جسدُ السردنصوص

عندما صرت جرذا | حمزة الذهبي

حمزة الذهبي يكتب: عندما صرت جرذا

***

ليلة السبت قمت بطرد القط من غرفتي وأغلقت الباب، ولسذاجتي لم أدرك أن القط الذي طردته كان يلاحق جرذا دخل إلى غرفتي مختبئا، إلا عندما أيقظني الجرذ، بعضّة أسالت الدماء من اصبع قدمي الأصغر وجعلتني أتلوّى ألما.  

آنذاك وأنا تحت حَرْ الجرح، اكتشفت أني منعت القط من القيام بمهمته عبر إغلاق منافد خروجه، وسمحت للجرذ بإيقاظي من  نومي متألما.  تدخلي في العملية جعلني أدفع الثمن غاليا. لو تركتُ الأمور تسير كما يُراد لها لكنت لا زلت أغط في نومي العميق ولكان الجرذ من نصيب القط.  

بعد أن نهضت متألما لم أتمكن من أن أمسك الجرذ، ليس لأني لم أحاول، وإنما لكوني عجزت عن القيام بذلك، من يستطيع إمساك الجرذان، يحتاج الأمر الى موهبة لم أملكها يوما. فخطر في بالي أن أنادي على القط، فهو عدو الجرذان اللدود، لهذا فتحت الباب بحذر، لأنادي عليه، لكن الجرذ اللعين، استغل تلك الفرصة وانسلَّ هاربا، ولم يسعني إلا التسليم بالهزيمة.

 توجهتُ بعد ذلك، جارّا أذيال الهزيمة، والساعة تقترب من الثالثة صباحاً، نحو المطبخ، وقمت بتسخين الماء، ولما أضحى جاهزا، شرعت في غسل الجرح بالماء الساخن، ثم وضعت عليه «البوماضة الصفراء» التي بالنسبة لنا دواء كل داء.   

في الصباح، أعلنتُ للأصدقاء ما حدث. لم يتمالكوا أنفسهم من الضحك، وندمت لأني أخبرت جماعة الشامتين بما فعله الجرذ بإصبع قدمي. أما أمي فقد أصرّت على أني يجب أن أذهب إلى المستشفى. ولتزيد في رعبي قصّتْ عليّ قصصا لأشخاص قُطعت أصابعهم وانتقلت إليهم الأمراض المميتة والمقيتة من طاعون وجرب وجذام وداء لا يُعْرَفُ له اسم، نتيجة جرح سببته الجرذان.  

عملا بنصيحة أمي، فقد وجدت نفسي يوم الاثنين في المستوصف، وعندما أعلنتُ للممرضة التي كانت تملك حقها من الجمال، أن جرذا قذرا قد عضني، صدمتني بخبر أن الحُقَن لم يبقى منها شيء، آخر حقنة انقضت يوم أمس، فعرفتُ بما لا يدع مجالا للشك أنها تريد مني أن أجود عليها ببضع دريهمات. 

وضعت يدي في جيب سروالي الباهت من أثر الغسيل المتكرر، سحبت عشر دراهم، ووضعتها في يدها، فاستوتْ واقفة مع تلميحها إلى أن عشر دراهم لا تصلح لشيء، وقامت بحقن الحقنة في ذراعي.

الحقنة التي لم تكن متوفرة أضحت موجودة بقدرة قادر، فلا بد أن تُعطي لتأخذ ما هو حق لك، إنه درس قيم في زمن إعطاء الدروس.  

وفي انتظار قدوم الطبيب المشرف ليوقّع لي على الورقة الطبية من أجل دفعها إلى مكان العمل تبريرا لغيابي، حكت لي الممرضة عن طفل لم يتجاوز الأربعة أسابيع تركته أمه في المنزل وذهبت عند جارتها، وبينما الأم تتجاذب الحديث مع جارتها، قضمت الجرذان أطراف الطفل. قلت لها أنّ التفكير فيما قصّت عليَّ سبّب لي الألم، وحكيت لها أنه على ذكر حكاية الطفل فقد سمعتُ أن هناك شخصاً ربطوا يديه ورجليه وقاموا بدفنه حيا، ولما عادوا في اليوم الموالي، ورفعوا غطاء القبر، تفاجئوا أن نصف جسده قد أصبح في بطن هذه المخلوقات المتوحشة.

قالت لي أنّ التفكير في هذا الأمر سبّب لها الألم. وبينما نحن نتألم طلبتُ منها أن تُعطيني رقم هاتفها، وهو ما لم ترفضه طبعا، فخلف رقم الهاتف هناك أرصدة هاتفية، ومشروبات كثيرة في مقاهي أنيقة، وسيارات أجرة لن تدفعَ ثمنها. بالرغم من أن العشرة دراهم التي أعطيتها لها لا تبشرها بخير، فهي تبوح لها بأني مجرد فقير. لكن شيء أفضل من لا شيء. وهناك آخرون، ينضافون الى هذا الفقير، يمكن أن يفعلوا أي شيء من أجل أن يسرقوا منها قبلة. فما أسهل التلاعب بالفقراء، أما الأغنياء فإن النساء في متناول اليد وما عليهم إلا أن يمدوا أيديهم ليقطفوا الفاكهة.

في النهاية جاء الطبيب، متأخرا مثل عهده دائما، وقّع على الورقة وطلب مني أن أعود مرة أخرى بعد أسبوع، لا بد من حقنتين لقتل أي عدوى محتملة. لكني لم أعد، تناسيت ذلك، أو أني فقط لم أكترث للأمر. بيد أني دفعتُ ثمن ذلك إنسانيتي. وتوفيتُ بطريقة لا أتمناها حتى لأعدائي.

فبعد مرور ثمانية أيام وبينما كنت في غرفتي جالسا على حصيرة ومتكئ بظهري على وسادة تقيني برودة الحائط وأرتشف كأس شاي بالنعناع، أحسست بالألم في كافة جسدي، وبدأ يحدث لي شيء ما أصابني بالدوار، بدأت الغرفة تتضخم، وفي انعكاس صورتي على  كأس الشاي الفارغ الموضوع فوق الحصيرة، اكتشفت ان الغرفة لم تتضخم، وإنما أنا الذي تقلصت. صرت  جرذاً رمادي اللون شبيه بذلك الجرذ الذي عضني. وقبل أن أفيق من هول الصدمة فتح أخي باب الغرفة. وكم أوصيته أن لا يفتح الباب قبل أن يستأذن، لكن الكلام يدخل من هذه الأذن ويخرج من الأذن الأخرى. 

وما إن ولج إلى الغرفة حتى شاهدني، فانفتحت عيناه على مصراعيها، حمل فردة حذائي اليمنى الموضوعة أمام عتبة الباب وأرسلها نحوي، تحاشيتها، فحمل فردة الحذاء اليسرى وأرسلها نحوي، أصابتني هذه المرة، أغمي علي. ظن اللعين أنه قتلني، فأمسكني من ذيلي، بأطراف أصابعه، ورماني خارجا، فسقطت أنا الذي صرت جرذا في بركة ماء كانت تجمعت بسبب تساقط  المطر.

هذا السقوط في الماء نزعني من غيبوبتي، فبدأت الزحف مترنحا مثل سِكّير كرع أكثر مما ينبغي فلم يعد يقدر أن يحمل جسده، وقبل أن تضربني قدم أحدهم، دخلت إلى أحد المجاري التي منذ ذلك الحين أصبحت موطني، فما إن أخرج منها صاعدا إلى أعلى حتى تتعالى الصيحات واللعنات والضربات من كل جانب، الكل يريد أن يفتك بي، الكل لا يطيقني، أضحيت مكروها، لا أحد يريد الاستماع إلى حالتي التي أعجز عن حكيها، فما بالكم أن أجد حلا لها. 

لم أتقبل الأمر في البداية، أنا أسمى الكائنات وأعلاها، أتحول إلى أحقر الكائنات وأدناها، أنا المحبوب أصير منبوذا . 

لكن الجرذان وإن كنت قد رفضتها، سواء برفضي لما تحولتُ إليه، أو بالضربات التي كانت تنالها مني وأنا في طبيعتي الإنسانية –  فقد أحاطتني من كل جانب واهتمت بي وحمتني جيداً.

 وفي النهاية لم أجد بدّاً من أن أتقبل طبيعتي الحيوانية. وشيئا فشيئا بدأت أكتشف معنى أن يكون المرء جرذا. فعندما تكون جرذا معناه أنك المختار، أنك المالك الفعلي للأرض، فمن يملك الأعماق هو الذي يملك الأرض، أما من يملك السطح، فإنه سيزول بزوال السطح .

وبالتالي فذلك الاعتقاد بأن الإنسان هو سيد الأرض، هو اعتقاد خاطئ لا يؤمن به سوى الانسان.  

وما أكثر الأوهام التي يؤمن بها الإنسان والتي ستكون سبب هلاكه. 

 ثم إن الأمر سيّان، وسواء كنت إنسانا أو جرذا، إنهم وجهان لعملة واحدة، لا يختلفان سوى في المظهر، فما أشد تشابه الإنسان بالجرذان. وقد أخبرني «حكيم الجرذان» ـلا تتفاجؤوا حتى في الجرذان هناك حكماء – بأسطورة غارقة في القدم، تُظهر أن الجرذان انحدرت من الانسان، فهذا الكائن الذي تراه الجرذان فتّاكاً لا يرحم، متوحشا، ويراها بنفس المنظار، هو أصلها، منه انحدرت. وهذا ما يوضح التشابه الشديد بين الانسان والجرذان.

