فضاءاتملفات

إيتيل عدنان التي أحبّت الكون | إينانة الصالح

لعل التناقض الوجودي المتمثل بالإنسان والمتعلق بالفكر المتقد القائم على الجدلية المستمرة والريبة الحاضرة، من دون مواربة أو تجميل، على كل معطيات النفس البشرية البسيطة؛ هو ما تحتضنه إيتيل عدنان (1925-2021) في مواطن حياتها المختلفة (المكانية والزمانية)، وهي من أحبت المدنية وعشقت الطبيعة، عاشت الهزيمة وتعايشت معها، تحمل ذاكرة حية ولا تؤمن بالماضي، تنطق بكل براءة وحشية العالم.

مواطنة لبنانية سورية يونانية فرنسية وأمريكية. الهويات المختلفة لم تقتلها، إنها امرأة من عالم شرقي، شاهدت تطور حياة المرأة في لبنان، وكانت من أوائل اللبنانيات اللواتي مارسن حريتهن في العمل والحياة، حيث عملت في مكتب الصحافة أيام الانتداب في بيروت، وشهدت نهاية الحرب في المكتب، كان مكتباً فرانكفونياً وإنكليزياً، وكانت حينها في عمر السادسة عشر.

كانت السياسة بالنسبة لها إحدى تجليات الحب والشغف، أن نحب بلداً أو حالة سياسية ما، واعتبرت هزيمة 1967 هزيمة للعرب جميعاً، كما لعائلتها الصغيرة “اكتشفت أنني عشت مع شخصين مهزومين، الهزيمة بالنسبة لأبي كانت سقوط الامبراطورية العثمانية، وبالنسبة لأمي كانت احتراق مدينة أزمير بالكامل عام 1922 حيث تلاشى عالمها الشخصي كلياً، عشت مع شخصين فقدا عالمهما وهذا ما حضَّرني إلى تحمل الخسائر كما في يونيو 1967 وخسارة فلسطين، الهزيمة بالنسبة لي، أمر يمكن التعايش معه”. كما تعاملت مع العالم العربي (عالماً وليس بلاداً) كجزء منه “نحن ورثة قسم من تاريخ العالم” وكمواطنة شرقية وبنفس الوقت كمواطنة غربية استطاعت أن تكون جزءاً من عالم وأن تراه من الخارج بذات الوقت، إنه لموقف خيالي وفريد من نوعه.

إيتيل عدنان في صباها

هذه الشاهدة على التاريخ الحديث كانت مفردة الالتزام وأحد الكلمات المفتاحية في تجربتها، حيث الولاء حيال العالم، هذا العالم الغني والفاتن إنه مدعاة للشغف ولا يمكن أن ندعه يفلت منا، وعلينا أن نمسكه بالقلب الذي هو أهم ما نملك، وهي المؤمنة بالموارد البشرية، كما أنَّ الحرية لديها لا يمكن فصلها عن الالتزام، الحرية تتطلب إيماناً عميقاً، فهي قيمة عميقة في ذواتنا.

ما من موضوع واحد للشعر فحسب، بل كلُّ وجعٍ على الأرض هو مشروع قصيدةٍ لإيتيل عدنان، وعلى اعتبار أنها عاشت الحرية وحملت هاجس الأسئلة المستمرة بشفافية عالية البراءة وبخطاب نابع من روح طفلة كما أنها سعت إلى المجتمعات المفتوحة، سنجد ألا أفق يحد كتاباتها كما أن النهايات فراغ يكمله تأويل القارئ الذي هو وجهة خطابها، فأي عمل إبداعي حالما يصدر عن فاعله بشكل أو بآخر هو ملك للغير، يقرأ ويتلمس فيه نفسه ثم ينتجه فكرياً بصيغة أخرى معتمداً على تأويله وفكره الخاص. كتبت إيتيل عدنان باللغة الفرنسية والانكليزية لكنها لم تكتب بالعربية التي تعشقها وهي الحريصة على عرقها الشرقي، وتعزو ذلك إلى كونها لم تتقنها “من الأفضل ألا نكتب على أن نكتب بلغة سيئة”.

من هنا اختارت عدنان لغة أكثر اتساعاً هي اللغة البصرية كي تقول كنهها من خلاله، “الكتابة هي الرسم والرسم هو الكتابة”، نعم هذا من حيث مبدأ الخطوط مفاهيمها ودلالاتها، كما من مبدأ مرجعية الكتابة كون الكلمات في الأصل هي خطوط ذات معنى، كما أن خط اليد هو هوية لا يمكن التلاعب بها للمشاعر الانفعالية، بل إنه مرآة النفس “الكتابة صورة عن روحنا”، أما اللون فهو إشارة الحياة والحب والأمل ثالوث إيتيل عدنان الذي غالب لوحاتها فغلبها فرسمت أحلامها وبساطة الكون والفرح ما لم تستطع كتابته “أكتب ما أراه وأرسم ما أنا عليه”.

إيتيل عدنان مع ألوانها ولوحاتها

جاءت لوحاتها ببعد واحد وبمكونات قليلة تسمح للّون بأن يكون سيد الفراغ. الرؤية التصويرية تتمتع بقدرة جلية، إنها قوية جداً، وهي تفرض ذاتها في الصورة كلغة أخرى وتحيل المشهد الذي كان يبدو للوهلة الأولى إحدى رسومات الأطفال عملاً متشعباً إلى أبعاد كثيرة تحمل الطبيعة على كفها وتشاكسها ببرك الماء وانعكاس الشمس وقمة الجبل والسماء والشمس والقمر، إنها إعادة اكتشاف للطبيعة البكر وتناقضاتها الشبيهة بشخصية إيتيل والتعرف عليها مجدداً بل والتورط فيها كملاذ بعد أن أنتجتنا لنسكن فيها ونبحث عن الطفل المخبأً فينا مأخوذين بصورة رشيقة، سمتها الأولى البراءة وترك الخط على حاله كما أنجبته الفطرة دون تشذيب. لعلها فلسفة إيتيل الحية غير الهادفة إلى تعقيد الأشياء أو المغالاة في تحليلها وتركيبها ومن دون أن تنحت أو تنحل أو تشتق شيئاً أو تلتف إلى المدارس الفنية الكثيرة، لكنها ببساطة استطاعت أن تشيِّد عالمها الحقيقي الخاص “إذا كان هناك شيء اسمه الحقيقة، فإنه موجود في الفن”.

الأمر برمته– كما العمر- كان رهناً بالحرية، الحرية التي استطاعت عدنان أن تلتقطها منذ طفولتها، من خلال التنوع الثقافي والديني المتسامح والموجود داخل جدران بيتها، حيث التمعت في ذاكرتها ذهنية الأب (المسلم) المنفتحة، وحساسية وتسامح الأم (المسيحية)، وتزاوجت داخلها لغتي الأب التركية والعربية، مع لغة الأم اليونانية، وهذا ما أتاح لها الاطلاع على التاريخ بقدر ما أتاح لها حرية الخيارات، وتوصيفها للحلم بـ “هدية سماوية”، وأمدتها بروح شاسعة استطاعت أن تجعل من أحلامها ملكاً للعالم بأسره.

إيتيل عدنان التي أحبّت الكون

استطاعت إيتيل عدنان ليس فقط أن تدرك الحرية وتعيشها بل أن تفهمها وتعامل معها بوعيها الخاص، فقد اقترنت بالنسبة لها بفكرة التخلي كمانح للحرية “يجب علينا ألا نتمسك بأي شيء” على الرغم من كون الحرية تدفعك إلى التعلق بها ضمنياً إلا أنها تعشق ألا يكون المرء فكرياً كما جسدياً رهيناً لفكرته الواحدة، لذا فهي ما يكتسبه الإنسان بذاته ولا تمنح له، كما رأت بأن الحرية تجعلنا أكثر إنسانية، وبهذا أن تكون حياً يعني أن تكون حراً، إنها غريزة يقوم المحيط السياسي أو المجتمعي بتقليصها مع الوقت وقلة فقط من يخسرون منها القليل عبر العمر ويحافظون على كثيرها. وهذا ما جعل “الله” بالنسبة لها وجوداً حقاً لا يمكن تحديده بكلمة أو تأطيره تحت عنوان ما، إنه شعور خالص يتملكنا كما نملكه، وكانت صلوتها غالباً هي صلة روحية بالله تناجي من خلالها أن تتقبل العالم، إنها القائلة بنزاهة الجوهر، نزاهة مع الذات ومع الحدث، وهي التي قالت شكراً للطبيعة، ومن تدرك أن الغفران هو التحرر من الكراهية، وأننا عبره ننعم بسلام الروح والقلب، إنه سلام حقيقي.

كما أن هناك غريزة أخرى تولد مع الإنسان وهي حب الحياة، علينا أن نؤمن أن الموت ليس هو الكلمة الأخيرة، وأن حب الموت هو عماء كما أنه انعدام الفطرة والحرية. وهنا تحت عنوان الحرية ذاته آمنت بالحب كتلاقح بين حريتين، وبالصداقة كنوع من الحب الذي لا تدرك فحواه لكنه يجعلك تتخذ صديقاً لقربه من روحك.

هكذا عبرت عدنان حريتها وعبّرت عنها يحملها السفر على جناحيه متنقلة بين الأمكنة والأزمنة، وكسؤال مستمر للكشف يجعل من العمر مجرد لعبة بين يدي قلبٍ طفل “هل بإمكانكم أن تنسوا أنفسكم لبضع دقائق في اليوم؟”.

سرُّ إيتيل عدنان وتفردها يكمن في تقبل الأمور كما هي، تقبل العالم، وعدم فقدان الأمل، وهي المرأة الثائرة التي لا تذعن أو تستسلم، ما بين المفارقات والتناقضات استطاعت أن تقدم نضالاً لا تشوبه الجعجعة الفارغة، بل الطاقة التي تعطي علة الوجود “la raison d’etre”، حيث علينا أن نمضي قدماً نحن لا نملك الخيار، لكننا نملك القدرة على الحياة.

إن العفوية والفطرة تتمثل في كل ما قدمته إيتيل عدنان، وهي التي عاصرت السريالية والتيار الوجودي ثم التجريدية التعبيرية، الفن وليدة اللحظة والآنية، إنه الكشف، يكتشف الدهشة في اليومي، إنه فعل خلق متفرد متأثِّر لكنه ليس بتابع أو منتمٍ، بل يحمل صوتها الخاص وعالمها الداخلي الفلسفي. كتبت عن المدن والمرأة بروحها الطاغية والطافية مستخدمةً أنواع أدبية مختلفة ومنها الرواية والرسائل واليوميات والمسرح والمقال والشعر، كما مارست الفن التشكيلي والنحت، واعتمدت التجريب بعيداً عن التعلم المباشر والتلقين،  ذكاء وعذوبة، حيثُ أصدرت نحو 20 كتاباً في لغات عدة.

إيتيل عدنان التي أحبت الكون، واعتبرت الوجود هديةً لها، الشغف متقد لم ولن ينطفئ، المرأة التي لم تخف من الموت لأنها لم تجربه، الذاكرة الحية، الحاضر المشع، من أتقنت حرباً باردةً صنعت من خلالها حياةً متقدة تشبه الأبد.

خاص مجلة قنآص

إينانة الصالح؛ أديبة سورية، صدر لها في الترجمة: رواية “الحب في البلدان الإسلامية”، رواية “جيزابيل”. رواية “نيران الخريف” . رواية “فرسان الريح” . رواية “الحصان ذو الشعر الأبيض” . “الوجود الخالص ونصوص أخرى” كريستيان بوبان. “الترجمة وأدواتها”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى