سِيَر ورحلاتنصوص

الوجه الآخر لـ باريس: سان دوني – باربس | هيفاء بيطار

الصورة: بوابة شارع السان دوني

لا يوجد أي رابط عاطفي بيني وبين باريس الفخمة أحسها لا تخصني وعلاقتي معها أشبه بزواج من دون حب

أؤمن أن الأمكنة أرواح، فالحجر يحكي التاريخ ويثير الأحاسيس. باريس التي كنت أعتقد أنني أعرفها (كما يعتقد كثيرون) حين كنت أزورها لأن أخي وأختي يسكنان فيها، ليست كما يصورونها كنيسة النوتردام والشانزليزيه وقوس النصر وكنيسة القلب الأقدس، وليست المتاحف الرائعة (اللوفر وأورسيه). ثمة وجه آخر لباريس لامس روحي يختبئ خلف وجهها الباذخ العريق، ولأنني أسكن في باريس منذ سنتين فقد عبرت أزقتها واكتشفت مناطق لا تشبه مناطق باريس الفخمة، أحياء ومطاعم ومقاهي لها روحها الخاصة ونكهتها الخاصة لدرجة صرت أشعر أنني خارج باريس. وسأحكي عن منطقتين أشعر فيهما بالدفء ويخف إحساسي بالغربة هما السان دوني وباربس.

السان دوني

شارع كبير متفرع من منطقة الشاتلية الفخمة، يبدأ بباب خشبي مزخرف رائع الجمال، وكأنك حين تعبر هذا الباب ستصير في مدينة أخرى وعالم آخر، يحضرني الشوق المُعتق لوطني سوريا ولمدينتي اللاذقية، الضجيج الذي كان يُزعجني جداً في اللاذقية يجعل قلبي في السان دوني يزقزق فرحاً.

الدكاكين التي معظمها للعرب والأتراك تحتوي كل المأكولات التي أعشقها في سوريا، أنواع الأجبان (الحلوم، المسنرة، المشلله) البقلاوة والحلاوة السكرية وقصعات كبيرة متلاصقة تحتوي أنواع الزيتون مع حامض أو ثوم أو فليفلة، اللحام والشبان العاملين عنده يشرحون لي نوع كل لحم، لصق بياع اللحم محل للشواء، يمكنك أن تشتري كفته أو قطع دجاج من دكان اللحام وتعطيها للرجل اللطيف الذي يشويها لك بسعر زهيد، الأجمل أنك يمكن أن تتناول طعامك اللذيذ في مقهى رائع اسمه sully.

هذا المقهى الكبير (sully) في السان دوني يغص دوماً بالناس بالكاد تجد مكاناً فارغاً. يسمح صاحبه للزبائن أن يحضروا مأكولاتهم ويأكلوا ولا يطلب مالا بالمقابل، أسعاره رخيصة جداً مقارنه بأسعار باريس حيث فنجان القهوة بيورو ونصف فقط (في باريس قد يتراوح سعر فنجان القهوة بين إثنين ونصف يورو وحتى سبعة يورو) حسب المنطقة، أكثر ما أحبه هي الأحاديث التي تُلين الروح وتدفؤها من وحشة الغربة، عبارة (الله معك أختي) قالها لي بائع خضار وفاكهة تونسي أشعرتني بالدفء طوال اليوم، وصرت أشتري من دكانه دوماً فقط لأمتص الدفء الصادق من عبارة (الله معك أختي) العبارة نفسها كنت أسمعها من مقهى أركيلة للرجال في منطقة الصليبة في اللاذقية، هو مقهى بائس للرجال يدخنون الأركيلة أو السجائر، فقراء ولم أفلح مرة واحدة في تقدير أعمارهم، كنت أقول عمرهم عمر الشقاء والتعتير، وكنت أحب أن أجلس في هذا المقهى (مقهى خديجة) لا يستنكر الرجال لكن يندهشون، صاحب المقهى كان يحضر لي أفخم أركيلة يقول: هيدي أركيلة السلطان لك دكتورة، أرجوه أنني لا أحب كلمة سلطان ولا أريد أركيلة بطولي لكنه يصر.

كنت أتفرج على مهرجان الحياة الميكروباصات والصراخ، المدرسة الشرعية للبنات مقابلي، باعة البسطات يفرشون بضائعهم بائع النظارات الطبية من أرخص الأنواع يعلق النظارات على نافذة أحد البيوت، مهرجان القبح والجمال في الوقت ذاته. مهرجان الحياة كما أسميه، في السان دوني تتفجر تلك المشاعر أساوم البائع على الأسعار. الأسعار أرخص بكثير من السوبرماركت في باريس، أشتري نصف فروج مع بطاطا ولا ألذ بسعر زهيد وأذهب إلى مقهى سولي أطلب بيرة وآكل. ذات يوم وأنا أشرب بيرتي تفجر صوت وردة الجزائرية بأغنية وحشتني. وللتو فاضت عيناي بدموع تفجرت من بحيرة الدمع في داخلي، ذلك أنني أؤمن أن في داخلي بحيرة دموع وبأن الله خلقني بجبل الطين بالدموع. أشتري أغراضاً لا أحتاجها فقط لأنها تثير الحنين اشتريت منشاراً صغيراً من محل كبير صاحبه من إدلب، واشتريت الكثير من البخور أعشق رائحة البخور، أمشي في شارع السان دوني معظم الدكاكين لا تبيع الكحول ونساء محجبات يعملن فيها/ قمة في اللطف، محلات أخرى تبيع الكحول، أدخل في أزقة تكثر فيها محلات الهنود أشتري بخور هندي وأساور جميلة مُبهجة أتخيل أنني سأقدمها هدايا للأحبة في اللاذقية، في شارع سان دوني أمشي مثقلة بالمشتريات وأنا أغني (افرح يا قلبي) وأبتسم حتى لمجانين الشوارع، في باريس الفخمة يظل فمي مطبقاً كأن مادة لاصقة تلصق شفتي، أتأمل بإعجاب كبير عراقة الأبنية، لكن كل هذا الجمال والعراقة ينزلقان على جسدي كالزيت، لا يوجد أي رابط عاطفي بيني وبين باريس الفخمة أحسها لا تخصني علاقتي معها أشبه بزواج من دون حب. في السان دوني تنتعش روحي وأنا أتحدث مع الباعة والناس وأساوم على الأسعار ونقول: الله يلعن الغربة، حنيني يسند حنين أخي العربي فنشعر بفرح المشاركة. ما أثقل الحنين حين لا تتشاركه مع أحد. في نهاية شارع السان دوني تبدأ محلات الهنود والأفارقة غير العرب، أتعجب لماذا معظم دكاكينهم لا تبيع إلا زيوت للشعر وخصلات شعر مستعار وشعر مستعار يغطي عشرات الرؤوس الحليقة لمجسمات، هنا أشعر بشيء من الخوف، ثمة شبان يتجمعون في زاوية كلامهم كالصراخ يشتمون كثيراً شتائم بذيئة، واضح أنهم عاطلون عن العمل، ما يؤلم ويُدمي الروح أن نساء (ربما أمهات هؤلاء الشبان) يجلسن عند مداخل المترو حيث الازدحام على أشده، مُقرْفصات يلبسن عباءة سوداء مُغبرة وعتيقة محجبات بحجاب أسود ينتظرن أن يلتفت إليهن أحد المارة ليشتري زجاجات صغيرة ممتلئة بفستق العبيد. النساء البائسات إحداهن وهي تقوم ترنحت وسقطت ساعدنها رفيقاتها ونفضن الغبار عن عباءتها. أفكر بالنساء الفقيرات جداً في سوريا العاملات في شطف الدرج وفي تنظيف البيوت كم كن مُنهكات وكن وحدهن مصدر الدخل في الأسرة ورجالهن إما استشهدوا أو عاطلين عن العمل.

شارع باربس

هو شارع جميل ومُخيف، باربس هو يهودي جزائري فاحش الثراء إشترى الكثير من المحلات والبيوت في باريس بعد نهاية الحرب بين فرنسا والجزائر وأخذ يستقدم عائلات جزائرية للعمل، توسع الشارع وصار يغص بالمحلات والمقاهي، في شارع باربس أنت في حي جزائري، أيضاً الصراخ والصوت العالي ونشوب شجارات عنيفة بسبب ودون سبب، تقرأ كثيراً عبارات مثل (لحم حلال) أو (مجزرة إسلامية) محلات ألبسة غريبة مثلاً دكان لا تبيع إلا كل موديلات الحجابات، لصقها تماماً دكان تعرض ثياباً داخلية نسائية وبدلات رقص شرقي خليعة إلى حد مقزز. أرمق الحجابات وبدلات الرقص الخليعة وأتساءل: هل الرجل العربي يريد زوجته مع حجاب وبدلة رقص! أمشي بحرص على حقيبتي فالنشل كثير في شارع باربس. لكن رائحة شواء تغويني أن ألحق بها لأجد رجلاً يشوي معلاق. أشتري منه وأجلس آكل على كرسي نتبادل أحاديث كثيرة، أتذكر بياع المعلاق المشوي في اللاذقية قرب مدرسة جول جمال العريقة التي تحولت إلى ثكنة عسكرية، كم كنت أحب الشراء من عنده وأتأمله كيف يشوي المعلاق والدخان يتصاعد بكثافة، أحب شارع باربس لأنه ينقلني إلى هناك حيث ترتاح روحي وحيث تحب, والمكان روح وهوى. اشتريت عباءة من شارع باربس فقط لأنه مكتوب عليها: أهواك. لن ألبسها سأضعها بجانبي على الصوفا وأنا في بيتي في باريس مقابل حديقة ساحرة أنصت للصمت لدرجة أشعر أن له صوتاً. أنتفض فجأة من ثقل الحنين وأتجه إلى محل للأراكيل حيث شاب تونسي اسمه وسيم بالكاد يحكي العربية عمره 27 عاماً يقدم لي ألذ أركيلة، هو قريب جداً من بيتي، عرف أنني كاتبة فصار يطلب مني بخجل أن أكتب له رسائل حب لحبيبته في تونس ويُخفض ثمن الأركيلة خمسة يورو!!. قلت له: يا وسيم هذا غش، قال: أرجوك. سألته: لكن حبيبتك هل ستصدق أنك من تكتب هذه الرسائل، شبك يديه متوسلاً أرجوك لا يهم. فعلاً لا يهم فالحب أعمى. مقهى وسيم يذكرني بمقهاي المفضل في اللاذقية مقهى ماشطة حيث كان شاب شديد النحول يحمل سلة الجمر ليضع جمرة جديدة على الأركيلة. كم كان يشكرني على البخشيش وعلى الشوكولا التي كنت أقدمها له فينتحي زاوية ويأكلها بتلذذ.

هو الوجه الآخر لباريس الذي أعشقه السان دوني وباربس لأنهما يفجران الحنين لوطني لبحر اللاذقية تحديداً ولأنهما يملكان القدرة على مواساتي.  

هيفاء بيطار: كاتبة وأديبة وطبيبة سورية مقيمة في فرنسا. صدر لها 36 كتاباً بين مجموعات قصصية وروايات، نذكر منها: “يوميات مطلقة (قصص)، ظل أسود حي (قصص)، الساقطة (قصص)، أبواب مواربة (رواية)، ضجيج الجسد (قصص)، نساء بأقفال (رواية)، خواطر في مقهى رصيف (قصص)، أيقونة بلا وجه (رواية)، نسر بجناح وحيد (رواية)، طفل التفاح (قصص)، الشحاذة (رواية).

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى