاوية والكمودينة في صدر الغرفة أو قذفتهما خارجاً… قد أعيد النظر بمكانها قد تكون على الكمودينة أفضل، في هذه الحالة لا بد من وضع الكمودينة بجانب الفاترينة، أو الفاترينة بجانب الكمودينة أو ربما أبدل مكان جلوسي، المهم أن يتبدل شيء ما… وسيأتي الحديث بعد ذلك.
  • سأحطم الفازا، سأجعل ذلك يظهر وكأنه حادث عرضي؛ وينتهي الأمر، أو أشتري واحدة مثلها تماماً، في هذه الحالة سأضع واحدة في الفاترينة وأخرى في الكمودينة، المنظر سيبدو مبتذلاً، لا يهم… لا يهم، المهم أن تنتهي مشكلة الفازا، لكن لا بد أن تكون الفازا القديمة الأصلية في الكمودينة لا بد، والأخرى يمكن أن تكون في الفاترينة… أو في أي مكان يريده.

***

الفازا… قصة قصيرة، بقلم مفيد عيسى أحمد

مفيد عيسى أحمد؛ كاتب وصحفي سوري. صدر له أربع مجموعات قصصية: ثلاثة نداءات وتصبح نجمة، البطل في وقفته الأخيرة، ثلاثة أهداف لبرشلونة، حارس الفلة البنفسجية، ورواية الماء والدم، ومجموعة شعرية (وشاة يقرؤون كتب الحكمة).

خاص قنّاص – جسد السرد

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى