لعل عامنا المنصرم كان من الأعوام الأكثر صعوبة تقريبًا، لكأن المآسي فيه تتمم ما بدأ به الإنسان من تصدّعٍ نفسي إثر الكارثة الكونية التي شهدتها الأرض من مشرق شمسها إلى مغربها، وكان التحدي الحقيقي فيها هو أن يظل القارئ منزويًا قليلًا بكثير من الكتب عما يلاحق الروح من تعبٍ؛ جراء متابعة الكوارث التي لن تنتهي. فقد شهد عامنا ولادة أعمال روائية في بلدنا عُمان، البداية كانت مع الروائية جوخة الحارثي في روايتها “حرير الغزالة” الصادرة عن دار الآداب ببيروت. كان قراء كثيرون قد رفعوا سقف توقعاتهم الجمالية في أن تقدم لهم جوخة الحارثي رواية مختلفة عما ألفوه من تجربتها في رواياتها الثلاث السابقة؛ خاصة وأن في تجربتها الرابعة كانوا قد استحضروا أجواء روايتي “سيدات القمر” و “نارنجة”.
إيمانًا بأن المقارنة بين تجربة سابقة وأخرى لاحقة لا تنصف التجربة الأخيرة، فقط كان التوقع في غير محله، لكنه بدا أمراً طبيعيًا جدًّا ومقبولًا كذلك، وأكاد أجزم أن كثيرًاً من روائي العالم ما أن يستقر بهم مقام الكتابة في موضوع رئيس؛ نادراً ما يكونوا قادرين على مغادرته حتى يشبعوه كتابة، في العموم هذا ليس نقصًا ولا عيبًا، فلتكن أجواء التجربة معادة ومكررة في أعمال أي من الكتّاب، إلا أنه من الجيد التفكير باستبدال الأداة الفنية في الكتابة، أساليب الحكي، باختصار التفكير في السؤال الآتي:- كيف أقدِّم مادتي وموضوعي وشخوصي؟ هنا الرهان الحقيقي للنص الروائي، النجاح ليس في الموضوع ولا في العناصر الفنية، إنما في الإجابة على سؤال: كيف يتم تقديم كل ذلك؟ وهنا مكمن الرهان الحقيقي في أي تجربة روائية.
من بعد “حرير الغزالة ” لجوخة الحارثي أوجدتنا الأيام في رواية “دلشاد” لبشرى خلفان، الصادرة في الكويت عن منشورات تكوين، وهي أيضاً حفر في الموضوع ذاته تقريبًا الذي ارتكزت عليه روايتها السابقة، وإن بدت تحاول إقناع قراءها أننا إزاء موضوع مختلف هذه المرة، أقول هذا إن تذكّر أحدٌ رواية “الباغ” فإنه لابد أن يجد شبهًا ليس قليلًا أيضًا، وفي أكثر من موضوع كذلك، ليست مسقط وحدها ما قد يجمع العملين، إنما تداخلات البشر في عُمان، ما يمكن أن أسمه بالإثنية العرقيّة، مع ذلك تغيرت الأداة الفنية بين العملين إلى حد واضح، لعل من الممكن الإشارة بالقول إن الحكي وقد تغيّر وهذا مهم، ويحسب لتجربتها في رواية” دلشاد”، إذ الراوي العليم في “الباغ” تبدل وصار في ” دلشاد” رواة أصوات/رواة شخصيات، في حدود ثلاثة عشر راو تقريبا.
طالعنا زهران القاسمي بروايته الرابعة “تغريبة القافر” الصادرة في أكتوبر عن دار مسكلياني الإماراتية ورشم التونسية، رواية يواصل فيها زهران القاسمي مواضيع المكان والإنسان والعلاقة بينهما، لعل ما ميزها هو أنها قدمت للقارئ موضوعا ملفتًا، إلا أنها لم تسلم من بعض الإشكالات الفنية، لعل أبرزها عدم القدرة على بناء شخصية يمكنها أن تبقى راسخة في ذهن القارئ، أو متقبلة فنياً على أقل تقدير، هذه النتيجة قد يصل إليها القارئ إن عمد إلى تذكّر صور بعض الشخصيات الراسخة في الذاكرة من بعض الروايات المشتغلة على تقديم شخصية؛ يمكن وصفها بالأسطورية إلى حدٍّ ما.
ومن أبرز علامات تقدم الرواية في عُمان اليوم هو أن يطرق بابها الكاتب محمد العجمي، وقد عرفه القراء كاتبًا في مجال الفكر من خلال كتابيه ” أوراق الوعي” و” داخل العقل النقدي”. قدم محمد روايته الأولى “سر الموريسكي” الصادرة عن دار عرب في لندن، والرواية الآن في القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب. أبرز ما يمكن ملاحظته في موضوعها قدرة كاتبها على تجاوز ما تبدأ به في العادة مواضيع الرواية الأولى لدى الروائيين الشباب، فقد ذهب إلى موضوع فكري تقريبًا، تاريخي إلى حد ما، موضوع معرفي في علاقتنا بالآخر، في التداخلات البشرية رمزاً ومعنى وصورًا بشرية تمثلها العديد من الشخصيات، أهمهم الموريسكي يوسف بن مأمون بن قاسم الحجري.
فرحٌ شخصيًاً بالمنجز الروائي في بلدي عُمان، فرحي أنتظره مضاعفًا بالمغامرة في أن يقدم كاتب/ة رواية غير مألوفة، تجعلنا نؤمن بقيمة الأدب وهو يتأمل الذوات الحالمة بمستقبل مختلف.
خاص مجلة قَنّآص
حمود الشكيلي؛ ناقد عُماني، صدر له: “تحليل خطاب الراوي- في نماذج من الرواية العُمانية”؛ 2013. وكتاب من إعداده وتقديمه، يحتوي على قصص كتبها تلامذة صفه، حمل عنوان “شعلة حديقة الكلمات”؛ 2015.