تنشر مجلة قنآص سلسلة مقالات أسبوعية خلال شهر رمضان، تُشَرّح فيها الدراما المصرية التي تصل في هذا الشهر إلى ذروتها السنوية. يكتب السلسلة السينارست والناقد الفني زين العابدين خيري.
للعام الثالث على التوالي تشهد خريطة المسلسلات الدرامية المصرية في رمضان تواجداً قوياً للمسلسلات التي يمكن أن نطلق عليها اسم دراما المواجهة أو دراما التعبئة والحرب على الإرهاب. حيث يشهد هذا العام عرض ثلاثة من هذه الأعمال، وهي الجزء الثالث من مسلسل «الاختيار»، وهو عن التفاصيل السرية للعام الذي حكمت فيه جماعة الإخوان المسلمون مصر. ويتناول الآخران العالم السري للجماعات الإرهابية وبالأخص «داعش» أو «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وهما «العائدون» و«بطلوع الروح».
وجهة النظر الرسمية
يمكن أن نؤكد بوضوح أن هذه النوعية من المسلسلات تعكس وجهة النظر الرسمية للدولة المصرية سواء لإيضاح الصورة بخصوص حقيقة ما جرى منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وحتى ثورة الثلاثين من يونيه 2013، وما أحاط بهما وتلاهما من أحداث وتداعيات أثرت وما زالت تؤثر على حياة المصريين، أو لزيادة وعي المصريين بخطورة ممارسات الجماعات الإرهابية التي تنتشر في الدول المجاورة وكيفية مواجهة الدولة لهذه الجماعات أمنيا وفكريا، بهدف التعبئة ضد هذه الجماعات، التي تشن منذ العام 2013 هجمات إرهابية عديدة ضد الدولة المصرية راح ضحيتها مئات الشهداء.
ثلاثة × ثلاثة
تخوض دراما المواجهة حربها على الإرهاب هذا العام بثلاثة طرق مختلفة؛ فالجزء الثالث من مسلسل «الاختيار 3: القرار»، الذي كتبه هاني سرحان، وأخرجه بيتر ميمي، يحكي بشكل توثيقي التفاصيل السرية للعام الذي حكمت فيه جماعة الإخوان المسلمون مصر، من خلال تسليط الضوء على أهم الأحداث التي شهدها ذلك العام الطويل الصعب وكيف تفاعل معها كل الأطراف، ومتناولاً بالتجسيد الشخصيات الرئيسية التي شاركت في تلك الأحداث، بمن فيهم رئيس الجمهورية الحالي الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي كان وزيراً للدفاع وقت الأحداث (يجسد شخصيته الفنان ياسر جلال)، والرئيس الأسبق الراحل محمد مرسي (يجسد شخصيته الفنان صبري فواز)، ومرشد جماعة الإخوان المسلمين السابق محمد بديع (يجسد شخصيته الفنان عبد العزيز مخيون)، ونائبه الأول خيرت الشاطر (يجسد شخصيته الفنان خالد الصاوي)، وغيرهم، بجانب الخط الدرامي الرئيسي الذي يتناول الأحداث من خلال قصص ثلاثة ضباط مصريين في ثلاث جهات سيادية وأمنية مختلفة وتأثيرات الأحداث على حياتهم، ويجسدهم على الشاشة ثلاثة نجوم وهم: أحمد السقا وأحمد عز وكريم عبد العزيز.
لا يكتفي المسلسل بتوثيق الأحداث دراميا، بل يستعين بمجموعة من التسجيلات التوثيقية التي تُذاع للمرة الأولى بغرض التأكيد على أن ما يعرضه المسلسل ليس مجرد وجهة نظر طرف من أطراف الأزمة وإنما هي الحقيقة التي يجب على الجميع أن يعرفها، ربما في مواجهة الآلة الإعلامية لجماعة الإخوان المسلمين، والتي تقدم وجهة نظر الجماعة في الأحداث بشكل مغاير كلية.
صراع الدوكيودراما في الاختيار
اختار صناع مسلسل «الاختيار» منذ جزئه الأول اللجوء لأسلوب الدوكيودراما (Docudrama) أو الدراما الوثائقية في تنفيذ المسلسل، نظراً للظروف الخاصة التي يتم إنتاجه بسببها، كما أوضحنا سلفا، والدراما الوثائقية هي نوع من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، والأفلام الروائية، والمسرحيات، والمسلسلات، التي تقوم بإعادة تمثيل الأحداث الحقيقية التي سبق وأن حدثت. وتتميز الدراما الوثائقية بأنها تسرد الحقائق التاريخية المعروفة للحدث المعنيّ، مع السماح بدرجة أكبر أو أقل بعدم الاستصحاب بالتفاصيل الطرفية، بسبب وجود ثغرات في السجل التاريخي. ويمكن أن يشمل الحوار الكلمات الفعلية للأشخاص الواقعيين، كما هو مسجل في الوثائق التاريخية. ويختار منتجو الدراما الوثائقية أحياناً تصوير أحداثهم التي أعيد بناؤها في المواقع الفعلية التي وقعت فيها الأحداث التاريخية.
وفي حالة «الاختيار 3» تصل الوثائقية إلى أبعد حدودها، وأتخيل مقدار الصعوبة التي واجهها السيناريست هاني سرحان في كتابة السيناريو والحوار، فالأمر في غاية الحساسية، وهو أصعب شيء يمكن أن يمر به كاتب وهو يعرف أن خياله وإبداعه وحدهما غير كافيين ليمر العمل، ليس لأنه سيمر على الرقابة فقط كغيره من الأعمال، وإنما لابد وأن يكون السيناريو والحوار قد مر على كل الأجهزة المعنية لمراجعته على أعلى المستويات، وكل كلمة تم وضعها بميزان دقيق، فالأمر ليس فقط يتعلق بتاريخ حديث وأحداث مازالت ساخنة بل يتعلق بجمل حوارية على لسان رئيس جمهورية حالٍ، وآخر سابق، ويتعلق بقضايا مازال بعضها ينظر أمام المحاكم حتى الآن، وكل ذلك كفيل بأن يأخذ بسهولة من قيمة العمل الدرامية لصالح القيمة الوثائقية، وهو ما حاول سرحان تجنبه وكأنه يسير على جمر ملتهب ومطلوب منه أن ينجو. فحاول قدر استطاعته أن يفرد الخطوط الإنسانية للمسلسل التي تمثلها الحياة الشخصية للأبطال الثلاثة وأسرهم (عز وعبد العزيز والسقا)، بجانب خطوط أخرى حاول أن تكون ثرية وممتدة، مثل خط الصيدلي وزوجته المسيحيين الراغبين في الهجرة، وخط موظف الشهر العقاري وزملائه، وكلها ربما تكون ساهمت بقدر ما في تخفيف حالة الوثائقية لصالح الدراما.
صراع الدراما والتوثيق انتقل بالتالي من السيناريو إلى الإخراج، والمخرج بيتر ميمي هو الوحيد بين صناع العمل المستمر منذ جزئه الأول، وبالتالي كان الأجدر بإخراج هذا الجزء الأكثر حساسية، وهو ما حاول جاهداً أن يخرج به إلى بر الأمان، فهو يصوّر شخصية رئيس الجمهورية مع الوضع في الاعتبار الحساسية الشديدة المتعلقة بالأمر، ومع الوضع في الاعتبار أيضاً أن هناك تجربة سابقة لم يكتب لها النجاح بهذا الخصوص وهي تجربة فيلم «سري للغاية» الذي لم يكتمل تنفيذه وبالتالي لم يصل إلى مرحلة العرض.
وعلى العكس من كل ذلك الصراع في الأحداث كانت موسيقى المسلسل التي وضعها خالد الكمار تعزف في سماء وحدها، ليس لأنها بعيدة أو لا تعبر عن ذلك الصراع المتراوح ما بين الإنسانية والأحداث الملتهبة، وإنما لأنه اختار التيمة الرئيسية لموسيقاه مليئة بالشجن، وكأنه أراد أن يعزف على أوتار الذاكرة الشخصية لكل مشاهد عاصر هذه الأحداث وبالتأكيد مازال يتذكر صعوبتها.
مدير التصوير حسين عسر كان هو الآخر أحد أبطال العمل بامتياز وخصوصاً في المشاهد التي تطلبت إعادة تصوير أحداث حقيقية كأحداث التفجيرات والاقتحامات والمظاهرات الحاشدة وغيرها.
في قلب داعش
العملان الآخران اللذان تضمهما دراما المواجهة يخترقان بطريقتين مختلفتين العالم السري للتنظيمات الإرهابية وبالأخص تنظيم «داعش» أو «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام». ويعرضان على مدار الشهر بواقع 15 حلقة لكل منهما، وهما «العائدون» الذي يتم عرضه في النصف الأول من رمضان، من تأليف باهر دويدار وإخراج أحمد جلال، و«بطلوع الروح» في النصف الثاني من الشهر، وهو من ﺗﺄﻟﻴﻒ محمد هشام عبية ومن إخراج كاملة أبو ذكري.
مسلسل «االعائدون» يدور في إطار مخابراتي لا يخلو من التشويق والإثارة، حول فكرة متخيلة بحسب تأكيد صناعه الذين كتبوا في صدر تتر بداية المسلسل: «قصة هذا المسلسل مستوحاة من واقع نعيشه بأحداث وشخصيات من وحي خيال المؤلف، لذلك فأي تشابه بين أحداث أو شخصيات المسلسل والواقع هو محض صدفة، ولذلك وجب التنويه». أما القصة المتخيلة فهي للصراع بين المخابرات المصرية وتنظيم داعش الذي قام بقتل عميل مخابراتي مصري تم زرعه لفترة طويلة في صفوفه، وكان ينقل أخبار التنظيم للمخابرات المصرية، ومحاولات المخابرات للتصدي مبكراً لعمليات التنظيمات الإرهابية المختلفة التي يتم تخطيطها بالخارج والتي يحاولون تنفيذها في مصر، بجانب اختراق القنوات المعادية لمصر بالخارج. ويقوم بالبطولة أمير كرارة وأمينة خليل ومحمد عادل وغيرهم.
أما العمل الثاني الذي يُعرض في النصف الثاني من الشهر وهو «بطلوع الروح»، ويضم نخبة من أبرز نجوم التمثيل في مصر والعالم العربي، ومنهم إلهام شاهين ومنة شلبي وأحمد السعدني وأحمد داوود والممثل والمذيع اللبناني الشهير عادل كرم. وبحسب ما تم تداوله من أخبار عن المسلسل فإن أحداثه تدور حول امرأة تجد نفسها داخل معسكر لتنظيم داعش، وتبدأ التفكير في الهرب والنجاة بروحها، وسط محاولات قيادات التنظيم للسيطرة عليها. ويضم المسلسل ممثلات من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والمغرب والأردن، وروسيا وأوكرانيا وبولندا”.
تكنيك التشويق في “العائدون”
وعلى العكس من الوثائقية الشديدة التي غلّفت «الاختيار 3» المكبل بأحداث وأسماء حقيقية قللت كثيراً من مساحة الحرية الممنوحة لصُنّاعه في البعد الدرامي، كان مسلسل «العائدون» متحرراً تماماً من كل هذه القيود باستثناء البعد الأمني والقومي الطبيعي في هذه النوعية من أعمال دراما المخابرات.
كتب مسلسل «العائدون» السيناريست باهر دويدار، مع ورشة كتابة ضمت كريم الدليل وعمار صبري، ودويدار هو الذي كتب من قبل الجزء الأول من مسلسل الاختيار، وكتب قبله عدة أجزاء من مسلسل «كلبش» مع البطل نفسه أمير كرارة عن ضابط شرطة، كما كتب العام الماضي مسلسل «هجمة مرتدة» وهو يدور في عالم «العائدون» نفسه وهو عالم المخابرات والصراع مع داعش والجماعات الإرهابية في المنطقة العربية، وكذلك الدور الذي تلعبه بعض الأنظمة والمخابرات الغربية في هذا الصراع. وبالتالي فخبرة باهر دويدار في كتابة هذا النوع من الأعمال الدرامية كبيرة جدا. ولكن على الرغم من ذلك فإنني أرى أن الجانب المخابراتي أفلت من بين يديه لصالح الدراما التشويقية التقليدية، ربما تأثراً بأعمال هوليودية مثل «مهمة مستحيلة» أو «جيمس بوند»، التي يكون فيها الأساس مخابراتي ولكن الأحداث تكون خيالية، وفي رأيي أن ذلك لم يكن موفقاً في ظل وجود عشرات القصص الحقيقية في إطار هذا الصراع المخابراتي والتي كان يمكن صهرها في قصة تستدعي من ماضي الدراما المصرية المخابراتية الناجحة كـ«رأفت الهجان» بأجزائه و«دموع في عيون وقحة»، حتى لو لم يكن الصراع هذه المرة مع العدو الإسرائيلي كما في الأعمال المذكورة.
الإخراج للمخرج أحمد نادر جلال كان أكثر اتساقاً مع نوعية الدراما التي يتبناها السيناريو فقدم أسلوباً يميل إلى الحركة والصورة المتوترة بإضاءة خافتة في كثير من الأحيان صنعتها كاميرا مدير التصوير هيثم حسني، بينما كانت الموسيقى للخبير المتمرس تامر كروان خير مصاحب لخلفية الأحداث التشويقية.
خاص مجلة قنآص
زين العابدين خيري؛ صحفي وناقد فني وسيناريست مصري، رئيس تحرير جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية. بدأ العمل الصحفي في مؤسسة الأهرام المصرية منذ ثلاثين عاما، ويكتب في النقد الفني في عدد من المجلات والصحف المصرية والعربية، عضو في جمعية نقاد السينما المصريين، والجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، وعضو في لجنة اختيار الفيلم المصري المشارك في مسابقة الأوسكار، كما يكتب قصص الأطفال المصورة، بجانب كتابة السيناريو والحوار لعدد من الأعمال الفنية. (الصورة: /facebook.com/ze.khairy)