تقول الأسطورة

 في زمن سحيق، كانت هناك امرأة آية في الجمال، أجمل نساء القرية، لكن هذه المرأة الفاتنة كان لها عيب قاتل، كانت سليطة اللسان، فما إن تفتح فاهها حتى يسقط ضحاياها، لسانها الذي لا يرحم يسبب للجميع الألم.

وفي ذات ليلة ليلاء، اجتمع رجال القرية من أجل وضع حد لهذه المصيبة، فهم لا يستطيعون الابتعاد عن هذه المرأة، يجذبهم جمالها كما يجذب المغناطيس قطعة حديد صدئة، لكن لسانها، هذا السكين الذي ينهش أرواحهم، ينفرهم منها.

لهذا اتفقوا على قطع جزء من لسانها. أي إخراسها، وبهذه الطريقة سيتخلصون من إزعاجها.

وهذا ما فعلوه في النهاية، لكن المفاجأة أن ذلك الجزء المقطوع وما إن وصل الأرض حتى تحول إلى جرذ وهرب من إحدى الحفر. منذ ذلك اليوم والإنسان يخاف من الجرذان .

 وبينما حكيم الجرذان يقص علي هذه الأسطورة، كنت أقول في خاطري: 

ربما هذا ما يفسر كراهية الانسان للجرذ أكثر من الكائنات الأخرى، فالمرأة تكرهه لأنه يذكرها بما فقدته، والرجل يكرهه لأنه يذكره بما عاناه.

لم أكن أدرك ذلك وأنا في هيأتي الإنسانية وأرجعت سبب كراهيتي للجرذان إلى قذارتها، والجراثيم والأمراض التي تنقلها، بيد أن السبب الحقيقي يكمن في ما أخبرني به الجرذ الحكيم.  

فالإنسان كما قرأت منذ زمن طويل، حينما كنتُ قارضاً للكتب قبل أن أصير قارضاً للنفايات، يرث بشكل لا واعي مخاوف أجداده. إنها تقبع عميقا في داخله عصية على التلاشي، مُعتقدا أنه يحب لأنه يحب وأنه يكره لأنه يكره، في حين أن كل ذلك ورثه عن أجداده، لهذا يُقال من خلّف لم يمت. بمعنى أن  كل من الآباء والأجداد يعيشون في الأبناء والأحفاد.

**

كنت دائما عندما يتملكني الجوع، ولا أجد ما يُأكل، أذهب مع المجاري، ومن ثقب مرحاض أحد المنازل أخرج وبينما أصحاب المنزل نيام، أتناول كل ما يقع أمامي. فليس هناك شيء لا تأكله الجرذان.

وذات ليلة مشؤومة، ما إن تجاوزت المرحاض حتى اعترض طريقي قط لعين، حاولت مراوغة القط والنجاة بجلدي، لكن القط لم يتركني، تبعني في كل مكان، وما إن يمسكني حتى يتركني أهرب ليمسكني من جديد، كنت لعبته، بقينا هكذا حتى استيقظ صبي لعين في العاشرة من عمره، فوجد القط يحاصرني في زاوية المطبخ، اتّجه الصغير صوبي، وأمسكني بسهولة، وحشرني داخل صندوق خشبي صغير الحجم، لم أعرف سبب فعله ذلك، لماذا لم يقتلني، أو يرميني خارجا، وخمّنتُ أن اللعين يخطط لشيء ما.

 بقيت تقريباً عشر ساعات من الزمن أو أكثر في داخل الصندوق، وبعد ذلك بدأت أسمع همهمة وصوتاً من هنا وهناك، ثم في النهاية امتدت يد وسحبتني من داخل  الصندوق، لأكتشف أني في ساحة مهجورة تقع خلف حي ما، وأن هناك ما لا يقل عن عشرين صبيا،  تخميني أن من أمسكني يخطط لشيء ما كان صائبا، بل حتى أني في تلك اللحظة تنبأت بما سيحدث، ألَمْ أفعلها أنا أيضاً عندما كنت صبيا في حق العديد من المخلوقات. والآن جاء دوري لأذوق من نفس الكأس. وضع الصغير، تحت أنظار الملاعين الصغار، قنبلة – من تلك القنابل التي تباع في بعض المناسبات الاحتفالية – في مؤخرتي وقام بإشعالها بولاعة أخرجها من جيبه، ثم رماني في الهواء بعيداً، لأحلّق عاليا، قبل أن تنفجر القنبلة، لتتطاير أجزاء مني في كل مكان، وبينما كانت روح الجرذ الذي هو أنا، تتلاشى، كانت آخر أفكاره: «الجرذان وإن كانت تشبه الانسان في توحشها، فهي لن تفتك بأي أحد طلبا للمتعة والتسلية. فما أنبل الجرذان مقارنة بالإنسان».

عندما صرت جرذا، قصة للكاتب المغربي حمزة الذهبي

حمزة الذهبي: عندما صرت جرذا

خاص قنّاص – سرد

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى