الحصاد الثقافي 2023: قراءة بانورامية
نقدم في هذه القراءة مشاهد من عام 2023 في بعده الثقافي، بأقلام كتّاب وأدباء شاركونا رحلتهم الممتعة والغنية، مسلطين الضوء على كتب وأفلام ونشاطات ثقافية من زوايا مختلفة
…
د. هاتف جنابي (كاتب ومُترجم عراقي)
سؤال يطرح نفسه في أواخر كل عام. وعلى الرغم من تكراره، إلا أنه مهم، نظرا لما يكمن فيه من جدوى لتبادل الرؤى والأفكار والمعلومات التي قد تحفزنا على التأمل وإعادة التفكير. إذا ما استثنينا الأحداث الثقافية في البلدان العربية المتمثلة بإقامة معارض الكتاب في هذه المدينة وتلك، ومناسبات، على سبيل المثال لا الحصر، من قبيل مهرجان القاهرة الدولي للمسرح، ومهرجان قرطاج في تونس، ومهرجان موازين الموسيقي في المغرب، ومهرجان الربيع الثقافي في الإمارات، والجنادرية في المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى الإصدارات من ملاحق ثقافية وكتب ومجلات إلكترونية وورقية، كمجلة نزوى مثلا، فإنني أرى من الضروري الإشارة إلى ما جرى من أحداث ثقافية خارج الجغرافيا العربية. وبغرض الاختصار، سأركز على حدثين فني وأدبي، أراهما مهمين لنا.
يتمثل الأول في عرض فيلم (الحدود الخضراء، 2023) للبولندية أغنيشكا هولاند. وهولاند من مواليد وارسو سنة 1948، وهي مخرجة سينمائية ومسرحية وكاتبة سيناريو وممثلة. وتعتبر ممثلة لتيار «سينما القلق الأخلاقي». معروفة في بلدها وخارجها كثيرا، حازت على عديد من الجوائز. وكل عمل من أعمالها يثير أصداء بله لغطا، وفيلمها الأخير ليس استثناء. الفيلم يتناول بأسلوب درامي الأحداث المتعلقة بالمهاجرين الذين علقوا على الحدود البيلاروسية- البولندية ممن أصبحوا سلعة للضغط السياسي وتبادل الاتهامات.
تم التقاط الصور في منطقة (بودلاسكا) الحدودية ما بين الدولتين البولندية والبيلاروسية. قسمت المخرجة الفيلم على ثلاثة أجزاء هي: اللاجئون، حرس الحدود، والناشطون البولنديون الذين قاموا بمساعدة اللاجئين بشتى السبل. مثل في الفيلم ثلاثون شخصا، من بينها أسماء عربية وشرق أوسطية، من سوريا وإيران وهم لاجئون أساسا. لقد تم استقبال الفيلم بعاصفة من النقد من طرف وسائل الإعلام اليمينية وممثلي الحكومة البولندية المحافظة، لأنه «ينتقد ممارسات شرطة الحدود البولندية ويضعف مكانتها ودورها»، و«يدخل ضمن صناعة الاحتقار لبولندا» و«يقع ضمن الدعاية الروسية»! يدافع الفيلم عن اللاجئين وحقوق الإنسان وينتقد المنحى المتطرف «المعادي للآخر» في بولندا وأوروبا. اعتبرته صحيفة الغارديان «شهادة على ما يحدث الآن في أوروبا». عُرض الفيلم في مهرجان البندقية السينمائي الدولي، ومهرجان نيويورك، وتورونتو، وفانكوفر وسواها، كما رشح لبعض الجوائز. ومن الضروري أن يطلع عليه المشاهد في المنطقة العربية وسواها، وهو دليل على أن هناك ضميرا حيا رغم التعمية، وما تروج له وسائل الإعلام اليمينية والعنصرية في العالم.
الحدث الثاني، يتمثل في صدور الطبعة العربية لرواية «رسالة في تقشير الفاصولياء» عن دار المدى للكاتب البولندي الاستثنائي فيسواف ميشليفسكي الذي يعتبر اليوم أيقونة في مجال الكتابة الروائية. والرواية عبارة عن تبادل ممتع للأفكار والتجارب والذكريات من قبل بطلين غير محددين بالاسم، يبدأ السرد في دكان لبيع الفاصولياء يقع في القرية، وتدور الأحداث المثيرة في غضون يوم واحد. يروي البطل بدقة عجيبة، على مستمعه ومحاوره المفترض (القليل الكلام)، حياته العصيبة أثناء الحرب العالمية الثانية، مرورا بفترة شبابه وهواياته، وسني الدراسة، وما انعكاس الأحداث السياسية والاجتماعية على حياة الفرد، ثم البحث عن تغيير الواقع والمصير من خلال العيش «الكريم» في الغربة التي يهجرها أيضا عائدا إلى وطنه. وبهذا يقدم البطل فاتورة حساب لحياته بالكامل. إنها حكاية رجل عجوز يتذكر، بمسافة فلسفية، آمال وإخفاقات حياته. كتب أحد النقاد البولنديين عن الكاتب: «إن قراءة ميشليفسكي تجعلك تشكك في اعتقاد ما بعد الحداثة القائل إن -زمن الروايات العظيمة- قد انتهى». هذه الرواية التي ستوزعها دار المدى في مطلع سنة 2024 وقمنا بترجمتها من لغتها الأصلية وكتابة المقدمة، ذات أهمية استثنائية فنية -أسلوبية وفكرية وحضارية. إنها وببساطة ستغير ثقتنا المتزعزعة بكثير من الروايات، من خلال زرع دهشة وانبهار في داخل كل من سيقرؤها.
غيداء طالب (روائية لبنانية)
كما كلّ عام، احتفينا مع بداية شهر نوفمبر 2023 بالعرس الثّقافي في معرض الشارقة الدّولي للكتاب، والذي ننتظره بفرحٍ واهتمام لأنّه يتيح لنا أن نتابع عن كثب الحركة الثّقافية في العالم العربي. فمن أمسية شعريّة إلى محاضرة في الأدب، ومن لقاءٍ مع كاتب/ة إلى حوارٍ في النّقد والشّعر والثّقافة، نلتقي قرّاءً وأدباء ومثقّفين لنتحاور، نتناقش ونتزوّد بعددٍ من الإصدارات، بانتظار معرض العام المقبل.
