مرايا فنّيةمسرحُ أفلام

استدعاء الروح الأنثوية في فيلمي سماهر القاضي وبايال كاباديا  | ياسر سلطان

الفيلم الوثائقي والروح الأنثوية:

تُحرّض الكاتبة المكسيكية كلاريسا بينكولا في كتابها (نساء يركضن مع الذئاب) النساء على استحضار الطبيعة الأنثوية داخلهن، وتجاوز الأطر التي صُنعت لقهْرهنّ وسلبهنّ ما تبقى لهن من قوة. في هذا الكتاب تحث بينكولا النساء على التمسك بالطبيعة الصُلبة والمشاعر الصادقة والروح المرحة المتحدية، بعيداً عن أطر الاستكانة والضعف التي صنعتها المجتمعات والثقافات لحصارها. هذه الطبيعة الأنثوية التي حاولت بينكولا التعبير عنها تجد لها صدى اليوم في العديد من الأعمال الفنية لكثير من المبدعات. لا شك أن النقاش حول المرأة وقضاياها يمثل أحد المحاور الرئيسية المطروحة من قبل المبدعات والمبدعين على السواء، غير ان المنظور النسوي في تناوله لهذه القضايا يبدو أكثر حرصاً على رصد هذا الجانب الصلب والمتحدي الذي أشارت إليه كلاريسا بينكولا. سنحاول هنا تلمس هذه الروح الأنثوية عبر استعراضنا لعملين وثائقيين لاثنتين من المخرجات، الأول للمخرجة الهندية بايال كاباديا والآخر للفلسطينية سماهر القاضي. عرض هذين العملين أخيراً خلال الدورة الخامسة لمنصة الشارقة للأفلام التي أقيمت في الفترة من 21 إلى 30 أكتوبر الماضي.

بايال كاباديا في: ليلة من الجهل

في فيلمها “ليلة من الجهل” تضع المخرجة الهندية بايال كاباديا المرأة في بؤرة الأحداث عبر تتبعها للحراك المجتمعي الرافض لسياسات السلطة، هذه السياسات التي ترسخ للتفاوت الطبقي في المجتمع. تبدو المرأة هنا هي الحلقة الأضعف في هذا الصراع، غير أن الفيلم يضعها في مكانة أسمى، مؤكداً على هذه الروح الأنثوية المتحدية، فهي هنا تعادل صوت الضمير الذي يكاشف المجتمع بِخلله وعيوبه.

وقع الاختيار على فيلم ليلة من الجهل ليكون فيلماً للافتتاح ومقدمة للعروض السينمائية التي شاركت في الدورة الأخيرة لمنصة الشارقة للأفلام. ينطلق فيلم ليلة من الجهل من منظور ذاتي ثم ما يلبث أن يتجاوزه لاحقاً للبحث والتنقيب عن ما هو إنساني، وإثارة إشكاليات أكثر تعقيداً. هذا البناء الدرامي الذي يعتمد عليه الفيلم يمثل أحد الحلول الناجعة التي تقدمها السينما، ويكاد أن يكون سمة رئيسية للعديد من الأفلام الوثائقية البارزة. لا يبتعد فيلم المخرجة الهندية بايال كاباديا عن هذه التركيبة المعتادة، لكنه يتبع نهجاً مختلفاً في بنائه الدرامي.

أفلام وثائقية والروح الأنثوية "ليلة من الجهل" المخرجة الهندية بايال كاباديا ا
مشهد من”ليلة من الجهل” للمخرجة الهندية بايال كاباديا (imdb.com)

يعتمد الفيلم على مسارين مختلفين في ظاهرهما، ينطلق الأول من منظور ذاتي يتسم برومانسية حالمة ووتيرة متأنية، بينما يتبنى الآخر مساراً عاماً يعتمد على الحركة المستمرة والصاخبة. خلال مدة الفيلم التي تتجاوز الساعة والنصف تؤلف كاباديا بين المسارين ليشكلا معاً بنية العمل وسياقه الدرامي. تتدفق المشاهد في الفيلم ما بين الصخب والغضب العارم مشتبكة مع مشاعر الأسى التي تبثها الكلمات المُلتاعة والصوت المرتعش في الخلفية، هذا الصوت الذي ينسّل برفق كفقاعة هواء بين أمواج متلاطمة.

يبدأ الفيلم بالعثور على مجموعة من الرسائل الغرامية كتبتها طالبة سابقة في معهد السينما بأحد الجامعات الهندية. الرسائل التي عُثر عليها داخل أحد الصناديق موجهة إلى حبيب مجهول لا يُذكر اسمه. تتدفق المشاهد انطلاقاً من هذا الحدث لتنتقل عبر تجمعات الطلبة وصخب الشارع. تتوالى المشاهد سريعاً فنرى حشود المتظاهرين وهي تتحرك وتشتبك مع قوات الأمن. يتوارى صوت هذه الحشود الغاضبة أمام سطوة الصوت الخفيض والمتأني في الخلفية. تشير الفتاة إلى نفسها بالحرف “L” وهي طالبة سابقة في معهد السينما، هجرها حبيبها بعد اعتراض عائلته على ارتباطه بفتاة من طبقة أدنى.

نستطيع أن نتبين بسهولة مشاعر الأسى والفقد المسيطرين على هذه الرسائل من خلال التساؤلات المطروحة بلا إجابة. يربط الفيلم بين هذه المحنة الشخصية للفتاة ومسار آخر أكثر شمولاً عبر استحضاره لمشاهد المظاهرات والتجمعات التي نظمها الطلبة الهنود بداية من عام  2015،  وهو العام الذي وصل فيه حزب باهاراتيا جناتا اليميني إلى السلطة. اندلعت هذه الاحتجاجات بسبب خفض عدد المنح التي تتيحها الدولة للفئات الطلابية الأكثر احتياجاً من أجل الحصول على تعليم جامعي. مع مرور الوقت تتوارى سيرة الحبيب المجهول شيئاً فشيئاً ويتحول في النهاية إلى رمز لأمة خاضعة للفروق الطبقية ونظام حكم يرسخ بعنف لهذه الفروق.

ما يهمنا هنا هو تلك الطريقة التي وصلت بها مخرجة الفيلم بين الشخصي والعام، فمن خلال هذا البناء الدرامي الجامع بين الصورة وسرد الرسائل استطاعت الحفاظ على المسارين معاً في تواصل مستمر لم ينقطع طوال مدة عرض الفيلم. اختارت المخرجة التعامل مع الرسائل كإطار عام للمشاهد التي تم تجميعها من مصادر مختلفة، عبر الكاميرات المحمولة والهواتف وكاميرات المراقبة والأرشيف وتسجيلات نشرات الأخبار، فبدت المراوحة بين السياقين أكثر تشويقاً وحميمية. كما جاءت معظم مشاهد الفيلم بالأبيض والأسود، كانعكاس للحنين إلى هذه اللحظة الفارقة في عمر هؤلاء الشباب المخلصين لأفكارهم وقناعاتهم. لا تخبرنا الرسائل في النهاية شيئاً عن مستقبل هذه الفتاة، أو ما آلت إليه الأمور لتبقى الحكاية معلقة كغيرها من الحكايات الإنسانية المشابهة.

سماهر القاضي في: كما أريد

بين الأعمال الوثائقية الأخرى التي عرضت في منصة الشارقة للأفلام طالعتنا المخرجة الفلسطينية سماهر القاضي بفيلمها المشحون بالغضب “كما أريد”. يشترك فيلم القاضي مع فيلم بايال كاباديا في جانب من الطرح الدرامي الذي يسلط الضوء على هذه الإشكاليات المجتمعية المتعلقة بالمرأة. أثناء إقامتها الطويلة في مصر عايشت سماهر القاضي كثيراً من الأحداث التي أعقبت الثورة المصرية في عام 2011 ، وهي هنا تشير في فيلمها إلى أحد الظواهر التي صاحبت بعض هذه الأحداث وهي ظاهرة التحرش بالنساء المتظاهرات.   

مشهد من “كما أريد” للمخرجة سماهر القاضي (youtube.com)

انطلاقاً من هذه الأحداث تسلط المخرجة الضوء على الثقافة الذكورية السائدة في المجتمعات الشرقية، وتلفت الانتباه إلى الأفكار المغلوطة حول دور المرأة ومكانتها في المجتمع. هذه الثقافة السائدة تدفع بلا شك إلى مزيد من العنف الذي تتعرض له النساء في مجتمعاتنا. يتضمن الفيلم مشاهد لاعتداءات عنيفة، ودفاع مستميت من قبل النساء إزاء ما تعرضن له من أذى خلال التظاهرات التي أعقبت الثورة، ما دفع بعضهن للخروج احتجاجاً وهن متسلحات بأدوات للحماية. هو مشهد قاس بلا شك ودال على الشعور الطاغي بالخطر.

فيما يشبه الاستقصاء تتحرك الكاميرا بين أماكن متفرقة مستطلعة آراء الناس في الشارع حول المرأة فتأتي الردود صادمة. رجال ونساء مثقلون بهذه الأفكار المشوشة، وصبية صغار يتأهبون لخوض غِمار الحياة وهم لا يرون للمرأة مكانا سوى البيت. تتجول الكاميرا في أماكن وتجمعات لأناس بسطاء لا يمتلكون القدرة على التعبير عن أفكارهم، فلا يمكن التعامل مع الأمر إذاً كرؤية سائدة، غير أن هذا الانتقاء العشوائي لآراء الناس في الشارع يبدو مؤشراً لمدى تغول مثل هذه الأفكار العنيفة بين بعض شرائح المجتمع. وهي آراء لها حضور لافت بلا شك، خاصة لدى الشرائح الأكثر فقراً والأقل تعليماً.

يحتوي الفيلم على عدد من المشاهد الدالة والرمزية التي ترسم علامات استفهام كبيرة حول دور المرأة في المجتمعات الشرقية والتحديات التي تواجهها في سبيل نيل أبسط حقوقها، حتى لو كانت هذه الحقوق لها علاقة باختيارها لملابسها، فما بالنا بحقوقها السياسية والاجتماعية.

 لا شك أن التساؤلات الرئيسية في كلا العملين المُشار إليهما هنا قد أعيد طرحها مراراً، فالعنف المجتمعي والفروق الطبقية يكون مردودهما دائماً أكثر حدة وقسوة على النساء، غير أن هناك تساؤلات بعينها لا تختفي، ومن الواجب طرحها بصيغ مختلفة على أمل العثور على إجابة.

ياسر سلطان: عضو نقابة التشكيليين المصرية والجمعية المصرية لنقاد الفن. صدر له: كتاب عن الفنان المصري صبري منصور صادر عن دار أشرف رضا للنشر في القاهرة عام 2015، ودراسة عن أعمال الفنان السوداني صلاح المر صدرت في كتاب عن مركز الشارقة للفنون في الإمارات العربية عام 2017.

خاص قناص

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى