يعد الكاتب المسرحي بديع خيري (1893-1966)، علامة فارقة في تاريخ المسرح المصري والعربي، باعتباره واحدا من جيل الرواد الذين أثروا الفن المسرحي بإبداعاتهم المتنوعة. كان بديع خيري مبدعا متفردا في إبداعه، متعدد المواهب، فكان: زجالا وكاتبا مسرحيا وسينمائيا، وممثلا، وملحنا. قاد ثورة في عالم الزجل، حين أصبح يكتب في القصيدة عدة بحور شعرية، بدلا من النظام التقليدي الذي كان سائدا. وكان يريد أن يكون ممثلا، وعندما تم عرضه على لجنة لاختبار المواهب في التمثيل، وكان من بين أعضاء اللجنة زكى طليمات، وجورج أبيض، لكنه رسب في اختبار الآداء الذي أجرته له اللجنة، فأصيب بالإحباط، لكنه لم يستسلم، فقام بتأسيس فرقة، وأطلق عليها اسم (العصري للتمثيل العصري).
لبديع خيري إسهامات غير مسبوقة في تاريخ المسرح المصري منذ نشأته على يد يعقوب صنوع، وعثمان جلال في منتصف القرن التاسع عشر. كما أن هناك صفحات مجهولة في تاريخ بديع خيري عن حياته في السينما، فقد كان أول من كتب للسينما، وكانت جهوده الفنية والأدبية، تتمثل في كتابة القصة والسيناريو والحوار والأغاني. وكان نجاحه في الكتابة للسينما نتيجة طبيعية لإجادته الكتابة المسرحية، خاصة وأن فن السينما قد نشأ في أحضان المسرح، وأن ممثلي المسرح في ذلك الوقت هم ممثلو السينما، وإن جميع الأفلام الأولى التي كتبها بديع خيري، لم يسبقه أحد بالعمل في هذا اللون من الفنون، ومن أفلامه، فيلم “العزيمة” الشهير الذي يعد بداية تاريخ الواقعية في السينما المصرية، وفيلم “انتصار الشباب” أول أفلام فريد الأطرش وشقيقته أسمهان، وفيلم “سلامة في خير” أول أفلام نجيب الريحاني، وكذلك جميع أفلامه التالية قصة وسيناريو وحوار(1) .
ولد بديع عمر خيري في 18 أغسطس عام 1893م بحي المغربلين في قسم الدرب الأحمر بمدينة القاهرة لأب ينحدر من أصول تركية وأم مصرية، وكان دور الأم في حياة بديع خيري أكثر بروزا ووضوحا من دور الأب، لأنها لم ترزق أطفالا غيره، بينما كان لوالده طفلان آخران من زوجة أخرى، لذا أحاطته أمه بعناية خاصة، كانت سببا في خجله الدائم الذي سرعان ما يكتشفه من يطالع المقالات النقدية التي كتبها عنه معاصروه، فكثيرا ما نقرأ فيها عبارات تصف لنا خجله. يقول نجيب الريحاني عنه: “… وبديع.. شخص خجول، ولطالما أضاع هذا الخجل حقوقا، ولكنه لا يأسف على شيء فاته، ولو كان كغيره ممن يحسنون الدعاية لأنفسهم، لأضحى اسمه ملء الأفواه والأسماع، ولتوارت خلفه أسماء كثيرة نراها تحتل مكان الصدارة من غير استحقاق ولا جدارة…” (2).
خليلي ما أدعى النفوس إلى الردى / إذا لم يكن فيها الشعار محددا
قفا نبك آمالا قفا نبك موطنا / قفا نبك أحساب المروءة والندى
وقد أرسله والده إلى أحد الكتاتيب بمحل سكنه فتعلم القراءة والكتابة، ثم ألحقه بمدرسة أم عباس الابتدائية بحي مصر القديمة. وفى هذه المرحلة بدأت موهبته تنبئ عن نفسها، فاظهر تفوقا في اللغة العربية إلى درجة أن معلمه كان يناديه بالأستاذ ، فاستهواه بريق هذا اللقب، ولم يكتف بما حققه في الحياة المدرسية، فنشر، وهو مازال في الثالثة عشر من عمره-عام 1906م-في جريدة “الأفكار الأسبوعية” قصيدة ونشرها تحت اسم مستعار ووقعها “بابن النيل” ومطلعها:
خليلي ما أدعى النفوس إلى الردى / إذا لم يكن فيها الشعار محددا
قفا نبك آمالا قفا نبك موطنا / قفا نبك أحساب المروءة والندى (3)
وبعد أن حصل بديع خيري على شهادة البكالوريا، والتحق بمدرسة المعلمين العليا، وأنهى دراسته بها، وتخرج منها عام 1914م، عمل مدرسا بمدرسة رفاعة الطهطاوي بمدينة طهطا، وظل يتنقل في مهنة التدريس بالمدارس الحرة قبل تمصيرها. وكان مغرما منذ صغره بالاستماع إلى المطربين الكبار في ذلك الوقت أمثال: يوسف المنيلاوى، وعبد الحي حلمي، ومحمد السبع، وسالم العجوز. واستطاع أن يثقف نفسه بنفسه منذ نعومة أظفاره بالثقافة الشعبية فانصهر في بوتقة الطبقة الشعبية التي تعج بها مقاهي الجمالية والبغالة والإمام الشافعي، وكان يجلس بين الناس يستمع إلى ما ينشده شاعر الربابة من قصص وأشعار “متأملا” ما تذخر به هذه المقاهي من ألوان الناس وصور الحياة، فكان يلاحق أدق التفاصيل ويختزنها في ذاكرته، ويقول هو نفسه عن هذه المقاهي :”هي مدرستي الأولى في التأليف حتى لهجات البلاد العربية عرفتها وحفظتها في هذه المقاهي، إذ كان يتردد عليها أبناء تلك البلاد الشقيقة الذين يدرسون أو يتاجرون أو يسيحون في القاهرة”. ثم اجتذبته هواية الشعر، وكثف من دوره في القراءة والاطلاع في مجال الأدب والشعر، فقرأ لقدامى الشعراء والمحدثين وأخذ يقرض الشعر، وعرف طريقه إلى الأندية الأدبية، فكان يلقى شعره بهذه الأندية… ثم تحول إلى كتابة الزجل باعتباره شقيقا للشعر. ويرجع حبه للزجل إلى هوايته للتمثيل، وكان هواة التمثيل في ذلك الوقت يؤلفون المنولوجات، ويلقونها أمام الجماهير. وأول منولوج ألفه في حياته كان بعنوان (إن شاء الله ما حد أتجوز) . وكان هناك في ذلك الوقت، ممثلون يلقون المنولوجات أمام الجماهير، منهم الفنان (حسن فايق)، وعميد المسرح العربي (يوسف وهبي) . وكانت هذه المنولوجات تلقى في الميادين والأندية الرياضية، أو فى الشوارع، وكانت الجماهير تعجب بهذا اللون من المنولوجات، وتتجمهر في الشوارع، وهى تشاهد المنولوجست، وهو يلقى المنولوج، ويقوم بحركات التمثيل الهزلية كما يحدث حاليا. واعتاد بديع التردد على عدد من مسارح القاهرة مثل مسرح: “عماد الدين” و”دار السلام” و”الكلوب المصري” في منطقة الحسين، وكان كل من هذه المسارح، يقوم بعرض تمثيليات شعبية. وقد شغلته هواية التمثيل، فعرف طريقه إلى مسارح سلامة حجازي، ومنيرة المهدية، وعبد الرحمن رشدي، وجورج أبيض.
يقول نجيب الريحاني عنه: “… وبديع.. شخص خجول، ولطالما أضاع هذا الخجل حقوقا، ولكنه لا يأسف على شيء فاته، ولو كان كغيره ممن يحسنون الدعاية لأنفسهم، لأضحى اسمه ملء الأفواه والأسماع، ولتوارت خلفه أسماء كثيرة نراها تحتل مكان الصدارة من غير استحقاق ولا جدارة…”.
وقد عاصر بديع خيري بدايات ازدهار المسرح الكوميدي، حيث بدأت النواة الحقيقية للمسرح الكوميدي في مصر تتشكل وساعدته على ذلك الظروف التي كانت تمر بها مصر أثناء الحرب العالمية الأولى (4). حيث بدأت السلطات الانجليزية بالضغط على الشعب المصري لتضمن تأييده في الحرب العالمية الأولى، سعيا منها لتوفير الإمدادات لجيوشها في الحرب، وكان طبيعيا أن تجنح الميول إلى طلب الترفيه والتسلية، وبوحي تلك الميول والأشواق بدأ المسرح الضاحك، ظل هذه الظروف انتشرت ظاهرة إلقاء المنولوجات وارتفع قدر الزجل عندما دخل المنولوج المسارح المختلفة، وكتب بديع خيري منولوج سنة 1917م للمونولوجست فاطمة قدري، وقدر له الذيوع والانتشار، وكان مطلعه:
ليلة العيد كنت مخدّر….. في ميدان عابدين ماشى اتمختر (5)
وبهذا المنولوج دخل بديع خيري إلى عالم المسرح من أوسع أبوابه، ووقتها تقدم بديع خيري ليلتحق كممثل بفرقة جورج أبيض، فقوبل طلبه بالرفض، فقرر هو ومجموعة من أصدقائه من المهتمين بالمسرح، ومنهم: حسين رحمي، وتوفيق المردنلى، وجورج شفتشى، وأحمد عسكر تأسيس ناديا سموه “نادي التمثيل العصري” ، وهدفه النهوض بالمسرح الكوميدي عن طريق خلق المسرحية المصرية باللغة العامية، وتحقيق رسالتها، وإحياء فن التمثيل العربي(6). واقترح أعضاء النادي على بديع خيري أن يؤلف لهم المسرحيات، وبالفعل تولى بديع خيري مهمة التأليف، على الرغم من هوايته للتمثيل، فهو الوحيد في المجموعة الذي يجيد هاتين الموهبتين، فكتب أولى مسرحياته بعنوان “أما حتة ورطة”، وكانت سببا في اللقاء التاريخي بينه، وبين عميد المسرح العربي نجيب الريحاني ، فكتب أولى مسرحياته لنجيب الريحاني مطلقا عليها اسم “على كيفك”(7)، ثم كتب له مسرحية “كله من ده” ، ثم كتب له مسرحية استعراضية أخرى هي “مصر 1918-1920″، وبداية من الاستعراض الثالث انضم سيد درويش لفرقة الريحاني، ليكتمل ثلاثي الإبداع “سيد درويش وبديع والريحاني”. ونجحت المسرحيات نجاحا هائلا وأخذ الريحاني يطمئن شيئا فشيئا على مصير فرقته. ويعتبر تعاون بديع خيري مع نجيب الريحاني البداية الحقيقية لميلاد وتطور المسرح الكوميدي، وكذلك تأثير بديع في بلورة شخصية ومسرح الريحاني وسطوع نجم المسرح الكوميدي والشخصية المصرية الكوميدية، وتأثيره على الكوميديا العربية. واستطاع بديع والريحاني في ذلك الوقت أن يقدما عددا من المسرحيات الواقعية الهادفة التي تنتقد العيوب الاجتماعية بجرأة شديدة، تلك الجرأة التي ميزت مسرح الريحاني منذ ذلك الوقت المبكر مع مطلع الثلاثينيات. وهكذا فان النجاح لمسرح الريحاني كان بسبب أن كلا من الريحاني وبديع يؤمنان بالواقعية والاستناد إلى البيئة الواقعية، والتعبير عنها بالقدر الذي تسمح به ثقافتهما، والظروف السياسية والاجتماعية في عصرهما والإيمان بالمسرح الكوميدي الاجتماعي. وقد بلغ ما قدمه بديع بالاشتراك مع الريحاني نحو 122 مسرحية وأوبريتا استعراضيا، منها على سبيل المثال: المحظوظ، وحسن ومرقص وكوهين، والفلوس، وأنا وأنت، ولو كنت ملك، و30 يوم في السجن، ومجلس الأنس، والدنيا على كف عفريت، والستات ما يعرفوش يكذبوا، ويا ما كان في نفسي، وقسمتي، والدلوعة…الخ. وقد لعبت هذه النماذج المسرحية المتطورة دورا هاما في إرساء قواعد المسرح الكوميدي الاجتماعي سواء على المستوى المحلى في مصر أو في العالم العربي. وعندما غادر الريحاني الحياة في عام 1949م، ظل بديع يواصل إدارة الفرقة وتقديم عروضه وتراثه الفني، وتولى ابنه الأكبر “عادل بديع خيري” بطولة الفرقة حتى وفاته في عام 1963م، ولم يتجاوز عمره الثانية والثلاثين.
المراجع:
1- د. ليلى نسيم أبو سيف: نجيب الريحاني وتطور الكوميديا في مصر، دار المعارف،ص22.
2-نجوى إبراهيم عانوس: البناء الدرامي عند بديع خيري، رسالة ماجستير (عير منشورة-2000م)، كلية الآداب/جامعة الزقازيق، ص3.
3-المرجع السابق، ص4.
4- أحمد رشدي صالح: دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي، سلسلة تاريخ المصريين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص25.
5-نجوى إبراهيم عانوس، سبق ذكره، ص8.
6- صالح جودت: ملوك وصعاليك، مكتبة نهضة مصر، ص105
7-قاموس الأدب العربي الحديث، إعداد د. حمدي السكوت، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص147.