يأخذنا الأستاذ فتحي بن معمّر إلى دهاليز هذا السِفْر عميقاً؛ سِفْر الخروج الفلسطيني: حكاية الرّحيل لـِ ماجد أبو شرار
حكاية الرّحيل قصة لماجد أبو شرار نُشرت في مجلة لأديب، مارس 1965. وماجد أبو شرار هو قائد وأديب فلسطيني، ولد سنة 1936، صدرت له مجموعة قصصية «الخبز المرّ». تمّ اغتياله في روما في 9 أكتوبر 1981.
نصّ القصّة: حكاية الرحيل
كانت لي مدينة لها بحر تنام فيه الشمس كل مساء …. كانت لها أبنية متواضعة تأخذ مكانها تحت السماء الزرقاء فلا تتطاول لتنطح السماء بحجارتها وأعمدتها… حول مدينتي كانت مزارع، ومنذ الأزل، كانت تلال رمل لها لون أشقر… حول مدينتي كانت تتناثر بيارات برتقال لثمارها مذاق منعش ولأزهارها رائحة عطرة، كان لنا في مدينتي بيت يقوم عند آخر انحدار للتل الرملي الأشقر الذي كان يحرس المدخل الشرقي لمدينتي …
عمري تسعة وثلاثون عاما، وأنا الآن في مدينة لها بحر منه الشمس تولد كل صباح… تلك كان لها بحر فيه الشمس تنام، وهذه لها بحر منه الشمس تولد… كان هناك لي بيت وأرض، وهنا لي بيت بلا أرض، هناك كان لي ماض، وكنت أملك ناصية يومي… كنت أزرع أحلاما تشرق بهية في غدي، وأنا هنا بلا ماض… يومي بطاقة سوداء تسلمني بعناد ونزق إلى غد أشد سوادا… هنا أنا بلا جذور… بلا دعائم… بلا أصل …
- أتأكل شيئا … الجوع يكاد يفريني .
في كل صباح كانت أشعة الشمس تذيب حبات الندى المرشومة على ألواح زجاج غرفتي بعد أن تمسح آخر آثار الليل عن ذرات التل الرملي الأشقر، فأفتح عيني وأدعكهما بدعة وأنهض نشيطا لأستقبل يوما جديدا من عمر كنت أحبه… كان أبرز ما في يومي آنذاك ابتسامة رضى تطل من شفتي أمي… كانت بسمتها برعم زهرة برتقال، فيه عطاء وله شذى طيب، كنت أتملى وجه أمي المجعد الشمعي اللامع فأرى فيه كل معاني الخير والحب والاخلاص… كانت تحبنا وكنا نحبها، كانت في البدء تود أن تقبلني كل صباح كما تفعل مع شقيقاتي وشقيقي… لكنني رفضت فقطبت جبينها ثم فردته وتنهدت، فهمست بحنو:
– أماه …. بسمتك برعم زهرة برتقال، فيه عطاء وله شذى طيب وأنا لا أريد لهذا البرعم إلا ان يظل بكرا نضرا نديا… لا أريد لآثار النوم التي تطبع وجهي كل صباح أن تُذبِل البرعم وتفقده نضارته… أريده بكرا وبكرا دوما .
يزداد البرعم تفتحا ونضارة وتُربّت بكفها الطري على كتفي وتهمس بصدق وحرارة :
– وفقك الله يا محمد ومنحك كل ما عنده من خير وهناء …
كانت تجمعنا مأدبة الافطار التي كانت تكون في أيام الصيف تحت أغصان شجرة الجوافة الضخمة والتي كانت والدتي دوما تتحسس أغصانها بتمهل وتأمل وتهمس:
- لقد زرعها المرحوم يوم نزلنا هذا المنزل… كان كل ما يتمناه أن يملك بيتا، جد واجتهد وبنى البيت وزرع الحديقة… لكنه يا حسرتي لم يأكل من ثمارها، تهمس «عطاف» أكبر شقيقاتي والتي كانت لها كل ملامح أمي :
- زرعوا فأكلنا… ونزرع فيأكلون .
وتعود والدتي لتهمس وحبات دمع تكاد تتسلل مجفلة مع شواطىء عينيها :
- فيكم الخير يا ابنتي وأطال الله في أعماركم …
وتنهض أختي «آمال» وتقطف حبات الجوافة المبللة بالندى وتضعها في طبق فتتسارع إلى تناولها بنهم وتلذذ وعيونها تتحاشى أن تلتقي مع عيون الوالدة التي امتنعت عن تناول حبات الجوافة منذ أن حرم منها الذي غرسها وجعل منها أغصان عطاء وخير… وينصرف كل فرد من عائلتي إلى عمله. عطاف تبقى في البيت و«أحمد» يركب دراجته متوجها إلى مدرسته و«آمال» من خلفه تصيح وترجوه أن يُركِبها خلفه فيقف قليلا ليوهمها بأنه ينتظرها حتى اذا ما كادت تدركه يتركها مبتعدا فتضرب الأرض بقدمها الصغيرة وتتوجه هي الاخرى إلى المدرسة …
كنت في تلك الأيام أعمل مدرسا في المدرسة الثانوية الوحيدة في المدينة وكان لي طلاب كنت أرى الأمل في الغد المرجو يتفتح في صفاء عيونهم بساتين دفء وحياة… كنت أرى فيهم كلهم أخي «أحمد» فيزداد حبي لهم وتتضاعف جهودي من أجلهم… كان كل ما حولك يدعوك لأن تعمل وتعمل دون ابطاء أو تواكل، وكذلك كنت أطمع في غد مشرق وكنت أعلم أن هذا الغد لن يكون إلا اذا شاركني كل من حولي في بنائه، كنت سعيدا، سعادة عارمة قوية لا حدود لها… شيىء واحد كان يحاول أن يخدش صفاء سعادتي… أمل عزيز كان يعز على أمي ألا تحققه قبل أن تغادرنا لتلحق بالذي زرع شجرة الجوافة… قبل أن أنام وفي بعض الأمسيات كانت تجلس على طرف سريري وتطرق فأرى الأمل مشوبا بتهيب وخوف يسبح في صفاء عينيها فأستنتج سلفا ما الذي يدور في نفسها ويعذبها وانتظر حتى تهمس :
– محمد… هل أنت سعيد ؟ أريد لسعادتي أن تكتمل… أريد أن أرى لك زوجة… ما الذي تريده الراعية ؟
– مهلا …
– متى تنتهي من هذه «المهلا»
– حتى تتزوج «عطاف» وكذلك «آمال» وحتى يكمل «أحمد» دراسته الجامعية.
كانت في البدء تستمر في مجادلتي، لكنها في الفترة الأخيرة أقلعت عن ذلك وصارت تتركني متعكرة مصدومة وأظل مع رؤى حلوة أرى فيها عطاف وآمال وقد ضمهما بيت زوجية سعيد… وأرى أحمد محاميا كبيرا… أرى «سلام» يحبو ويبتسم أنا أبوه و«فادية» أمه… كنت أحب فادية حتى العظام، وكذلك كانت هي. لكن واقعي كان يؤجل دوما لقاءنا المعطاء، ويؤخر بالتالي اطلالة حلوة لابننا «سلام». كنت أعيش على أمل أن تكون… فهل كان هذا اللقاء ؟ كان ان ازداد الواقع تعقيدا… واقع يغبشه دم، يخنقه دخان قنابل تهدم بيوت مدينتي، تمزق أجساد أبناء مدينتي، تنشر الدمار والموت في كل أجزاء مدينتي… وكنت يائسا لكن بعناد… واظبت على الذهاب إلى المدرسة لأجد في النهاية أن ليس ثمة من طلاب بل مقاعد يعشعش الغبار في شقوقها ويكسبها لون تراب القبور، فعدت لأقبع في البيت ونظرات والدتي وشقيقاتي تلهبني في كل لحظة كنت أعيش… كانوا يريدون أن يقولوا الكلمة.. لكنهم يعرفون ردي فما جرأوا على التفوه بها… وأخيرا وبعد أن نامت الشمس في بحر مدينتي قلتها… قلتها وأنا اكاد أتمزق «لنغادر المدينة»… وصعدت مع التل الرملي الأشقر وجلست على نعومته وتفرست الغرب… كانت ثمة أعمدة دخان أزرق تنتصب ملتوية في فضاء مدينتي، وكانت الطلقات تعوي في أجواء مدينتي… وكانت شمس مدينتي قد نامت في البحر مخلفة سوادا أخذ يفرش الكون من حولي… صحوت على صوت أمي المشروخ …
