اقتلاع المكان وهول الفقد ولوعة الاغتراب كلها عناصر مكونة للرواية الفلسطينية
المكان ساطع كشمس رجال في الشمس وعائد إلى حيفا ومخيم جباليا والشاطئ في روايات عسقلاني ومحجز ونصار والمجموعة 778 لتوفيق فياض
من الملفت للنظر وللوهلة الأولى عند قراءة مجموعة لا بأس بها من الروايات والقصص الفلسطينية بداية من إميل حبيبي وكنفاني وجبرا ويخلف وشقير وعسقلاني وكثيرين لا يمكن حصرهم، نلاحظ أن كثافة الحضور للمكان في السرد الفلسطيني سواء بوصفه وتفكيكه أو باستعادته تخيلياً كان الثيمة الأساس والمحيط الذي ستنتظم داخله كل الأحداث والتفاصيل. سيقول قائل وما الغريب في ذلك؛ فالمكان عنصر أساس في أي رواية؟ نعم هو كذلك، ولكن استحضاره هنا في الرواية الفلسطينية كبطل محوري وشخصية نامية ومتحركة وهو الذي تبدأ منه وتعود إليه كل الخيوط والدراما. إنه الوطن المفقود والذي يستعيده الفلسطيني في روايته ويعض عليه بالنواجذ. نعم لم نجد في الرواية الفلسطينية هذا التنوع في الموضوعات، فقد عالجت أغلب الروايات إلا ما ندر القضايا الواقعية واليومية المتاحة للمشكلة الفلسطينية: اللجوء والمخيم والسفر والمعابر والنكبة والفدائيين والشهداء، وحيث تدور كل الاحداث من المكان أو عائدة إلى المكان. وحيث يعيش الناس في الأمكنة فإن المكان يعيش في الفلسطيني حيث لا مكان له أو بالأحرى لا سلطة له على أي مكان سواء كان الراوي واقعاً تحت سلطة الاحتلال أو تحت سلطات بلاد أخرى ليست بلاده، ولذا يبدو إصرار الكاتب الفلسطيني على استحضار المكان وكأنه يستعيد المفقود الجغرافي بالروائي. يستعيد الوطن بالرواية عن الوطن وكأنه الجندي وكلماته الرصاصات.
اقتلاع المكان وهول الفقد ولوعة الاغتراب كانت كلها عناصر مكونة للرواية الفلسطينية. المكان ساطع كشمس رجال في الشمس وعائد إلى حيفا ومخيم جباليا والشاطئ في روايات عسقلاني ومحجز ونصار والمجموعة 778 لتوفيق فياض.
الجيل الجديد من كتاب الرواية الفلسطينية والغزية حصراً راكموا في كتاباتهم ذات الهاجس المكاني حول المكان والذي أصبح أكثر ضيقاً وتركيزاً، حيث صارت غزة المكان سلباُ أو إيجاباً هي البداية والنهاية لدراما الرواية. طلال أبو شاويش في روايته “إيربن هاوس” يبدأ رحلة الشخصية البطل من شوارع غزة التي يذرعها متراً متراً وحارة حارة وكأنه في حالة وداع مرير مع المكان وهو يراكم فكرته الحالمة عن الهجرة وتنتهي الرواية بقرار العودة الصعب مرة أخرى إلى غزة رغم جراحها وآلامها. هاني السالمي في رواياته الأخيرة “هذا الرصاص أحبه” و“المسيحي الأخير” و“اليهودي الأعرج” يعض على أصابعه بندم الفقد والقهر وهو يرصد التحولات التي تحدث في البنية النفسية والاجتماعية لسكان المكان “غزة” من حيث انتقالهم من الحالة المدنية الوديعة إلى حالة الصراع اليومي مع الاحتلال والعدوان وتأثير الحصار وما ينجم عنه من تغيرات في الشعور برفض المكان أو كراهيته وظهور مهن غريبة لها علاقة بالأسلحة والمتفجرات وخلافه ونمو شخصيات تظهر الحدة والعنف والذكورية في تعاملاتها، علاوة على هجرات دائمة وتناقص في عدد المواطنين المسيحيين والنبش عن بقايا جذور أفراد يهود عاشوا كجواسيس. رواية “أبقي بعيدة” للكاتبة يسرا الخطيب ترصد كذلك تحولات المكان وكيف تنعكس بالضرورة على سلوك الشخصيتين الرئيسيتين حيث تجمعهما علاقة الحب المشتعلة، ولكن تخرج إحداهما إلى السجن والأخرى إلى الغربة وحين تستعيد الكاتبة المكان لهما وتستعيدهما معاً، فإنهما لا يعودان إلى الحب، بل إلى المفارقة؛ فتغير تفاصيل المكان وتحولاته بالضرورة كانت المؤثر الذي يغير من توجهات الأفراد فيه. وهكذا يقف المكان الفلسطيني كعلامة فارقة ودرامية ضمن الكتابات الفلسطينية وخصوصاً في غزة، حيث تمثل لكتاب الرواية فيها الجدار الأخير الذي يسندونه بأقلامهم الغضة، وهو على وشك الانهيار مثل أرواحهم القلقة والمرتبكة تماماً كحالة المكان.
وحيث أن المكان المفقود أو المستعاد بالنوستالجيا لا يتيح للكاتب الخروج منه أو الانفكاك عنه. أيضاً لم تتحرك أغلب الروايات باتجاه الفانتازيا وكيف لا والراوي يعتبر أن قصته ومأساته هي الفانتازيا بعينها وبل وربما الرواية الأكثر سريالية في العالم، فقد حاصر المكان الراوي الفلسطيني فلم تتعرض الرواية إلى القضايا الانسانية المجردة عن المشكلة الفلسطينية الا فيما ندر مثل عصافير الحذر لإبراهيم نصر الله وموت بائع العصافير ليحيى رباح وبعض الروايات لسحر خليفة والتي عالجت قضايا نسوية مجاورة للحالة الفلسطينية. وحتى في هذه القصص القصيرة لامست الوطن الفلسطيني ملامسة خفيفة ولم تتجاهله بالكامل.
ملاحظة أخرى لها علاقة بالأمر وهي مترابطة ونتيجة محورية للمكان وسطوته على ذهنية الكاتب، حيث نلاحظ أن السرد الفلسطيني قد أعطى مساحات واسعة للجمل القصيرة حتى تكاد أن تكون هي العلامة الوحيدة في كتابات كتاب كثيرين. فهل كان للصوت الفلسطيني الغائب في الواقع معادل معاكس في الكتابة أدى إلى تلك المساحات اللاهثة في السرد؟ وهل كانت الهرولة في الجمل القصيرة وكأن الكاتب يلاحق مصيره ويلاحق شتاته وتشرده في المنافي معادلاً لشعوره بالخروج من المكان المستقر ووجوده الدائم في أزقة القلق والمؤقت والمتنقل؟ هل كان لفقد المكان الجغرافي كل هذا التأثير على السرد الفلسطيني فجعله أسيراً لمكان الرواية وجملها القصيرة ومساحات الحوار الواسعة؟ هل كان لفقد المكان الجغرافي ذلك القيد الذي حاصر الرواية فلم تخرج إلى الانساني العام والفانتازيا والبوح الشخصي؟
مؤخراً يمكن ملاحظة روايات فانتازية مثل حرب الكلب الثانية لنصر الله وبعض المحاولات الشابة للكتابة في مجال الخيال العلمي وروايات اليافعين وحتى الرواية الإباحية. فهل خرجت الرواية الفلسطينية من أسر المكان وانطلقت تاركة ذلك الإرث المر خلفها أم ما زلنا بعد لم نتحرر من وجع الفقد وحتى بعدما وصلنا إلى جزء من المكان بعد أوسلو والسلطة وسنوات الانقسام؟
خاص مجلة قنآص
ناصر رباح؛ أديب فلسطيني. صدر له: الركض خلف غزال ميت؛ شعر. واحد من لا أحد؛ شعر. عابرون بثياب خفيفة؛ شعر. ماء عطش لماء؛ شعر. منذ ساعة تقريباً؛ رواية. مرثية لطائر الحناء؛ شعر.