“إن لم أكن أكتب إليك من بلاد تختلف فيها الآراء، والأفكار، وآداب السلوك، كل الاختلاف عما هي حيثما أنت معتاد، فأني أخشى تقريبا أنك لا تصدق الرواية التالية…“
سنة قرأت كتابها الأنثروبولوجي، الرحلّي؛ “عشرة أعوام في طرابلس- 1773-1783م” تخيلتُها، وهي تعبر الشارع الضيق، تغادر مقر القنصلية بعربة وحرس، وما أن دخلت القنصلية الانجليزية بالمدينة القديمة. طرابلس، أقضي ساعات في مكتبتها، إلا واستعدتُ حضورها، الشابة الشغوفة بالمعرفة، الانجليزية مِس توللي، هنا جلستْ، كتبتْ، تحدثتْ، أكلتْ وشربتْ، حزنتْ، حُجرتْ لأشهر من وباء، أفعالها حدثاً حدثاً تحضر أمام عيني، مما أشبعته تدويناً بكتابة مُدهشة ماتِعة، تدخلنا معها بكل حواسنا. مدونتها وَصْف حَيّ كشاهدة عيان، متفاعلة باثّة رأيها، سياسياً اجتماعياً وثقافيا، مقاربة تفاصيل مكان وزمان وشخوص اعتبارية، وعابرة، بل ومتخيلة. فهل عين الرّحالة الأنثى أوسع أحاطة، ثراء، في تدوينها من عين الرّحال الرجل؟ سيدة توللي العاشقة المنشغلة بالتفاصيل، من أهملتْ أن تعرفنا بنفسها وحملت غموضها وغادرت، وللباحث المتمعن في سير الرّحالين أن يقارعها بمن فعلها صنوها، في رحله وبالمتاح له، إن استطاع، لدحض فارقة أنثى التفاصيل بلاحد، وليس كمثلها أحد!
“أقترح أيها الصديق العزيز، أن أقدم لك في هذه الرسالة وصفاً لزيارة قمنا بها حديثا، إلى أسرة الباشا، وَلِما كان داخل القصر، وخدر الحريم، والقلعة، في طرابلس مواقع لم توصف بعد، من قبل أي شخص، يُسمح له بالدخول سراً إلى باطن أسوارها…”
في ظني ما من شخصية، رجالية أو نسائية، رحالة، أم اعتبارية من السلك الأجنبي زارت ليبيا وأقامت، بزمنها ولاحقا، وقدمتْ ما أنتجته مس توللي من سفر تاريخي سوسيولوجي، أنثروبولوجي، فَارِقتُها أنها قاربتْ دواخل الشخصيات، ونَسْجها المؤامرات والمفاعيل الغريبة، من رأتهم عينا، وأعملتْ سؤالها ومصادرها، مدعوة إلى القلعة أكثر من مرة، وفي حجرة اللا حلومة زوجة الباشا الكبير علي، السيدة الأربعينية فائقة الجمال رغم كبرها، بشعرها الأبيض وعينيها الزرقاوين، من تحوز من مدونة مس توللي إحاطات ملفتة، كما سيكولوجيا الشخصية، إذ تجوس في نموذجها السلطوي، عبر مواقف وحكايات داخل القصر، وعن العِلاقة بالآخر، حلومة الصارمة حينا، والودودة الرهيفة حيناً آخر، وبينهما من تخلع زي الفخامة والهيبة لتصير مثقلة بالحزن، سوداوية، مُهملة لملبسها تحيطها الندابات، من أثَرِ مفاعيل أبنائها، غَيْرَة وتآمرا، صراع الأخوة من أجل السلطة، فعند قدميها يقتل الأخ أخاه ويذبحهُ في لقاء صُلح!
” … للا حلومه تحتفظ دائما بشيء من ملابسها يُعبّر عن حزنها العميق، تتألف بدلة الحزن من الملابس التي تغيرت ألوانها كليا، وفقدت مظهرها الجديد بكل ما فيه من رونق وبهاء… وحين تطلب غطاءً جديدًا للرأس، الموشى والمطرز تطريزاً فخماً الذي يشبه قطعة صلبة من الذهب، فأنها لا تضعه مطلقاً على رأسها قبل أن يُطمس في الماء أمامها، فيزول عنه كل ما فيه من جمال وبهاء، وفي غضون هذه العملية تبكي وتنتحب وتذرف الدموع، وترتجل النائحات أبيات رثاء …”
نمنمات سنوات توللي في طرابلس متأملة حاذقة، ليس رصداً بعينيها وحسب، بل ذهنها يعمل ويحلل، من يرقبُ ما سجلته عن مَقَرّ سَكَن كل العائلة القرمانلية، السرايا الحمراء، وصفها للقلعة مقر السلطة، يوم دخلتها، ولأول مرة، بمكنة أن يتوجها مهندسة بنا، فهي تتقصى المعايب، وتسأل؛ وماذا لو كان كذلك؟ ثم تجيب، بل وحيناً تشفع للبنّاء فعله لأجل أن يكون للمكان أسراره.
” خلال هذه القاعة ساحة مربعة الشكل مبلطة تدعمها أعمدة من رخام، وفيها بُنِيَ المجلس أو حجرة المجلس، التي تنتهي من الخارج بالقرميد الصيني، الذي يؤلف عدد منه لوحة فنية كاملة، ويؤدي سلم معلق مَبْنيّ من الرخام المزخرف إلى باب المجلس، وتعزف فِرْقَة الموسيقى الخاصة بالوالي كل يوم بعد الظهر…”
حين أغادر المكتبة، وأتمشى لموقف السيارات، أعبر حماماً تقليدياً شهيراً، حمام درغوت باشا، تتداعي بمخيلتي، ما تَكَشَّفَتْهُ وبدا غريباً مدهشاً بجمالياته عندها، لمن يُقمن طقوساً من أول صباحهن حتى آخر النهار لأجل فعل الاغتسال، مشهد ولوج النساء للحمام بتفاصيله، لطقوس تُمارس أوان القيام بما أعتدن عليه من عادات وتقاليد ما قبل وأثناء وبعد حَمّامهن، عن طرائق غسل الشعر لوحده، مُتابعةً لإحداهن من تغسل شعرها غسلاً جيداً بماء زهر البرتقال، وأخرى تكون على أتم الاستعداد لتجفيفه بمسحوق خاص، أعَدَّتْه من العطور التي تفوح رائحتها، المؤلفة من العنبر المحروق، والقرنفل، والقرفة، والمسك. ووصيفات يتنقَّلنَ بين هذه وتلك في مهمات منتظمة لا يخطئنها، ومشَّاطة تُقسم الشعر وتضفره إلى جدائل صغيرة، لا يقل عددها عن خمسين، هي عرفت الضفيرة الواحدة، ضفيرتين، لكنها مع الضفائر المنسدلة، بِدِعَة تدبج عنها كتابة شعرية. كم من الحواس تُفصح عن نفسها لقارئها، لعلنا لا نقارب وصفاً كهذا، هي مدعوة تمارس فعلهن، وتخزن قصة، وتعد سيناريو سينمائي، لنكون معها بالمكان الخاص!
” تزدحم الحمامات الكبيرة المشيدة بالرخام بالسيدات في كل ساعة من ساعات النهار، حتى غروب الشمس، اللواتي يذهبن إليها لتزيين أنفسهن، فيصطحبن معهن المشَّاطة والوصيفات، يقتضي حضور السيدة إلى الحمام عدداً من الخادمات…”
وبعد، في المدونة الرحلّية عن ليبيا، تحضر الرّحالات في زمن بين قرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولعل الملفت فيما أتيح مما ترجم ولم يترجم، أنهن رحالات مُرافقات أو قريبات، ممن عملن بسلك دبلوماسي، سياسي، نموذجهن أقدمه، وأشهره أيضا، وتظل مرجعية عن جغرافيا محددة هي مدينة طرابلس وضواحيها في زمن مفارق بأحداثه، هي “مس توللي” شقيقة القنصل الانجليزي “ريتشارد توللي” الذي مارس عمله في ولاية طرابلس، وكتابها مراسلات لصديقها بلندن “عشرة أعوام في طرابلس 1773- 1783م”، بمتنه الذي يتجاوز الخمسمائة صفحة (تَرْجَمَة د. عبد الجليل الطاهر -دار ليبيا للنشر- بنغازي- 1967م)، يمثل مخزوناً أنثروبولوجيا، سوسيولوجيا، وكشفاً تاريخياً لمسكوت عنه، إذ وثقتْ لأحداث ووقائع هي تفاصيل حكايات صراع وتقاتل بلاط القصر للأسرة القرهمانلية، الولاة من حكموا على التوالي حسن، أحمد، يوسف، ونكبات والدتهم للا حلومة، وعلاقتهم بزوجاتهم، وعالم الجواري وخدورهن، “توللي” عايشتْ عادات وتقاليد، ومناسبات المكان أفراحاً وأحزانا، وسجلتْ رصدها لإمراض أضرت الحرث والنسل، وأحوال سوق تجارة الرقيق، وسلوكيات أفراد السلطة، ورجل الشارع، ونساء المدينة القديمة ،في كتاب رحلي لا مثيل له.
خاص مجلة قنآص
فاطمة غندور كاتبة وباحثة ليبية، أستاذة بكلية الفنون والاعلام، جامعة طرابلس ليبيا. صدر لها: نساء خارج العزلة، نساء الربيع العربي، ليبية في بلاد الانجليز.