من حصاد 2023، سأتطرّق للحديث عن إصدارين قرأتهما، وأدهشني تميّزهما وعمقهما وتفرّدهما، وسأنوّه بثالثٍ لم أنتهِ من قراءته بعد.
الرّواية الأولى: قارئة نهج الدّباغين للتّونسي سفيان رجب، الصّادرة في يونيو 2023 عن دار مسكلياني، والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر2024. تتألّف الرّوايةٌ من أربعةٍ وعشرين فصلاً. تتقاطع فيها الشخصيّات مع الرّواة ويتداخل فيها الخيال مع الواقع، لتقدّم لنا شخصيّاتُها رؤىً مختلفة في الكتابة والأدب والحريّة.
قارئة نهج الدّباغين للتّونسي سفيان رجب، دار مسكلياني
تعدّدت ثيمات الرّواية وتنوّعت، وأبرزها بالنّسبة لي تجسّدت في ثيمة الكتابة الشّبحية، حيث سلّط الكاتب الضّوء على سياسة تكميم الأفواه، ولجوء بعض الكتّاب إلى الكتابة مقابل المال، أو إلى إصدار كتبٍ بأسماء مستعارة، ما يمنحهم حريّة التعبير والتّمرد على الرّقابة. ثانياً، تيمة القراءة التي منحتها الرّواية أهميّةً كبيرة، بدءاً من العنوان وامتداداً على طول الفصول، حيث لعبت القارئة الفطنة دوراً أساسيّاً في الرّواية، وتفوّقت في اكتشاف هنّات الرّوايات وأخطائها. أما التّيمة الثّالثة فقد فرد لها الكاتب مساحةً أساسيّة وهي تيمة العبور الجنسي وما يليه من رفضٍ مجتمعي يتمثّل في مظاهر عدّة منها التنمّر والتقييد والإقصاء وغيرها.
رواية سفيان رجب مسبوكة بالكثير من التّماسك والتّشويق، دون أن تفقد سلاستها، وبأسلوبٍ ذكي، ساخر، وجريء. لغتها جميلة، آسرة ولا تخلو من الشّعرية. ولعلّ أكثر ما لفتني هي العتبات التي استهلّ بها الكاتب الفصول، وأوهمنا بأنّها اقتباساتٌ وهميّة لكتّابٍ شبحيين، فإذ بها عباراتٌ له، لا تقلّ إبداعاً وعمقاً عن أي اقتباسٍ قد يعتمده الكتّاب لتزيين فصول رواياتهم.
الرّواية الثّانية، ميكروفون كاتم صوت، للكاتب محمد طرزي، من لبنان. صدرت في 2023 عن الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، ووصلت إلى القائمة الطويلة في جائزة الشّيخ زايد للكتاب 2024، عن فئة المؤلّف الشّاب. تتحرّك أحداث الرواية في إطارٍ زمني محدّد ، يمتدّ بين ثورة 17 تشرين عام 2019، مروراً بجائحة كورونا، ثم انفجار المرفأ عام 2020 ، وقد استخدم الكاتب على امتداد الرّواية تقنية الاسترجاع بذكاءٍ وسلاسة، عبر راوٍ عليم أوحد.
ميكروفون كاتم صوت، للبناني محمد طرزي، الدّار العربيّة للعلوم ناشرون
هي رواية الميلودراما. تمثّل فيها المقبرةُ حياةَ مجتمعٍ كامل، فيمتزج فيها الحب مع الموت والقهر والعجز والمرارة وفقدان الصّوت، ولكن، يبقى ثمّة بابٌ للأمل، تركه الكاتب موارباً، عبر مواقف شجاعة لبعض شّخصيّات الرّواية.
رواية جريئة ومدهشة، بدءاً بالعنوان الذي يحمل تضاداً لغوياً، جاعلاً من الميكروفون مسدّساً أو آلة قتلٍ كاتمةٍ للصّوت، ثم البناء الزّمني والرّوائي والأسلوب الفريد في السّرد، إلى صناعة الأحداث والحبكة ورسم الشّخصيّات التي كُتبت بدقّة عالية، وتداخلت ضمن إطار الرّواية، كاشفةً عن قصصٍ تجسّد الواقع اللّبناني، وتمثّل مجمل المواطنين الباحثين عن الأمل، في وطنٍ بات محكوماً بميكروفونات الزّعماء التي تنعى الموت، ويطغى ضجيجها على صوت الحق. ولعلّ من أهم عناصر هذه الّرواية هي اللّغة الرائعة التي نسجها الكاتب بكثيرٍ من الذكاء والحرفة والجمال، فأتت الجمل رشيقةً والعبارات متقنةً وصادقة خاصةً أنّه مزج بين الفصيح والعامي، فكشف عن لهجة جنوبيّة محبّبة وساخرة، أضفت على الشّخصيّات الكثير من الواقعية والمصداقيّة.
ولن يفوتني أن أنوّه برواية أسفار مدينة الطّين التي صدرت بعد طول انتظار عن دار مولاف، والتي تحمل بين سطورها الكثير من السّحر والجمال، وهذا ما اعتدناه من المبدع سعود السّنعوسي الذي لم يخيّب انتظارنا. وسيكون لي مع أجزاء الرّواية وقفاتٌ أخرى بإذن الله.
د. هيفاء بيطار (طبيبة وكاتبة سورية تقيم في باريس)
كانت هذه السنة 2023 مميزة كثيراً بالنسبة لي لأنني استطعت أن أدخل إلى العالم الثقافي الغني في باريس وكان لدي خطة أن أعوض ما ينقصني في العالم العربي. إذ كنت أقصد دوماً مكتبة كبيرة من أربع طوابق في شارع سان ميشيل وهي تطل على كنيسة النوتردام، كان الطابق الرابع في المكتبة صالون للقراءة إذ يمكن لمن يريد أن يستعير مجاناً أي كتاب يريده من المكتبة ويقرأ لساعات، أعترف أنني قرأت كثيراً في الموسوعات، ففي عالمنا العربي نفتقد للموسوعات أو من الصعب الحصول عليها، قرأت أجزاء كثيرة من موسوعة الرسم كيف تطور الرسم ومدارس الرسم وكيف تغيرت القيم الجمالية، اغتنيت جداً بهذه الموسوعة. أيضاً موسوعة في الفلسفة حيث قرأت قصص حياة عظماء الفلاسفة وفلسفتهم. تنبهت لأهمية الموسوعات والمعلومات القيمة التي تقدمها. ولم أتوقع أن أقرأ الكثير من الشعر عام 2023 لكن زياراتي المتكررة إلى لندن ولقائي بالصديق الشاعر العراقي عدنان الصايغ الذي أهداني العديد من مجموعاته الشعرية واصطحبني إلى بيت الشعر وهو بناء كبير جداً متخصص بالشعر فقط. أبهرني شعر عدنان الصايغ وقرأت الكثير من دواوينه وأعتبره من أهم الشعراء وموهبته عالية جداً. وقرأت شعر الصديق ماهر راعي إبن بلدي وديوانه الرائع (مغطس بالشوكولا) الذي كتبت عنه. كذلك شعر الطبيب والشاعر السوري تمام تلاوي.
بالنسبة للرواية كنت حريصة أن أقرأ كل كتب ياسمينا خضرا لأنه كاتب مهم جداً متخصص في تحليل عقلية الإرهاب ورواياته كلها رائعة وأتمنى لو تًدرس في الجامعات، وقرأت رواية (أن تحبك جيهان) للصديق مكاوي سعيد (الرحمة لروحه)، ومؤخراً قرأت الرواية الرائعة لعدنية شبلي (تفصيل ثانوي). وروايات كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. لكن ما أثار إهتمامي كثيراً قصص الأطفال، ثمة أجنحة كبيرة في مكتبات باريس مخصصة لقصص الأطفال. قرأت العديد من هذه القصص الرائعة برسوم إبداعية، مثلاً ثمة قصة للأطفال عن العبودية، كيف تمكن الكاتب أن يشرح موضوع معقد ومخيف (العبودية) للأطفال، وقصص عن أدب الرحلات. شعرت حقاً بالأسى ففي عالمنا العربي الذي يشكل الأطفال حوالي 40 بالمئة من عدد السكان نادراً ما نجد قصصاً تهتم بالطفل! في باريس لا سقف للثقافة والحرية وبرأيي على الكاتب أن تكون ثقافته متنوعة وشاملة للفن والفلسفة.
محمد خضر (شاعر سعودي)
لعل عام 2023 هو الأقل من حيث القراءة ولا أعرف لذلك سببًا أكيدًا، لكن مما قرأته ولفت انتباهي روايات مثل حجر السعادة للروائي أزهر جرجيس والأفق الأعلى رواية فاطمة عبد الحميد، ودواوين مثل رأيت بروك شيلدز، ومختارات جديدة للشعر الهندي وكتاب في الفن بعنوان «الحرب على الفن» لطلال معلا، وآخر في الفلسفة بعنوان «المشي فلسفة».. ولا أنس كتاب «التخلي عن الأدب» لعبد الفتاح كيليطو. كما أصدرت مجموعتي الشعرية «سيرة ذاتية لغيمة» ضمن مبادرة وزارة الثقافة لطباعة ١٠٠ كتاب في الأدب، وصدر لي ضمن مبادرة الكتاب الرقمي ثلاثة من كتبي رقميًا وآخرين صوتيًا.
عبد الجواد الخنيفي (كاتب وإعلامي مغربي)
أحيانا تضيع الكلمات في هذا اللّيل الكثيف الذي يأتي بالكثير من الألم وبصرخات الأبرياء التي تغيب بشموسها المتبقية في القلب والوجدان وتسائل الضّمائر عن معنى الإنسان، جراء جرائم التّقتيل الهمجي للعزّل من النساء والأطفال والشيوخ والفتيان في قطاع غزّة وغيرها… ونحن نودّع سنة ونستقبل أخرى دون حتّى أن نلتفت لبرودة الأرقام، لكنّنا سنظلّ نمسك بذلك الضّوء العنيد الذي يساند أرواحنا في الممرّات، رغم اللّحظات العامرة بالانفعال والتوتر والترقّب.
بكلّ تأكيد وفي لحظات عصيبات عشناها جميعاً من الماء إلى الماء، كان لتداعيات فاجعة زلزال الأطلس الذي هزّ الوطن ليلة الجمعة 8 سبتمبر 2023 الأثر الذي جرح الأعماق ومطر الأيّام القادمة، مخلّفاً خسائر جسيمة في الممتلكات والأرواح وضارباً أنفاس آثار تاريخية نفيسة ومنها المسجد الأعظم بقرية «تنمل» بجنوب مراكش والذي يحظى بقيمة تاريخية، حيث يعود لبداية دولة الموحدين بالمغرب.. بالإضافة إلى قصبة قصر آيت بن حدّو الذي يعتبر من أشهر وأقدم القصور التاريخية.
في رسالته الشعرية النبيلة العابرة باللّغات والثقافات، كان بيت الشعر في المغرب على موعد مع إشراقته السنويّة، حيث جرت يوم الأربعاء 22 نونبر 2023، احتفالية كبرى بالمكتبة الوطنية بالرباط لتسليم جائزة الأركانة العالمية للشعر في دورتها السادسة عشرة للشاعر الايطالي جوسيبي كونتي الذي يمتدّ من سلالة أدبيّة تستلهم واقعها وتنصت بانتباه وعمق إلى عوالم الحياة بمنظوره الشّعري والوجودي.
كما نظّم بيت الشعر في إطار الرباط عاصمة للثقافة الأفريقية، فعاليات مهرجان الشعر الإفريقي من 5 إلى 7 ماي 2023، بمشاركة شواعر وشعراء من المغرب وإفريقيا.
وظفر الشاعر المغربي نبيل منصر بجائزة فيرناندو دالميدا التي يمنحها المهرجان العالمي للشعر «الأنهار الثلاثة» بكندا برسم دورته التاسعة والثلاثين، وهو ثالث شاعر يفوز بهذه الجائزة بعد كلّ من جان كلود أونو من الكاميرون وأمادو لامين صال من السينغال، ويعدّ منصر من الأصوات الشعريّة المُجدّدة.
وفي مجال السينما، عرف المهرجان الدّولي للفيلم بمراكش الذي امتدّ من 24 نوفمبر إلى 2 دجنبر 2023 حدث فوز الفيلم المغربي «كذب أبيض» للمخرجة الشّابة أسماء المدير، بالجائزة الكبرى النجمة الذهبيّة. والفيلم مأخوذ عن أحداث واقعيّة عاشتها المخرجة، بحيث يستحضر ذهابها إلى منزل والديها في مدينة الدار البيضاء لمساعدتهما في الانتقال إلى بيت جديد ومن ثمّ تبدأ الانطلاقة في رحلة استكشافية لأسرار عائلة أسماء… بالإضافة إلى أنّ الفيلم يمزج بين الشّخصي والعام من خلال استعراض السياق السياسي بالمغرب في العقود القليلة الماضية.
الشاعر المغربي الرّائد عبد الكريم الطبال الذي كلّما اقتربنا من عوالمه الشعريّة والممتدّة في الزّمان والإنسان، إلاّ وتعمقنا في ذواتنا وفي كلام النّبع الذي يتجدّد باستمرار، وهوّ يصنع تنوّعاً كبيراً داخل حدائق قصائده، حيث شكّل ديوانه الأخير الموسوم بـ «قريبا من البحر» الصادر منتصف سنة 2023 عن مكتبة سلمى بتطوان، انعطافة أخرى جديرة بالكبار، تمنحنا تلك الجاذبيّة الصافية صوب الضّفاف البعيدة حيث التّكثيف الرّؤيويّ.
كما شكّلت فعاليات الدورة 28 لمعرض الكتاب بالرباط زاوية فسيحة، مفتوحة على البدايات ووجه المسافات الطويلة القادمة بأسرار الكتب وراية العشق الأبديّ، شارك فيها 737 عارضاً من 51 بلداً متجاوزاً 120 ألف عنوان وعنوان… كما تمّ تنظيم أيضا الدورة الدورة الأولى من المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء.
وحيث أنّني دائما أواكب الأعمال السرديّة للروائي الفذّ الصديق عبد الجليل الوزاني التهامي، التي تقاطع فيها الذّاتي بالموضوعي والعديد من الممرّات الحياتية المتشابكة… فإنّ روايته «نساء البيت الخلفي»، حقّقت نقلة جديدة في مساره الرّوائي، بعدما لامس في مضامينها بلغة إبداعية بالغة الحيويّة، ظاهرة الأجواق الموسيقية النسويّة بشمال المغرب خلال القرن العشرين، ورصده لمعاناة «زهور»، المرأة المفترضة التي أسّست أوّل فرقة نسائية بمدينة تطوان وما ميّز تلك الحركة الحضارية، السياسية والثّقافية بالمغرب ما قبل وما بعد الاستقلال من مطارحات وهواجس وأحداث.
وبالوقوف على مجال الترجمة، فقد شكّل كتاب: آرثور رامبو.. مقاربات.. شهادات.. إضاءات بترجمة أنيقة وصادقة من الناقد والمترجم والأكاديمي الراحل بنعيسى بوحمالة إضافة نوعيّة جعلتنا نسافر مع الرّوح الوقّادة للشّاعر رامبو ومخيلته الجبّارة المرادفة للعنفوان الوجودي والامتلاء والانطلاق.. ولتمثلاته الكتابية ومشاغله الإبداعية الذّاهبة بالأقاصي.
آرثور رامبو.. مقاربات.. شهادات.. إضاءات، ترجمة بنعيسى بوحمالة، منشورات بيت الشّعر في المغرب
وفي مسار التّتويجات، حظي الناقد المرموق عبد الفتاح كليطو الذي تنبض كتاباته بالرّؤى وتفتح الأبواب على دهشة التّأويل وأضواء الأعماق، بجائزة الملك فيصل للغة العربية والأدب، في موضوع «السرد العربي القديم والنظريات الحديثة».. فضلا عن تتويج أسماء مغربية أخرى بارزة بجوائز عربية.
وفجعت الساحة الأدبية برحيل أحد الروائيين المغاربة الأفذاذ، صاحب «البعيدون» و«أبو حيان في طنجة»، و«كدت أعترف»… الروائي الصديق بهاء الدين الطود (1946 – 2023) الذي كان يجيد رسم الحكايات.. ويجيد استدراج الذاكرة إلى عوالم تقرأ العالم وتبحث عن المحطات البعيدة.. تبحث عن ضحكة مشرقة لتصفع ما تبقّى من اللّيل.
حاتم الشهري (كاتب سعودي)
الحقيقة أن هناك العديد من الكتب المميزة التي اطلعت عليها في 2023؛ «الكتابة وقوفا» لحسن مطلك والذي أعجبني في هذا الكتاب تحديدا هو حديثه عن وعي الكاتب بالكتابة وكيف أن الوظيفة الأساسية للأدب هي أن تجعل الإنسان يتحسس مكانه في الوجود، وأن أدبا لا يتناول مشكلات الإنسان الأولية في العالم، ويكتفي بتطوير حياة زائلة، هو أدب زائل بزوال الشرط التاريخي للمشكلة. ثم يعرض للأدب والفلسفة ويقول أن الأدب هو خيانة للفلسفة، ولذلك هو أدب، وبالمقابل فإن الأدب لن يكون أصيلا إذا ما قطع علاقته بالفلسفة إلى آخر مواضيع الكتاب الشيقة.
ثم إني تأثرت كثيرا بالأعمال الكاملة لرياض الصالح الحسين ذلك الشاعر الوضيء البهي الذي أحببته جدا وأحببت وداعته إذ أنّه يملك أداة حادة لكن محنطة، ثم ما هذا الشاعر الذي تحضر لديه أسماء الفواكه بكل هذه الكثافة: البرتقال والتفاح والعنب والأناناس؟ على هذه الكثافة الفواكهية إلا أن هناك لغة عسكرية تمتزج بالدم ولذلك نرى مفردات كثيرة مثل: خندق/ قبر/ موت/ مسدس/ رصاص/ سكين/ كلّاب/ دم.. إلخ.
ولا يمكن أن أنسى كتاب «مكتباتهم» لمحمد آيت حنا، ففي هذا الكتاب ستجد أفكارا تزن حِمل بعير، والذكي من استفاد من هذه الأفكار والتي ليست موجودة على قارعة الطريق؛ بل هي موجودة على طبق فاخر وطاولة فخمة بحضور أميز وألمع العقول على مر التاريخ. إنه يتحدث عن أنواع القرّاء، فهو يفرق بين القارئ النهم وبين مقتني الكتب، ويتساءل بسؤال وجودي: ماذا لو قرر الجميع أن يصيروا كتّابا؟ ويتحدث عن فرضية انعدام وانحسار العالم لدرجة أن أثرى أثرياء العالم سيقايض نصف كوب نقي من الماء بثروته، فهل في هذه الحالة وهذا الوقت سيكون للقراءة وللكتاب وللمكتبة أهمية؟ ويتحدث بكل حب وفلسفة أيضا عن الفراغات الموجودة في المكتبة ويشببها بالفراغات البشعة الشاسعة بين الأسنان، فيقول كما أن كمال الإسنان اصطكاكها مع بعض فكذلك حال الكتب في المكتبة، لا ينبغي أن يكون بينها فراغات، وهذا تشبيه حسن. لا أستطيع القبض والتنبيه على كل فكرة حسنة في الكتاب؛ لأنها أكثر من أن تحصى، وأعز من أن تعيّن؛ لكنني أقول أن هذا الكتاب تحديدا هو الصديق الوفي وهو الذي تستطيع بلا تفكير أن تستغني عن الأصحاب به.
الكتاب كارثة جمالية، ومنجم أفكار، وخزانة من الآراء. هناك كتاب دافئ هو كتاب «العالم الذي أحيا فيه» لهيلين كلير، إن الكلام عن الحياة وحبها من شخص مثل هيلين كلير يجعلنا نعيد التفكير في النِعَم التي لدينا والمواهب الربّانية التي منحها الله لنا. كما هو معلوم فإن هيلين كلير أديبة أميركية لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم منذ أن كان عمرها تسعة عشر شهرا؛ لكن هذه الإعاقة لم تمنعها من أن تكون ناشطة ومتحدثة تجوب العالم للحديث عن التفاؤل وحب الحياة. وقد يكون عنوان هذا الكتاب «التأهب للرحيل» غريب لكنه حتما مفيد: الطريقة السويديّة في تحرير الأقرباء من فوضى حياتك بعد الموت، الكتاب يتحدث عن كيفية تعامل الورثة أو من هم حولنا في أغراضنا الشخصية بعد الرحيل الحتمي. باختصار التأهب للرحيل هو: «استعراض كل المقتنيات واتخاذ قرار بخصوص كيفية التخلص من الأشياء غير الضرورية». الفرق بين التأهب للرحيل ومجرد الترتيب هو مقدار الوقت الذي تقضيه في كل منها. لا يتعلق التأهب للرحيل بنفض الغبار أو التخلص منه، بل الاستعداد والفعل المتواصل من التنظيم الكفيل بجعل الحياة اليومية تسير بصورة أكثر سلاسة.
كتاب «لماذا يكره المثقفون بعضهم»؛ عنوان جاذب وصادق في آن واحد؛ لأننا كلنا نعرف أن هذا السؤال هو انعكاس لواقع مأزوم بين المثقفين. هل هذا عنوان جاذب لمحتوى سخيف؟ لا، لم يكن كذلك، بل هو عنوان قوي مشتق من قوة بدن الكتاب. الكاتب يلوّح بساطور نقدي بين السطور، وهو لا يمشي الهويْنا بل يتعجّل؛ لأن الموضوع الذي يناقشه لا يليق به إلا التلويح بالساطور. هذا الكتاب وثيقة مهمة للغاية ولو كان لي الأمر لعممته على جميع المثقفين بوجوب قراءته؛ لأن هذا الكتاب لا يعطي مُسكّنا للألم؛ بل هو ينظف الجرح بسكب كميات كبيرة من الملح.
«الآلهة لا تبتسم لمن يهمل القدماء» لمحمد الساهل؛ هذا الكتاب هو حوار عقلاني، وجدال صحي في قضايا كثيرة تخص أدبنا العربي، وليس المقصود من هذا الكتاب ومن مثيلاته أن نقبل كل ما فيه، أو نرده كله، المقصد -في ظني- هو رمي حجرة كبيرة في بركة النقد الآسنة لفترة طويلة. حينما انتهيت من الكتاب، ودّعت صديقا عزيزا جميلا رائعا، لا أظن أني سألتقي بمثله في الأيام القادمة إلا نادرا.
ومن ناحية الفعاليات فأعتقد أن فكرة معتزلات الكتابة التي أقامتها هيئة الأدب والنشر والترجمة في السعودية فكرة رائعة وهي توفير البيئة المناسبة للكاتب في أحد مناطق المملكة التاريخية والتراثية والتي شارك فيها كتاب ومؤلفين وأدباء وفنانين من جميع أنحاء العالم، إن توفير هذا المناخ للمبدعين يسهّل عليهم استكمال وبناء مشاريعهم الإبداعية الكتابية.
ميسون شقير (شاعرة سورية تقيم في مدريد)
ربما تكون قراءة رواية عميقة هي أفضل ما يحصل لنا خلال عام كامل. في عام 2023، عام الزلازل والفيضانات، عام الحرب في أوكرانيا، عام التهديد بالمجاعة العالمية، والأسوء من هذا كله، هو أنه عام قتل الأطفال الجماعي في غزة، وكأنه محكوم على هذا العام أن يكمل دينه من الحياة وينتهي بجنازات طويلة لأكفان كثيرة جدا وصغيرة جدا، ومحكوم علينا نحن، أهل هذي البلاد، أن نبكي كما لم نبك يوما، أن تسقط منا قلوبنا على الأرض كما لم تسقط يوما، وكأنه كان ينقص جرحنا السوري ملحا فلسطينيا قادما من بحر غزة الذي لا ينام.
في هذا العام أستطيع أن أقول إن روايتين اثنتين قد حاولتا انقاذي كل على حِدَة وكل بطريقتها الخاصة، كأنهما ساحرتين امتلكتا عصا قادرة على سحبي من نفسي والطيران بي في عوالمهما الواسعة على الرغم من الوجع الذي يسكنهما ويسكن أحداثهما، إلا أنهما قد استطاعتا خلق أفق ولون جديد ربما لم يجدوا له اسما بعد.
الرواية الأولى كانت رواية «بلدي تحت جلدي» من ترجمة الأديب الصديق أحمد عبد اللطيف، والمنشورة في دار المدى، للروائية والناشطة الثورية جيوكوندا بيلي القادمة من نيغاراغوا، والتي تعيش حاليا في مدريد لأنه محكوم عليها في بلدها بالسجن. الرواية عبارة عن السيرة الكاملة للمؤلفة ابتداء من ولادتها ثم نشأتها في عائلة ثرية تسكن أرقى أحياء ماناغوا، الاسم القديم للعاصمة، ومروراً بتمسكها بالفكر اليساري ثم انضمامها إلى الحركة الثورية الساندينية التي أسقطت الدكتاتور سوموزا عام 1979، لتكمل الرواية الحديث عن ضياع الثورة على الرغم من انتصارها، وخلال كل ذلك تفرد الروائية حياتها الخاصة كامرأةً وكشاعرةً، ولأن حياة الثائرين والمعارضين متشابهة في كل بقاع الأرض الضيقة، فهي شبيهة بحياتنا نحن السوريين. لقد قرأت الرواية بقلبي قبل عيني ولعلها ستجبرني على كتابة روايتي يوما بصدق وبجرأة عما عشناه.
«بلدي تحت جلدي» للروائية جيوكوندا بيلي، ترجمة أحمد عبد اللطيف، دار المدى
أما الرواية الثانية فهي رواية «خاتم سليمى» للروائية السورية الصديقة ريما بالي والتي، وعن جدارة، قد رشحت مؤخرا ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية، حيث فاضت هذه الرواية بعوامل ساخرة من التاريخ والدهشة والجمال والحب والخذلان والتشتت كأنهما وبكل رشاقة تعيدنا إلى حلب التي خرجنا منها منفيين ومقهورين هي سيدة الحضارات الأولى وأم الحياة والابداع والعطر والموسيقى والرسم واللون على هذا الكوكب. تدور أحداث الرواية بين كل من سلمى ولوكاس وشمس الدين، الثلاثة الذين يوحدهم عشق حلب «المدينة الغاوية المغدورة التي تئن أسفل أنقاض الأحلام والفرص الضائعة»، وخاتم سُليمى السحريّ، وكأن الروائية السورية ريما بالي لا تنفك تطرح على كل منا تلك الأسئلة التي لا تتعب ولا تنام.
رواية «خاتم سليمى» للسورية ريما بالي، دار تنمية
وبالنسية للأحداث الثقافية التي كانت بالنسبة لي هامّة خلال عام 2023 فأولها هو مهرجان فبراير الشعري الذي ينظمه الصديق الشاعر عبد الهادي سعدون في مدريد وذلك لتنوعه ولغناه الشعري ولاستقطابه لعدد من الشعراء القادمين من دول مختلفة. وأرى أيضا أن الفعاليات الثقافية والندوات والمداخلات والدراسات التي أقامها هنا في مدريد مجموعة من الأكاديميين والكتاب الاسبان والعرب دعما للسردية الفلسطينية، ونَفْياً للسردية الصهيونية، هي فعاليات في غاية الأهمية وكنت قد شاركت في احداها مع الدكتورة المستعربة كارمن رويث برافو في تكريم الشاعرات الفلسطينيات اللواتي قتلهن الهجوم البربري على غزة نهاية هذا العام.
لبيد العامري (شاعر عُماني)
منذ نصف قرن والأدب العماني لا يفتأ يلد ويتناسل الأسماء التي لم أجد لها صفة تنصفها كقوية، قوية إبداعيًا وفكريًا، مثقفون كبار كغيرهم من الكتاب العرب الكبار، أسّسوا تلك البداية الناضجة المتحققة للأدب العماني الحديث، كسيف الرحبي وعبدالله الطائي وسماء عيسى وزاهر الغافري ومبارك العامري وعبدالله حبيب ومحمد الحارثي وعبدالله الريامي وآخرين، بيد أنني لم أشاهد هذا الالتفات العربي والعالمي المشرف، الذي حلم به السابقون، للأدب العماني مثل ما أراه ونراه، إذ بدا لا يخفى على عين، في السنوات الثلاث الأخيرة، على وجه التحديد بعد فوز جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر العالمية لعام 2019 كأول عربية تفوز بالجائزة عن روايتها المترجمة «سيدات القمر»، هذا الاستحقاق الذي لفت أنظار العالم للأدب العُماني، أو بمعنى آخر شغل فضول العالم للاطّلاع على هذا الأدب الجميل الذي يعتمل لوحده مشتغلاً على نفسه، بعيدًا ومنعزلاً عن الأضواء.
على العموم تَلتْ سيدات القمر، «دلشاد» بشرى خلفان التي حصلت على جائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الثامنة إلى جانب وصولها للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2022، فضلا عن جوائز شعرية أخرى لعزيزة الطائي وعائشة السيفي وبدرية البدري، وغيرها من الجوائز في مجال الأدب بشكل عام.
أما في سنتنا هذه 2023، ثمة روايتان عمانيتان جميلتان حصلتا على جائزتين عربيتين، وهما رواية «تغريبة القافر» لزهران القاسمي الحاصلة على جائزة البوكر العربية لهذه السنة، زهران الشاعر قبل أن يكون روائيا، الذي تستحضره كلما شاهدت جبال وأفلاج عمان، وغيرها من تضاريس ريف وقرى هذا الوطن، بالإضافة إلى رواية «الحرب» الحاصلة على جائزة كتارا لهذه السنة، للكاتب والإعلامي الدكتور محمد اليحيائي، الذي حلم مع ما حلم به السابقون في أدب عماني ساطع عالميا وعربيا.
ليتبع هاتين الروايتين خبران جميلان آخران هما وصول رواية بدرية البدري «فومبي» إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2024، هذه الرواية التي شدّتنا لقراءتها في أقرب فرصة، بدرية البدري التي عرفها الناس كشاعرة توّجت بلقب شاعرة الرسول في عام 2021، إلى جانب صعود مجموعة يحيى سلام المنذري القصصية «وقت قصير للهلع» للقائمة الطويلة لجائزة الملتقى العربية للقصة القصيرة في دورتها السادسة، وهي المجموعة القصصية السادسة للكاتب، هذا الكاتب الذي تمرّس في كتابة القصة القصيرة منذ ثمانينيات القرن الماضي ليصبح أحد أهم كتاب القصة القصيرة العمانية إلى جانب محمود الرحبي وآخرين.
حسين الضاهر (شاعر سوري)
في السابق، كانت علاقتي طيبة مع الزمن، إذ رأيت فيه كائنًا متمردًا يعلو بنا ويهبط، بحسب إرادته، وقد كان ذلك ممتعًا كأننا في أفعوانية، تارة يرتفع الأدرينالين ليبلغ قمة النفس ثم وبوقت قصير يهبط القلب ليستقر بين الساقين. أما في السنوات الأخيرة، فقد تغيرت نظرتي تلك تمامًا؛ فالزمن اليوم كائن بائس مثلنا، في هبوط فقط، رقم على جثة مجهولة الهوية: 2023 مثلًا، على المستوى الشخصي تداركت منتصفها فرميت خطوة باتجاه مجال أدبي لم أفكر قبلًا بوطء عتبته، ربما كان توجهي هذا يعود إلى أن إحساسي بالزمن قد تغير، وبت أجري له جولات تنفس اصطناعي علّه يستفيق مجددًا.. أما بدايتها فقد كانت كارثية للغاية، حيث نال الزلزال مني لحد أنني إلى الآن أنزح الركام عن جسدي. وإن نظرنا إلى آخرها؛ فها هي غزة تشهد على أن العجز أكل ألسنتنا.. كما أكدت لي أنها لن تكون مادة أدبية مطواعة؛ فالمجزرة المستمرة هناك، أوسع من أن تُكفن بقصيدة، والدم لن تقدر رواية أو قصة على لملمته بين سطورها.
ما زلت أمشي واثق الخطى نحو العزلة، على الرغم من أن فضاءاتنا الخارجية باتساع دائم، إذ إنني بِتّ أكثر خوفًا من نفسي وأكثر رغبة في فهمها، لذا أذهب معها جانبًا علها تُسِرّ لي همومها. وهذا ما لاحظته أيضًا على كثير ممن أعرفهم، حالة الأتمتة والتكنولوجيا -بضجيجها- صارت تدفعنا إلى زوايا أكثر هدوء. على العموم، كانت سنة جافة، وأرجو أن تكون نقطة انطلاق للكثير فيما بعدها.. لفتتني فيها بعض البرامج والمسابقات التي كانت تعتبر قصيدة النثر صبيًا قاصرًا، تركتْ تلك الاعتبارات وأخذتْ تتصالح معها على أنها راشد يسير في درب الجمال ويفقهه.. هذا انتصار للناثرين، أصدقائي الذين حالفتهم السنة ليشاركوا في «المعلقة» مثلًا، وأتمنى أن تستمر انتصاراتهم وتتسع.
بينما بالنسبة للقراءة، فقد تميزت عن سابقاتها بكثير من القراءات والاكتشافات في هذا المجال الممتع أكثر من الكتابة نفسها.. وربما هذا التميز حضر من خلال العزلة.. كنت قد خصصت هذه السنة لقراءة الفلسفة؛ فوجدتني أهرب إلى الشعر كالعادة؛ فكان له النصيب الأكبر، وبين القش الكثير عثرت على إبرة شعرية لامعة ومجنونة، حملتْ عنوان: «لا ماء يكفي الغرقى» لشاعر اسمه محمد رضا، بحثت عنه افتراضيًا في كل مكان، ولم أجد له أثرًا، وبصراحة هذا ما زاد تعلقي بتلك المجموعة. وأيضًا هيرمان هسه، ذلك الأسطوري الذي يجعل من القراءة مبارزة مع النفس، مررت من واحته وأخذت رشفة.. هذا عدا عن مراجعات لقراءات سابقة، إلى جانب العمل الذي هو بالأصل يقوم على القراءة. الأمر هنا يتخطى النسبة والأعداد ليستقر في خانة القرب من الكتاب المقروء. لا أعد قوائم لهذا الغرض، وغالبًا أنحاز عما أثثت له في فكري، أهرب من القواعد والقوائم، أقرأ وأنسى كثيرًا مما قرأت، وأعود لممارسة النسيان يوميًا.
المجموعة الشعرية «لا ماء يكفي الغرقى» لـِ محمد رضا، دار النهضة العربية، 2023
كان اعتقادي أن السنة ستكون حبلى بالنشاط الأدبي، خصوصًا أنها تلت -بوقت جيد- مرحلة الوباء، ولكن اعتقادي أصاب في جانب دون آخر، فكوني مطلع على مجال النشر، وأعمل فيه؛ فقد لمست ازدهارًا بالنشر، لكن في المقابل، لمست أن الفعاليات الأدبية والثقافية في تراجع إن قارناها بالسنة التي سبقتها. بالتأكيد هي رؤية شخصية، قد تتأثر بكوني في ابتعاد متزايد عن تلك الأوساط، لكن على العموم الأمر غير مغرٍ بالنسبة إليّ.
حامد بن عقيل (ناقد وروائي سعودي)
يحمل الراعي في حقيبة سفره أغانيَ وحداءً، يمشي على أرصفة المطاراتِ ملوحّاً للريح: هناك أصدقاء وذكريات، مدنٌ لم أكتشفها بعد، وقطيعاً من قصائدَ رعويةٍ لا بد من اصطياده.
على بوابةِ مسقطَ يجدُ الراعي فاكهةً غريبةً من همس، الهدوء الساحر الذي احترفه العمانيون منذ حضارة «سَمَد». يحكي قصّة عبوره التام نحو الأغاني المختلفة التي يراها في عيون العمانيين: «أحسنتَ»، ثم يبتسم، «أحسنتَ» ثم يدعوك لقهوته.
في المطار وجدتُ الصديق العزيز خلف علي الخلف في استقبالي، برفقة ابن أخيه الكريم: فصيح الخلف. ثم مضينا في طرقات مسقط، التي عبرتها قبل ستة عشر عاماً مع بدر الراشد وفي ضيافة الصديق الكريم زهران القاسمي. هذه المرة الثانية التي أعبر فيها شوارع مسقط، لكن لا أدري ترتيبها في عدد المدن التي تسكعتُ فيها برفقة صديقي العزيز خلف الخلف. كل شيء يمر من أمامي الآن وأنا في صالة انتظار المغادرة. الرحيل عن مسقط يجيء بذاكرة مختلفة وألوان حادة تشبه ورود صحراء عُمان النادرة، لكنها الورود المدهشة والقريبة من قلوب الرعاة لأنها تتجاوز اللون إلى حداء هامس كصوت العُماني وهو يدلك على الطريق، ويختم حديثه: «أحسنت».
حدثني خلَف في آخر ليلة عن الصباحات الأولى في كل مدينة عبرها، وبخاصة صباحات المدن الساحلية، فتقاطع حديثه مع حديث دليلنا السياحي بمدينة نزوى العُمانية حين مر بنا عبر أسوار قلعة نزوى وعرّفنا على بواباتها/ صباحاتها كما يسمونها. وهو الحديث ذاته الذي تكرر لاحقاً من الجميل زهران القاسمي عند الحديث عن أبواب بيوت شاطئ مدينة قريات وقلاعها المبنية في البحر. كل هذا جعلني أفكر في صباحات مسقط، فكل صباح مختلف بدءاً من صباحات أحياء بوشر ومطرح والقرم والغبرة والمعبيلة والعامرات وروي ومدينة السلطان قابوس وحتى صباحات قريات مدينة الأفلاج وبداية الجبل الأسود وسد وادي ضيقة.
احتضنتْ جبال مسقط بعض صباحاتي، فالجبال فيها هي نهاية وبداية أي فضاء، المدينة التي تمتد على خليج عُمان تصطدم دائماً بالجبال المتباينة الألوان والارتفاعات، ما يجعلك تتذكر بيروت، إلا أنها مختلفة جداً في أحلامها عن بيروت، فمسقط لا تلهث، ولا تحاول الانتحار، ولا تدعي الكمال، بل تسير بهدوء نحو الحياة، كنخلة تراهن على الوقت وعلى ما ستنتجه من ثمار ولو حمل الإنسان فأسه وأراد بها سوءاً، أليست مسقط هي مدينة الأعاصير التي علمتها أن البقاء فكرة بسيطة لا يمكن أن تُهزم؟! في الذاكرة الكثير، ربما يبدأ من أبواب ملونة لبيوت حديثة ويعود بي إلى بوابات القلاع التي أدهشتني، فعلى سبيل المثال في قلعة «بهلاء» في محافظة الداخلية، تُعرّفك البوابات بعهود هذه القلعة المركّبة، ففي حين يمتد وجود القلعة إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد إلا أن حصنها الشمالي وبيت الحديث شيدا قبل مئتي عام فقط، ولكل عهد أبوابه ونوافذه. هذا البناء المستمر المتجدد ستجده في قلاع «جبرين» و«نزوى» وقلعة «الصيرة» في قريات تلك القلعة الصغيرة الجاثمة على هضبة داخل البحر.
ممحاةُ العدم، دراسات سيميائية في الأدب العُماني الحديث لِـ حامد بن عقيل، دار الحوار، 2023
وفي القلب كتابات العمانيين، إبداعاتهم التي تغزو العالم بهدوء يشبههم، رواية «الفطر» لمحمد العجمي، و«حرب» محمد اليحيائي، و«قنّاص» القاسمي زهران، و«دلشاد» بشرى خلفان، و«مموّه» الرحبي و«فارهو» ليلى عبدالله، و«لعنة سين» لبسام علي، وحكايات «الرجل الذي لا يحب جمال عبد الناصر» لسليمان المعمري، وقصص يحيى سلام، ودواوين عبدالله الريامي ومحمد السناني وصالح العامري وفتحية الصقري. كلٌ يحاول، كالقلاع والآثار، أن يقف في وجه الفناء وأن يمحو العدم، أن يثبت الوجود والحياة والديمومة، لأن حضارةً ممتدة لآلاف السنين لا تقبل إلا أن تقول ما لديها للعالم، وأن تجبره على أن ينصتَ لطريقةٍ جديدة، هي أن ترفع صوتك من خلال الحرف المبدع لا من خلال حنجرة الضجيج والفراغ.
***
الحصاد الثقافي: قراءة بانورامية للمشهد الثقافي في 2023