يبدأ وديع سعادة قصيدته “الصمت” بالرجوع إلى “صمت نيتشه” في سنواته الأخيرة مُتسائلًا عن دافعه، ومُقرِنًا بينه و”الانعزال”.. تكتسب احتمالات الإجابة الصيغة الاستفهامية أيضًا، حيث الصمت سؤال غير محدود، يسبق محاولات التوصل لمبرره.. لا يُفرّق وديع سعادة مبدئيًا بين الصمت و”الكلام” إلا في “الكيفية”.. “هل أراد أن يقول إن الصمت هو أعلى درجات الكلام؟”.. الصامت يتكلم إذن، ولكن بواسطة عدم “التفوّه” بالكلمات.. بعدم التخاطب أو بالتعبير الأفصح عن لا جدواه كما تتضمن القصيدة.. لكن وديع سعادة في تساؤله حول الصمت كنفي لإمكانية التواصل بين الذات والآخر، الفرد والجماعة، أو كيأس من اللغة، أو بكونه “الاحتفاء الوحيد المتاح بالحياة، والتشييع اللائق لمن يودعها بإخلاص”؛ فإنه يخاتل الصمت المجرّد فعليًا من اللغة، أي ذلك الذي يوجد من قبل تحققها.. وديع سعادة يناوش “غياب الصمت” في اللحظة التي يستفهم خلالها عن “خرس اللغة”- باستعادة “رامبو” أيضًا- كمرادف للعدم، أو شطب الوجود.
“لماذا صمت نيتشه كلّ تلك السنوات؟ ولماذا غادر رامبو الكلمات؟ والكثيرون غيرهما لماذا وضعوا هذا الحدَّ المرعب بين اللغة وخرسها، بين الذات والآخر، بين الحياة وعدمها، بين الإقامة وشطب الوجود، هذا الكائن الصغير الوحيد بين عدمين؟”.
إن صمت نيتشه ورامبو، أو “الصمت” كما يفكر فيه وديع سعادة لا وجود له مقارنة بـ “اللازمن” المفترض الذي لم تتكوّن داخله اللغة بعد.. الصمت في القصيدة هو اقتفاء أثر “الصمت الحقيقي” الذي يتقدم على “الوجود”، تلصص على غيابه، محاولة لتقمص ما كان “صمتًا” خالصًا.. هذه المطاردة هي الحياة الفعلية.. عدم النطق ممارسة إيروسية مع الصمت المتعذر، حيث الكلام المحتجب، الذي تردده الذات في امتناعها عن التلفظ به، هو وسيلتها المختبئة للاتصال بالظلام الذي يسبق اللغة.. بغموض الصمت القبلي المحصّن في الغيب.. هذا ما يمنح البصيرة قدرة التمعن في “الاختفاء”.. الاختفاء الذي يعجز عن الحدوث امتثالًا لارتهانه بـ “الصمت” الغائب.. يصبح التحديق إلى “الاختفاء” بديلًا لوقوعه.. التحديق المسمى بـ”الشِعر” أحيانًا، حيث مراقبة “الصمت” الناجمة عن عدم التفوّه بالكلمات تخلق حلم الانطواء الفردي بالتبدد.. تلاشي الجسد الذي كوّنته اللغة.. الرغبة في استرداد الكينونة المطلقة التي يكشفها المحو.. التبدد الذي لا يتم وإنما يُصاغ بالسكون.. بالخيال المضاد للحركة.. تتفحص الحياة وهمها، وتدور حول سراب خلاصها عبر هذا الكفاح المقيّد للانفصال عن عنف الطبيعة.. هذا الأداء الإيروسي يكمن تحديدًا في ما يمكن تسميته بـ “التناص بالصمت” بين فراغات القصيدة أو المساحات الخالية من رسم الكلمات، وبين ما اعتبره وديع سعادة “صمتًا” لدى نيتشه ورامبو.. التناص الذي يحوّل “وهم الصمت” إلى تلاعب بالصمت نفسه الذي لا يمكن ملامسته.
*ممدوح رزق: شاعر مصري
الشِعر في العراء | د. هدى فخر الدين
وديع سعادة أو «كان ما يمكن» | احساين بنزبير
وديع سعادة في «أعماله الكاملة».. الشعر يُصادِق الحياة | شريف الشافعي
وديع سعادة.. الشاعر المعبّر عن الحزن | عزيز العرباوي
وديع سعادة والتآخي مع الطبيعة | د. علياء الداية
الشاعر الذي مشى في شوارع الدّهشة | عبد الجواد الخنيفي
خاص قنّاص – ملفات