- نحن جاهزون يا بني …
كانت هناك تحت شجرة الجوافة متشبثة ببعض أغصانها… انحدرتُ مع التل مخدرا ممزقا… مررت بشجرة الجوافة… كانت الراعية لا زالت هناك… شعرت بوحشة قاسية… وددت أن أقول شيئا أي شيىء، لكن لساني كان مَلْويّا بقوة في فراغ فمي، وغصة مدمرة تكاد تخنقني… تحركت وسحبت الراعية من يدها وحاولت أن أضمها إلى صدري ولكنها سبقتني إلى ذلك وطوقتني بذراعيها وصدرها يعلو ويهبط بنشيج حاولت أن تخفيه فما استطاعت، وتدلت يداها فأمسكت بيسراها بينما كانت يمناها مضمومة بإصرار على حزمة أوراق خضر خشنة، كانت من أوراق أغصان شجرة الجوافة… كان هذا آخر عهدنا بالجوافة… فمنذ أن غادرنا الغرب متجهين الى شرق متجهم يابس، حُرِمنا منها… كان هناك شبه اتفاق بيننا على ألا نذوقها… رائحتها الآن تغيظني وتفتت أعصابي..:
– لتأكل شيئا… الجوع يكاد يفريني …
– لا رغبة لي في تناول الطعام .
– لكنك لم تأكل شيئا منذ الصباح ؟!…
– أي صباح ؟!
– صباح هذا اليوم .
– هيه …. وهل لهذا اليوم صباح… أنا لا أراه… ولا أحس به… لا أكاد أميزه عن أي شيىء آخر… الصبح يا أخي يغسل السواد… يغسل كل شيىء… هذا الذي تسميه صباحا لا يفعل ذلك، بالله لا تنظر إليّ هكذا يا أخي… نظراتك فيها شيىء… نظراتك تود أن تقول من أنا… أنا أعرف من أنا… أنا مجرد قرمة خشب ملقاة على قارعة طريق، تركلها كل حين قدم نزقة، تتحسسها يد معروقة هزيلة ثم تأكلها في النهاية نار ملعونة… أنا لا أحب نظراتك… لا أحبها… يمكنك أن تتركني لتتناول طعامك، لكن مهلا… مهلا… عَلّك تتوق لسماع بقية الحكاية، لا بأس… لا بأس… فالدنيا كلها حكاية… حكاية تبتسم مرة وتعبس أخرى… في الشرق أقمنا بيتا لنا… كان كالبيت الذي كان لنا في المدينة التي كانت لنا… جعلنا له حديقة… زرعناها وردا ورياحين، وتركنا بقعة داكنة لا تزال تنتظر عرقا داكنا يغرس فيها ليصبح مع الأيام شجرة جوافة… هذا العرق لم يغرس حتى اليوم… الراعية لا تزال ترعانا… و«عطاف» الرائعة الحلوة ماتت فجأة بعد أن غادرنا الغرب بعامين. «آمال» لها ابن اسمه «سلام»… «أحمد» كما كنت أريد أن يكون… محام أرجو له كل توفيق ونجاح وسعادة… وأنا هنا لا زلت أروي كل يوم حكاية الغرب… وأغصان شجرة الجوافة لا زالت حطبا يتقصف في كل لحظة في قلبي… تلة الرمل الشقراء لا زالت تنهال على جسدي المحطم كل لحظة فتخنقني… «عطاف» الميتة لم تزرع ما يؤكل …. وشمس مدينتي ما زالت نائمة في البحر ….
انتهت
***
حين يُبدع أحد الكوادر القياديّة، يترك نصّا موشّى بالفنّ، مفعما بالإنسانية، مليئا بالرّموز والدّلالات. ذاك هو ماجد أبو شرار القيادي الفلسطيني البارز مسؤول الإعلام المركزي ومدرسة الكوادر الثوريّة الذي اغتالته يد الغدر في التاسع من أكتوبر سنة 1981. رجل طويل الباع في النّضال قويّ الابتداع في الفنّ القصصيّ. ونصّه «حكاية الرّحيل» الذي نقدّمه للقارئ بمناسبة ذكرى استشهاده خير دليل على ذلك.
قول في العنوان
حكاية الرّحيل للشهيد ماجد أبو شرار، عنوان محيّر قلق، فالدنيا كلّها على حدّ قوله حكاية تبتسم مرّة وتعبس مرّة. وهذان المعنيان موجودان في لفظي العنوان. فالحكاية دون شكّ تحمل النقيضين؛ المتعة والألم، كما تقوم على سرد وشخصيات ووقائع فتتولّد الحركة وينشأ الألم وتعتو الحسرة فيتفاقم الحنين. أمّا الرّحيل فلفظ جامع لمعانٍ لعلّ أبرزها؛ الارتحال لعودة بمعنى التحوّل أو ربّما التجوّل، والرّحيل بمعنى المغادرة النّهائية للاستقرار. وهو في كلّ الأحوال مؤلم. فلئن عبّر الشاعر العربي قديما عن كبير ألمه من خلال القول:
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ………. فهل تطيق فراقا أيّها الرّجل
فإنّ ألم الكاتب وسارده وشخصياته أعظم بكثير لأنّ المودَّعَ والمفقودَ ليس حبيبة بل وطنا متمثلا في القرية والمنزل والحديقة وصباحات تلك الأيّام المليئة بالآمال والأحلام. وهذا ما يخرج بالرّحيل من معنى الارتحال المجرّد إلى معنى المأساة أو التّغريبة الفلسطينيّة أو سفر الخروج الفلسطيني الذي استطاع ماجد أبو شرار أن يُصوّره بحرفيّة عالية مؤلمة إنسانيّا في هذه القصة القصيرة.
أسرار التصميم والبناء والدّلالات
النّص حوار، حجم المخاطبات فيه غير متوازن؛ واحد يروي باعتماد ضمير المتكلّم المفرد (أنا) الذي سنعرف لاحقا انّه محمّد بكل ما يحمله هذا الاسم من دلالات. والثاني ضامر يظهر في موضعيْن من النّص بما يجعلنا نتفطّن إلى الحوار من خلال تدخّله لقطع حبل السّرد: «أتأكل شيئا … الجوع يكاد يفريني ؟» و «لكنّك لم تأكل شيئا منذ الصّباح؟». فهذا الحوار مطيّة وجسر لتواصل الحكاية وسردها مفعمة بما أسلفنا.
والسّارد حكواتي يدير دفّة الحكاية باقتدار حوارا وسردا ووصفا فيُبنى النّص على فضائين:
- فضاء واقعيّ آنيّ يكشف عنه الحوار الأصلي بين السّارد ومخاطبِه اللاّمسمّى الذي يمكن أن يكون أنتَ القارئ في لحظة ما من الالتحام بين القارئ والمقروء.
- فضاء حكائيّ لا نستطيع أن نقول عنه أنّه خيالي رغم أنّه يُبنى بناء تخييليّا لأنّه ينجح في إيهامنا بأنّه واقعي بل هو قد ابتناه من عناصر واقعيّة ومن رحم معاناة إنسانيّة.
وهذا الفضاء الحكائيّ المتشظّي يقوم على التّقابل في مستويات عديدة؛ أوّلها هذا التّقابل بين الذّات السّاردة ممثلة في ضمير المتكلم المفرد (أنا) وهمّها تبليغ حكاية الرّحيل وهمّ الوطن تأكيدا على أنّ التغريبة نشعر بقسوتها أكثر كلّما أوغلنا في تدقيق المعاناة فرديّة كانت أو عائلية في محاولة لملامسة الجانب الإنساني العميق وضمير المخاطَب المفرد (أنتَ) الذي ينحصر همّه واهتمامه في فطور الصباح وفي إشفاقه على السّارد بينما «أنا لست أنت وهمّي أكبر من همّك حتّى أنّي لا أراه صباحا ما تراه صباحا»، «عن أيّ صباح» تُراك تتكلّم.
أمّا المقابلة الثانية فهي مقابلة في الزّمان بين زمنيْن؛ زمن الماضي حيث وردت كان ومشتقاتها أكثر من عشر مرّات من خلال كان .. كانت لي .. كان لها .. منذ الأزل كانت تلال… وهي تفيد الاستغراق بما يحقّق الكينونة والوجود حيث «تنام الشّمس» بما جعله يقول يقول «كنّا نحوز الشّمس ..» وهل هناك أكبر من حيازة الشّمس؟ ألم تكن بريطانيا تحقق جزءًا من عظمتها بتلقيب نفسها بالمملكة التي لا تغيب عنها الشّمس؟ والزّمن الحاضر ممثّلا في «أنا الآن..» في مقاطع مشحونة بما يوحي بالحادث والعارض والعرضي والوقتي، فـ«الشّمس تولد كلّ صباح» لكنّها ملكهم وليست لي، لا أسعد بها أو لا أشعر بها ما دمت قد فقدت المكان الذي تنام فيه الشّمس التي كنت أملكها.
في حين تنشأ المقابلة الثالثة بين مكانيْن، بين مدينتيْن، يشير إلى الأولى الأصيلة المفقودة التي كان يملك فيها الشّمس بـ«تلك» وبـ«هذه» إلى الجديدة الحادثة التي يعيش فيها ولا يشعر بنكهة العيش فيها حتّى أنّه لا يشعر بالصّباح ولا يحفل لشمس تولد فيها كلّ صباح من البحر «لها بحر منه الشّمس تولد» ولذلك فهو يصرخ ويستصرخ في جمل متلاحقة قاتلة:
- هنا لي بيت بلا أرض
- أنا هنا بلا ماضٍ
- يومي بطاقة سوداء تُسلمني بغباء ونزق إلى غدٍ أشدّ سوادا
- هنا أنا بلا جذور .. بلا دعائم .. بلا أصل ..
وهل هناك ما هو أقسى من أن يشعر المرء بهذا الخواء الذي نجح أبو شرار في تصويره بدقّة وألم كبيريْن جعلت من المؤلف ماجد أبو شرار يُقيم نصّه على ثلاث لوحات قوام كلّ واحدة منها مجموعة من المشاهد التي تعمّق مأساة المغترب الفلسطيني قسرا فحُقّ له أن يكتب تغريبته الفردية الإنسانيّة الموجعة وسفر خروجه المؤلم الممتع الملحميّ المرنَّم.
- اللّوحة الأولى يمكن أن نصطلح عليها بلوحة المقارنة المرّة بين زمانيْن ومكانيْن وحالتيْن وحياتيْن. بل قل مقارنة مرّة مؤلمة قاسية بين وجوديْن: وجود الكينونة والفخر ووجود العدم والذلّ واللاّمعنى.
- اللّوحة الثانيّة ويمكن أن نطلق عليها عنوان «الجنّة المفقودة الموعودة» تلك التي يفتقدها بالرّحيل ويأمل في العودة إليها بحكم حلم العودة ووعد بها. وهي الأطول في النّص والأكثر كثافة والأبلغ تأثيرا وهي تنقل لنا مشاهد إنسانية بسيطة لا يتفطّن الإنسان العادي إلى أهميّتها لكنّ من يُهجّر يفتقدها بحرقة ويستعيدها بتحسّر وهذا من أسرار قوّة نص أبي شرار، ويمكن أن نجملها في:
- مشهد الصّباح، ممثّلا بوجه الأمّ وزهر البرتقال، وذاك الإشراق الذي يُبهج النّفس وتلك الطمأنينة السّاريّة التي لا يعرف المرء مأتاها إلاّ حين يفقدها لكنّه يشعر بها تسري في عروقه فرحا وسعادة كمن يملك الدّنيا وقد ملك الشّمس.
- مشهد الإفطار الصّباحي، وشجرة الجوّافة، والذّكريات مع الأب. وهو مشهد يتكرّر ويُعاش يوميّا حتّى يفقد معناه لرتابته لمن لم يفتقده، لكنّ السّارد الذي يفتقده بحيثياته تلك يستعيده في ألم بكلّ تفاصيله الذي يغدو غيابها جراحا نازفة ويصير تذكّرُها ناقوسا يدقّ حتّى لا تحدّث النّفس نفسها بنسيان حقّ العودة.
- مشهد الذّهاب إلى المدرسة، وعبث الطّفولة بين أحمد وآمال، مشهد على بساطته، يُصوّر سعادة الأطفال ووداعتهم واطمئنانهم في أوطانهم وهم يتمتّعون بأبسط حقوقهم التي يفتقدها الطّفل الفلسطيني في واقع الحال.
- مشهد العمل والأمل والحلم، وهو مشهد ينقلنا من عبث الطّفولة إلى جديّة الإقبال على العمل والفعل من أجل الوطن الذي نملك فيه الشّمس فتولد المطامح رغم قساوة الواقع أحيانا «وكذلك كنت أطمح في غدٍ مشرق» ليقين بأنّ الغد يببه كلّ من يعشق الوطن مثلنا «كنت أعلم أنّ هذا الغد لن يكون إلاّ إذا شاركني كلّ من حولي ببنائه».
- مشهديّة الرّغبات المتمكّنة من نفس الأمّ بشكل طبيعي ككلّ أمّ مطمئنة البال في أن ترى ابنها عريسا وذاك ما تفتقده في واقع الحال فيزداد الألم ويتعاظم بين الفقد والوعد.
- مشهديّة الحلم وتحقيق الوعد، من حلم الأمّ المشروع إلى حلم الذّات المسؤولة الواعية، الرّاغبة الحالمة في غد مشرق يراه في زواج أختيْه فاطمة وآمال وتخرّج أخيه أحمد كما يرغب فيه عميقا برؤية ابنه «سلام» من «فاديّة» ولاسم الطفل أكثر من معنى فهل يأتي السلام ويتحقّق لعائلة تمّ إجلاؤها من أرضها ومنزلها ذات مساء كئيب.
- مشهديّة تبدّل الأحوال وألم الرّحيل، ذاك الرّحيل الذي كان سبب كلّ المصائب المنهمرة بعده بشراسة كاسرة للنفس فإذا الأجواء غائمة والدّموع مستنفرة واللّيل بهيم وتشبّث بالجوّافة قبل المغادرة المأساويّة نحو «واقع يغبشه دم» و«يخنقه دخان قنابل … تهدم بيوت مدينتي … تمزّق أجساد أبناء مدينتي … تنشر الدّمار والموت في كلّ أجزاء مدينتي».
وبين مشهد الصباح ومشهد مساء الرّحيل المؤلم تنكفئ النّفس عاجزة حائرة متحسّرة فتقبع في البيت أوّلا ثمّ تعلن بمرارة قبولها بالأمر الواقع «بعد أن نامت الشّمس في بحر مدينتي، قلتها وأنا أكاد أتمزّق ‘لنغادر المدينة’…» وذلك ما يجعلها تشعر بوحشة قاسية قاتلة، وشعور مقيم بالحيرة والعجز جعل الذات السّاردة تصوّت صارخة صرخة فاقدٍ للكينونة والوجود ومقبلة على العدم والزّيف والذلّ ولا مجيب «وددت أن أقول شيئا، أيّ شيء، ولكنّ لساني كان ملويّا بقوّة في فراغ فمي وغصّة مدمّرة تكاد تخنقني» فتتشبّث النّفس بوطنها وتتقبّض الأيدي على ما تسطيع ممّا يمكن أن تتقبّض عليه من تلك الأرض في إصرار على الملكيّة والتشبّث وما أقساه من مشهد تغييب وتغريب وترهيب وترحيل «يدها مضمومة بإصرار على حزمة أوراق خضر خشنة كان من أوراق أغصان شجرة الجوّافة». فهل هناك مشاهد أقسى من هذه التي تصوّر معاناة الشّعب الفلسطيني المُهجّر؟ وهل هناك خروج أتعس من هذا لأناس يخرجون إلى المجهول دون أن يحملوا شيئا معهم على عكس بني إسرائيل الذين خرجوا من مصر حاملين الحليّ بعد حيلة احتالوها في سفر الخروج التّوراتي؟
- اللّوحة الثالثة، لوحة الصّباح المرتقب والحلم المنقوص، وقوامها مشاهد الزّيف والحرمان والألم الممض الجارح القاهر لغريب تزداد غربته كلّ حين وآن.
- مشهديّة السّخرية المرّة القاتلة، فحينما تتمكّن المأساة من الإنسان لا يستطيع أن يواجهها إلاّ بالسخرية التي توهم بالانتصار يصنعه الإنسان في عمق انكساره:
هل لهذا اليوم صباح؟
أنا لا أراه ولا أحسّ به
لا أكاد أميّزه عن أي شيء آخر
فهو إذن صباح مزّيف لأنّ الصباح المعهود لديه هناك حيث وجود الكينونة، صباح مجدّد خالق باعث للنقاء والحياة والفرح:
«الصبح يا أخي يغسل كلّ السّواد … يغسل كلّ شيء ..»
«هذا الذي تسمّيه صباحا لا يفعل ذلك» .
ولأنه لا يفعل ذلك فهو ببساطة ليس صباحا. فما أقساه من شعور حين تتشابه الظّروف الزّمانية لأنّ الأحوال فيها ومنها ومعها لا تتغيّر.
- مشهديّة اندحار الذّات والضّياع، صورة قاسية للالتباس الهُويّاتي الذي يُصيب الإنسان فتُحيله حيرتُه إلى اللاّمعنى واللاّوجود والغربة بكلّ معانيها فتصوّر الذّات السّاردة تغريبتها الذاتيّة القاسية بشكل دقيق يُنمذج ليؤثّر، فهي ليست سوى أنموذج بسيط لمعاناة آلاف بل ربّما ملايين من أبناء فلسطين وبناتها. «أنا أعرف من أنا … انا مجرّد قرعة خشب ملقاة على قارعة الطّريق … تركلها كلّ حين قدم نزقة … تتحسّسها يد معروقة هزيلة ثمّ تأكلها في النّهاية نار ملعونة». وهل في الوجود ألم أشدّ من ألم الاحتراق بنار الاندحار والحيرة والضّياع والالتباس الهُويّاتي والانفصام بين الذّات والمكان والزّمان؟
- مشهديّة الحلم المنقوص والألم الدّفين، قد تتحقّق للإنسان بعض المآرب وهو في ديار الغربة التي رُحّل إليها قسرا ولكنّها لا تعدو أن تكون سوى زيف وبهرج مخادع. ففي هذه المدينة له بيت لكنّه لن يرقى بأيّ حال من الأحوال إلى البيت الذي أُجبِر على تركه هناك في «تلك» المدينة التي تنام فيها الشّمس: «كان لنا كالبيت الذي كان لنا في المدينة التي كانت لنا به حديقة لكن دون جوّافة» بل إنّ في موت «عطاف» وهي صاحبة القول «زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون» أكثر من رمز ومعنى رغم زواج أمال وإنجابها لابن سمّته “سلام” ورغم تخرج أحمد محاميّا.
ولأنّ الألم، ألم الفقد متمكّن بالنفس فإنّ النفس السّاردة مازالت تحكي حكاية الرّحيل ومأساة التغريب والتهجير تعميقا للمأساة وتأسيسا لتغريبة فرديّة عائليّة سرعان ما تتحوّل بالتّراكم إلى تغريبة فلسطينيّة قاسيّة الملامح موجعة التّفاصيل تلخّصها عباراته في آخر النّص: «أنا ما زلت أروي حكاية الغرب … أغصان شجرة الجوّافة لا زالت حطبا يتقصّف في كلّ لحظة في قلبي… تلّة الرّمل الشّقراء ما زالت تنهال على جسدي المحطّم كلّ لحظة فتخنقني … عطاف الميّتة لم تزرع ما يؤكل … وشمس مدينتي ما زالت نائمة في البحر».
فهل يمكن أن نتصوّر ما هو أقسى من هذا؟ وهل يمكن أن نجد نصّا يُصوّر هذه المأساة بهذه الدقّة وهذا الألم فيؤلّف شهيدنا ماجد أبو شرار في قصّة قليلة الصفحات سفر خروج فلسطينيّ يتسامق عاليا على سفر الخروج التّوراتي من حيث عمق المأساة وآلامها ومن حيث البناء الفنّي القصصي الرائع الذي يمكن أن يُرتّل ويُرنّم كمزمور من مزامير الملاحم التي يحقّ للمُتغرب الفلسطينيّ المُهجّر أن يترنّم بها في انتظار عودة مأمولة لا تخمد جذوتُها. وقد نجح أبو شرار في جعلها تلتهب دائما بهذا النّص المؤلم الواعد.
***
سفر الخروج الفلسطيني: قراءة في قصة «حكاية الرّحيل» لـِ ماجد أبو شرار؛ بقلم الأستاذ الباحث فتحي بن معمّر
فتحي بن معمّر؛ باحث وكاتب من تونس
