أهوى الهوى كتابمكتبة بورخيس

التناقضات الغرائبية في «المُموّه» لـِ محمود الرحبي | زاهر السالمي

تأتي رواية « المُموِّه » في سبعة وعشرين مشهدا، بورتريهات، تتناوب في الطول والقصر. عموما هي رواية قصيرة، جاءت في ٥٧ صفحة من القطع المتوسطة، أطول هذه الفصول يحتل ست صفحات، وأقصرها لا يزيد عن نصف صفحة. ينداح السرد في بعضها، والآخر يصدمك كومضة مركزة، على لسان سارد وحيد، والذي يبقى على مدار الأحداث بلا اسم.

تدور أحداث الرواية في زمن واحد، لكن في مكانين، متناقضين، وبخفة مدهشة وممسكة بتلابيب القارئ إلى النهاية المفتوحة على الشغف يتنقل السارد بين الأماكن الموزعة على مدن وقرى عُمانية. المكان الأول هو بيت العائلة، حيث الأم ومركزيتها، الأم التقيّة، في مقابل المكان الآخر، الحانة وعوالمها الماجنة!

الأم التي رُسمت ملامحها من ذاكرة جمعية، وتفاصيل حياة في جريانها اليومي لا تشي بأي خصوصية لشخصية تلك الأم، غير أنها تُذَكّر بكل الأمهات في بورتريه عام. وأظن أن المؤلف تعمّد إلى استدعاء تلك الصورة للأم، بما يَحفُّها من نوستالجيا العودة إلى البيت القديم.

هل قلت أن زمن الرواية واحد؟ أظن أن هذا الشعور بالزمن الواحد مخادع. فبيت العائلة ذاك يشدك إلى زمن قَبْلي، يمدّ أطرافه إلى الحاضر. بينما الحانة وموسيقى كؤوسها تأخذك إلى عالم معاصر. التناقض هو بؤرة الرواية، بين مجتمع تقليدي، وآخر يشذُّ عن السياق العام المصطلح عليه. هذا الآخر لا يتمظهر فقط في الحانة والكأس والموسيقى والراقصات في تناقض صارخ مع بيئة تقليدية محافظة، إنما أيضا في حيوات عابرة للأشكال والأجناس تعلن عن نفسها ببهجة ودون هوادة. هنا يدخلك السارد إلى غرائبية تعوم في غير المتوقع، مُشوَّشةٌ أحداثها بانقطاع وتَجْسير في مونتاج يشبه الحلم، متعاطيا مع منطقة فاقعة الحمرة، ومتجذّرة في «التمويه».

هذا التناقض بين عالمين مُتقابلين في شخصية واحدة، يمكن أن يُقرأ كأنما كل عالَم يحاول أن ينفي الآخر، إنما النفي في « المُموِّه » ليس سوى أسلوب أدبي للإثبات، كل حياة تُسلّط الضوء على الحياة النقيضة عبر اختلافها الحاد. المفاجأة تأتي من تدجين هذا العالم الآخر وجعله مشوقا ومغويا، وإن مختلفاً بشكل متطرف، إنما متداخل مع بيت العائلة في صورته التقليدية. هناك سخرية شاسعة في « المُموِّه »، مُضمرة أحيانا، وراقصة في أحيان أخرى، لتنتهي الرواية بهذه الجملة المراوغة:

لقد اشتقت إلى عثمان. اشتقت إلى الجوّ السحريّ للحانات.

رواية « المُموِّه » صدرت حديثا (٢٠٢٣) عن منشورات المتوسط في ميلانو، لِـ محمود الرحبي، وهو قاص وروائي عُماني. صدر له عدد من المجموعات القصصية والروايات، منها: «خريطة الحالم»، «أوراق الغريب»، «فراشات الروحاني». تُرجمت بعض قصصه إلى الإنجليزية، والإسبانية، والروسية، والتركية.

خاص قناص – أهوى الهوى كتاب

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى