فراس ميهوب: قراءة في رواية «أخ» لـِ فنسنت لوديه
لن يحتاج فنسنت لوديه في روايته الاولى صفحات كثيرة ليشدَّك إلى عوالمه، بكلمات بسيطة ودون تكلف ستجد نفسك مع هذه الأسرة الصغيرة التي تعيش بيسر مادي في باريس عام ١٩٦٧.
يتولى الراوي فنسنت، وهو الاسم الأول للكاتب، الابن الأصغر للعائلة، سردَ أحداث تركز على مصير شقيقه الأكبر تادي، المراهق ابن السادسة عشر، الطالب المتفوق في مدرسة باريسية راقية والذي تنقلب حياته بين يوم وليلة ليقيم أكثر من عشر سنوات في مصح نفسي اسمه البيت الأبيض.
يتلقى تادي – أخ فنسنت لوديه – علاجات تجريبية دون تشخيص دقيق لينتقل إلى حالة حديَّة بين الواقع والخيال، وتسلب إرادته. يتدهور الوضع الصحي للأب، ويموت بعد سنوات قليلة بالسرطان، وتقع الأم ضحية القلق، ولكنها لا تستسلم وتقدِّم كل الدعم لابنها لإخراجه من متاهته.
لا يكاد تادي يخرج من المصح الغريب حنى يجد نفسه في الشارع مع المشردين والمهمشين، يتفاهم معهم دون صعوبة، ويحسن إليهم مستفيدا من وضع أهله المادي المريح.
تبرز موهبة تادي الفنية، تضعه والدته في ورشة نحات معروف، ويبدأ اسمه بالانتشار في الوسط الفني، وتعرف منحوتاته طريقها للبيع، ولكن المال لا يعنيه والشهرة لا تجذبه، يعود إلى الشارع وينزلق إلى تعاطي المخدرات، وفي لحظة ضعف يحاول الانتحار وينجو بصعوبة.
يقرر تادي تغيير حياته والسفر إلى الهند، يتعرف في رحلته على تاجر مخدرات أفغاني يدعوه لزيارة كابول، يتأقلم مع هذا البلد ويتمكن من صنع منحوتة جميلة يعرضها في باغي بابور.
تقتلُ عصابةٌ صديقَه الأفغاني، فيهرب تادي إلى الهند، ويصدمه في كالكوتا طوفان البشر، عقائدهم وفاقتهم، يتعرف على رجل فرنسي غريب، يشتري منه قطعة مخدر، يستيقظ ليجد نفسه في قبضة الشرطة، ومتاعه قد سرق.
يلتقي تادي في السجن شبابا هنودا مسجونين لأسباب مختلفة، يتعلم منهم بعض الكلمات، وأصول اليوغا التي تساعده ممارستها على هدوء النفس.
تستيقظ موهبته في النحت، ويوافق مدير السجن على بناء ورشة لصناعة الخزف في السجن يعمل فيها تادي مع زملائه، مقابل أن يستأثر بحصيلة الإنتاج، يطالب السجناء بنصيبهم من التجارة المزدهرة، يرضخ المدير حفاظا على مصالحه.
تنقطع أخبار تادي عن والدته في باريس، فتذهب للبحث عنه في الهند، وتعيده إلى فرنسا بمساعدة القنصلية الفرنسية.
لا يستسيغ تادي عودته إلى باريس، ويفقد السيطرة على أعصابه، ويكسر أثاث منزل والدته، ويلتحق بالمهمشين في الشارع، ولا يزور والدته إلا مرة في الأسبوع، يضيق شقيقه بهذا الواقع، ويهرب بالسفر إلى أمريكا بحجة الدراسة.
في لحظة انقلاب ثان للأحداث، تظهر راهبة كرملية شابة، وتعرف تادي بين المشردين في محطة القطار، ولم تكن إلا سيسيل الشابة التي أحبها قبل سنوات عندما كانت متدربة في مصح البيت الأبيض.
يعرض تادي الزواج على سيسيل فتوافق بعد أن تترك حياة الرهبنة دون انتظار إذن السلطات الكنسية.
يشتري تادي شقة سكنية في باريس بمال ورثه من والده، يلتقي صدفة بزميل سجن هندي يعمل في مطعم قريب يملكه هندي آخر، يساعدهما في إدارة المطعم مقابل أن يطعم المشردين في محطة قطار أوسترليتز في باريس، ويقيم عرسه هناك.
عندما يظن فنسنت ووالدته أن تادي “نجح في حياته” يداهمه حدث قاهر…
رواية واقعية
أحداث الرواية واقعية بامتياز، استقاها الكاتب من حياة شقيقه كما صرَّح في تقدمة الرواية أن أحداثها تدور بين عامي ١٩٦٧وَ ١٩٨٦م. تحكي عن صعوبة أن تكون مختلفا في أي مجتمع، والنموذج الذي يعرضه الكاتب جدير بالاهتمام، فالبطل الرئيسي تادي في إحدى مشاهد الرواية يرمي دون أسف بقطعة نقدية كبيرة من نافذة السيارة دلالة على رفضه لمعايير المجتمع المادي الذي يعيش فيه، ويهتمُّ بالفلك ليحاول إيجاد أجوبة عن أسئلة تشغله عن منشأ الحياة، الموت وما بعده، ومصير الإنسان في هذا الكون الفسيح، الدين والله.
لا يتردد تادي في عقاب أستاذه الذي يحاول التحرش به، ويظلمه بعلامة ضعيفة رغم تفوقه، فيضربه بعنف حتى يفقد وعيه.
يتركُ الكاتب في قلب قارئه غصةً، مقصودة ربما، تادي يلوذ بالصمت ما يقارب العشرين عاما عن أسباب ضربه لأستاذه، فينتهي به الأمر في مصح نفسي غريب، يشخص حالته بشكل خاطئ، ويعالجه دون ضرورة بطرق عنيفة من الصدمات الكهربائية إلى التنويم فترات طويلة، وأدوية تضرُّ ولا تنفع، تقوده إلى الإدمان عليها.
ينجح الكاتب بوصف إشكاليات المرض النفسي على أي عائلة، ويضع ظلالا من الشك عن مرض البطل، هل كان حقيقيا أم متخيلا، كان تادي يُسمّ مرضه بغير المرئي، فلا يصدق من عرفه أنه مريض، ربما ببساطة لأنَّه لم يكن إلا مختلفا!
مقاربة مختلفة للعالم
مقاربة بطل الرواية للعالم مثيرة للاهتمام، فالشاب الذي تربى في عائلة ميسورة ماديا، شارك والده في النشاطات الاستعمارية لفرنسا في أفريقيا، وخرجت والدته من نفس الوسط الاجتماعي، إلا أنَّ ذلك لم يمنعه من أن ينظر للآخر بمحبة ومساواة، وأن يشعر بآلامهم.
في رسالة يبعثُ بها تادي لوالدته من الهند، يقول لها:
لا يبدو أنَّ الأنبياء يعرفون الطريق، لا يوجد طريق.
إنهم منعزلون مثل أغلب الرهبان في وسط الفرن الذي يحرقهم.
إنَّ مرضي ثانوي جدا بالمقارنة مع معاناتهم، أدركُ ذلك.
المنفى لا يكتبُ، بل يعاشُ، لذا سأواصل سيري.
شجاعتك وثقتك تسيل في أوردتي، سأصلِّي من أجلك.
في رسالة أخرى، يقول تادي لأمه عن الهند:
هنا آخر الدنيا، الحدُّ الأقصى للإنسانية.
في كل مقاطع الرواية يبرزُ اهتمام تادي بعلم الفلك، وانشغاله بروحانية العناصر، وغربته عن عالمه:
إنَّ الله ليس من هذا العالم، ولهذا فهو أملنا الوحيد.
لقد فهمتُ بعد أنْ قطعتُ هذا الطريق، ولو لم يكن إلا جزءا صغيرا منه أنَّ البشر لن يجدوا لنا أي إجابة.
في لحظة مؤثرة من الرواية يعترفُ تادي لوالدته بتعاسته لتركه سجنه المزري في الهند، واضطراره للعودة إلى فرنسا، يقول الراوي عن ذلك:
كأنَّ تلك الظلمة التي أحاطت بعينيه، والعمى الذي أصابهما ولد فيهما نور ما كان يُدرك بروحه وقلبه.
غربة الفرد في مجتمع مادي
تعبر الرواية عن غربة الفرد في مجتمع غربي يطبق شيفرته التي لا تقبل إلا الأشخاص “العاديين” غير المختلفين مع تراجع للقيم الروحية، فالبطل الذي رفض تحرَّش المدرِّسُ به اعتبرَه هذا المجتمع مريضا!
الغريب أنَّ تادي لم يندمج مع مجتمعه الأصلي، ولم يجد السكينة إلا في كابول المثخنة بجراح الحرب وتجارة المخدرات، وفي الهند المعبَّقة بالأديان والفاقة، وفي سجنها.
كان على تادي أن يدفع ثمن غربته النفسية في مجتمعه بغربة فعلية في بلاد الشرق البعيد.
هل أراد الكاتب أن يقول أنَّ خلاص الغرب المتعب بماديته والشرق المختنق بأديانه هو لقاء الإثنين في منتصف طريق ما؟
الرواية من ناحية الشكل
غلاف الرواية يقتصر تصميمه البسيط على كتابة العنوان باللون الأحمر على أساس أبيض تماهيا مع المحتوى المقلل من شأن ظاهر الأشياء والمُعلِي لبواطنها. تنقسم حياة البطل إلى ثلاثة مراحل زمنية:
الأولى: نشأته في بيت أهله وتنتهي في سن السادسة عشرة، يتناولها الكاتب باختصار.
الثانية: مدتها عشر سنوات تقريبا، يقضيها في مصح البيت الأبيض النفسي.
الثالثة: من عشر سنوات أيضا، عن سفره إلى أفغانستان والهند، تشرده في شوارع باريس، سعادته القصيرة بزواجه، ثمَّ انقلاب حاله.
اللغة بسيطة وجميلة، وتعبِّرُ بجمل مؤثرة عن المواقف الإنسانية الغنية، من أمثلتها قول أحد المهمشين لتادي: إنَّك تتذكرنا بفضل مرضك الغامض، يا ليت لو كان معديا.
يسألُ تادي القس عن الشك فيجيبه الأخير: التساؤل هو ما يُشرِّف الإنسان.
بناء مشاهد الرواية موفق، في إحداها يترك الطبيب كرسيَّ مكتبه، ويأتي ليجلس بقرب تادي، فيتذكر هذا الأخير مشهدا مشابها يوم ترك مديرُ المدرسة مكتبَه، وجاء ليجلس قربه ويخبره بطرده من المدرسة، كان ذلك علامة فأل سيء في الحالتين.
يختمُ الكاتب روايته بهذه الجمل، والتي ربما لو افتتح بها الرواية لكانت أكثر جمالا، وأشد وقعا على القارئ:
لم تكن حياة تادي عادية، ولم يكن هو رجلا عاديا أيضا.
كانت طرقنا مصنوعة من المرتفعات والمنخفضات، لكن طرق تادي لم تكن مصنوعة إلا من المرتفعات والأحلام.
كان تادي صافي الفكر، مدركا لهشاشته، لكنه لم يحاول أبدا فرض اختلافه على الآخرين.
غريبا على الأرض كطفل ضائع في غابة، كان يعرف بأنَّ مشيه سينتهي بإيجاد النور.
كان لمَّاحا متشككا في هذا العالم المستعجل والضاغط.
خاتمة
يتملك القارئ وهو يغوص في حياة البطل الأسى عليه، وعلى ضياع مستقبله بسبب خطأ لم يرتكبه، ولكن ما أن ينتهي من قراءة الرواية حتى يشعر بالأسف على نفسه وعلى المجتمع، وربما يحسدُ تادي على شجاعته وعلى مرضه كما فعل الراوي.
أنصحُ القرَّاء العرب متقني اللغة الفرنسية بقراءة هذه الرواية، ودور النشر المهتمة بترجمتها إلى اللغة العربية لإتاحتها لعموم قرَّائنا.
***
العنوان الأصلي للكتاب: FRÈRE
المؤلف: VINCENT LAUDET
اللغة: الفرنسية
تاريخ النشر: تشرين الأول- ٢٠٢٢، دار النشر: هوغو- رومان- فرنسا
المؤلف: فنسنت لوديه: بعد أن عمل عشرين عاما في مجال النشر، ينشر روايته الأولى: أخ، مستقاة من قصة حياة شقيقه.
فراس ميهوب؛ كاتب سوري