مساراتملفات

خالد خليفة.. سفينةٌ مهاجرة يشتاقها البحر | نسرين بلوط

ستشتاق الرواية لقلم خالد خليفة مثل شغف البحر بالسفن المهاجرة، وستفتقده حلب حتّى النخاع ...

خالد خليفة، سفينةٌ مهاجرة يشتاقها البحر

قد تتعارضُ الحياة مع الموت بضوضائها وحيويّتها وتدفقّها الحي، ولكنّها تتلاحم معه حين يصبحُ الأحياء فيها في عداد الأموات وهم على قيد الحياة نتيجة القمع والتهميش، لهذا كان الروائي السوري الراحل خالد خليفة يتوهّج في سرده المستفيض في رواياته وكأنّه يشرف على الرحيل كلّ مرّة، حتّى يبلور نضوجه الأدبي والفكري من خلال تسلسل مبادئه السرديّة، التي يلحّ فيها على تعيين الوصف الدقيق كمدخلٍ أساسيّ فيها. رفض خالد خليفة أن يغادرَ وطنه سوريا، وأصرّ على النضال الفكري في داخل أراضيها، وكان يصنّف الرواية كعملٍ مضنٍ يجرف أحاسيسَ الكاتب. في روايته «الموتُ عملٌ شاق»، حاول أن ينصبَ نفسه حارسَ الآلام والنكبات التي حلّت بوطنه بعد الثورة، وكأنّه يناصر ضحاياها، وفي روايته «حارس الخديعة» التي استحضرت قصّة حلب، بشوارعها وأزقّتها ونسائها وآلام ساكنيها، كان أقرب إلى ملامسة النثر الأسطوري للوصف منه في السرد، ولكنّه نجح في تدوير الحكاية والتعمّق في بلورتها وصياغتها، لقد استطاع أن يصل في روايتيه «في مديح الكراهية» و«لا سكاكين في مطابخ المدينة» إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر، ولكنّه رغم ولعه بالكتابة وتشبّثه بالتعبير والتنفيس عن خواطره لم يسع إلى الشهرة يوماً بل كانت هي من رصدته وتبنّت انعكاس بعض الشطط والخيال من ذاكرته، وكلمات التقريع الغير مباشرة التي كان يوجّهها للظالمين والطغاة، وسعيه للعدل الذي اندثر في أيّام الشقاء التي عايشها ولم يتعايش معها، بل ثار عليها بكلّ ما أوتي من جنون العالم ورهافة الحالم وحزنه الداخلي الدائم.

كان خالد خليفة يعد نفسه بأنّ القمر سيطلع من بهيم العتمة ويسطع متراقصاً كما الأحلام ليكشحَ الضباب المصبوبَ على رخام الأرواح المتكدّرة من الظلم والفساد، وكان الأملُ يشرقُ بابتسامته الدائمة التي عُرف بها بين أصدقائه وقرّائه، وقد ختمَ آخرَ أوراق حياته بسعيه الأخير لإنقاذ الحق من بين براثن الباطل، وترك سؤالاً أقلقه على شفاه الحروف التي شهدت أحزانه وتبرّمه بواقعه المرير، يتساءل فيه عن الفرق بين الحريّة الموهوبة والحريّة المفروضة، لأنّ عالمنا العربي لم يشفِ غليله في تحصيل حقّه كمواطنٍ وكاتبٍ يرغب بالتغيير والتعبير الحر.

رحل الروائي خالد خليفة جسديّاً ولكنّه بقي بروحه بين أوراق أعماله وكان آخرها رواية «لم يصل عليهم أحد» التي تمّ ترشيحها ووصلت للقائمة الطويلة لجائزة «ناشونال بوك أوورد» الأميركية عن فئة الأدب العربي المترجم، والتي اختصر فيها حكاية حلب المنكوبة وشبّهها ببطلة الرواية سوسن التي تتمزّق روحها بين انتسابها للنظام ورفضها له.

ستشتاق الرواية لقلم خالد خليفة مثل شغف البحر بالسفن المهاجرة، وستفتقده حلب حتّى النخاع.

***

خالد خليفة، سفينةٌ مهاجرة يشتاقها البحر؛ بقلم نسرين بلوط

نسرين بلوط؛ روائية وشاعرة لبنانية

البحر

خاص قنّاص – ملفات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى