أهوى الهوى كتابمكتبة بورخيس

رواية «رواه الترمذي.. صحيفة بني العباس» لـِ أدهم العبودي | سماح ممدوح

رواية «رواه الترمذي: صحيفة بني العباس»، تأليف أدهم العبودي، مِن اصدارات دار المصري للنشر والتوزيع. الرواية المُدرجة في القائمة الطويلة لجائزة كتارا 2023.

لا تزال الرواية التاريخية تنال الحظوة لدى القارئ العربي خاصة وإن كان صداها يتردد حتى اليوم فيما يُعنى بالقضايا الفكرية. كما في الرواية محل التناول.

على غير عادة الروايات التاريخية والتي تكون غالباً طويلة إلا أن رواية « رواه الترمذي؛ صحيفة بني العباس » تُعد قصيرة نسبيا. تتناول الرواية باستفاضة لتكون الحدث المحوري فيها، حقبة مهمة في تاريخ الخلافة العباسية وهي موت الخليفة المأمون وتولية الخليفة أبو العباس بن هارون الرشيد، والمُلقب فيما بعد بالمعتصم. وهنا أيضا تسلط الرواية الضوء بما يكفى على محنة خلق القرآن، الخلاف التاريخي الفكري المعروف والذى وصل أوجه فى عهد الخليفتين.

وباستفاضة أقل ليكون المحور الثاني من الرواية وهو حياة الإمام محمد أبو عيسى الترمذي. وبلمحة سريعة سنري الحروب الخارجية بين العرب والفرس والروم. وسنعرّج على محنة فكرية أخرى خُلقت فى أوروبا تتعلق بما يعرف بحرب الأيقونات.

مضمون الرواية ربما يبتعد بعض الشيء عن عنوانها الخادع. فالقارئ وللوهلة الأولى سيظن أن الإمام الترمذي الفقيه الذي تتلمذ على يد البخاري، سيكون محور العمل. بالفعل تناولت الرواية بعضاً من سيرته لكن ليست الناحية العلمية منها، وجُل السرد تحدّث عن وضع الخلافة في عهد المعتصم.

فصول رواية رواه الترمذي.. صحيفة بني العباس

 تسير الرواية في خطين سرديين. خط يسترجع سيرة مَن سنعرف أنه محمد الترمذي، والذى ستُفتتح الرواية بمشهد موته وتنفيذ صاحب عُمره جعفر بن أبي الحافظ لوصيته، ومنه سنرجع لسيرة الجزء الأول مِن حياته. ثم الخط الآخر ربما هو المحور الأكبر من الرواية وهو سيرة تولي المعتصم الخلافة وما حدث أثناء خلافته من حروب خارجية وتمردات داخلية، ومعضلات فكرية. يسير الخطّان متوازيان حتى يلتقيا عند نقطة محددة، قرية عمورية. قُسّمت الرواية إلى فصول، كل فصل يحكي عن إنسان الحدث.

أما الحدث الافتتاحي لما رواه الترمذي كان عن موت الإمام الترمذي وتنفيذ وصيته الغريبة، ألا وهي تكفينه بالرقعة الجلدية التي لا يعرف عما تحتويه أي إنسان حيّ سواه والقسّ الذي توفي منذ سنين خلت، لكننا سنعرف سرها في النهاية.

بحسب الرواية؛ يولد محمد أبو عيسى الترمذي في قرية بوغ. قرية مسالمة هانئة لا معرفة لأهلها إلا بالزراعة والصلاة. تجتاحهم ذات يوم، كما فعلوا في قرى أخرى وسمع أهل بوغ أهوال ما فعلوه، فرقة من جيش الروم المرابط على حدودها لتعيث فى القرية فساداً، قتل وحرق واغتصاب لأهلها، يوم قيامة بوغ. حتى يكونوا الرسالة التى يوجهها الغازي للخليفة العباسي. بعد حرق القرية يُطرد من نجا من أهلها ومن بينهم أبوعيسى ومحمد ابنه الرضيع حينها، يخرجون إلى طشقند عن طريق نهر جيحون. يكبر الفتى بين كتاتيب العلم وحفظ القرآن، يُعدُّه أبوه ليكون فقيها وعالماً. يتتلمذ في طشقند على يد الامام اسحاق الذي يجد فيه نجابة لا مثيل لها، فيكتفى من تعليمه ويرسله ليكمل العلم على يد الإمام البخاري فى نيسابور. وهناك سيقع الحدث الذى سيغيّر حياته وأبيه إلى الأبد.

فى اليوم الأول الذى حطّ فيه في نيسابور وأثناء انتظاره للبخاري، هبت عاصفة عاتية فرقت الجمع. وأثناء هروب الصبي محمد ابن التسعة أعوام مع أبيه ليحتميا في الخان الذي أقاما فيه، فرقتهما العاصفة.

اختطف النخّاس الصبي وباعه في السوق، وبعدما رأى الهول بالتأكيد على يد النخّاس، اشتراه كبير قساوسة عمورية. ولمّا رأى فيه من علم ونباهة ولّاه أرفع المناصب والخزائن في قصره، والأهم أمّنه على سر حياته، بعدما أخذه إلى السرداب السري أطلعه على مالم يخطر بباله يوماً.

الخلافة والمحنة

 مر بتاريخ العرب الكثير من المِحن والأزمات سواء العسكرية كالحروب الخارجية والمؤامرات الداخلية. أو المِحن الطبيعية كالأوبئة والأمراض والجفاف. أو المِحن الفكرية، وأثناء الخلافة العباسية كثرت الأخيرة.

ومن بين هذه المِحن الفكرية ما يُعرف في التاريخ العربي بمحنة خلق القرآن.  وربما هي الحدث الأكثر تأثيرا على العرب وقتئذ وحتى اليوم. ببساطة أثار المعتزلة تساؤلاً عما إذا كان القرآن الكريم مخلوق محدث أم أزلي قديم؟ وفي سبيل الإجابة على هذا التساؤل طارت الكثير من الرقاب.

ولمّا كان الخليفة المأمون مُحابياُ للمعتزلة وأفكارهم، تبني عقيدتهم القائلة بأن القرآن مخلوق. وبدأ ينكّل بمن يخالف هذا الرأي ومِن ضمن هؤلاء كان الفقيه أحمد بن حنبل، الذى زُجّ به في السجن حتى يعدل عن رأيه ويقول أن القرآن مخلوق، وظل حبيس سجون المأمون حتى مات وتولى المعتصم بالله، الذي عفى عنه وأخرجه مِن سجنه.

دلالة حلم المعتصم

 كان المأمون قد أوصى بالخلافة بعد موته للمعتصم ومِن بعده لابنه العباس بن المأمون. لكن الأخير رفض الوصية ونازع عمه بمساندة مِن أخواله الفرس. لكن المعتصم استطاع وئد الفتنة في مهدها وأخضع العبّاس ابن أخيه وقتل المتآمرين ضده.

 منذ بدء الرواية والمعتصم يداهمه ذاك الكابوس الذي يقض مضجعه. ينام فيحلم أنه في قاعة الخلافة ويدخل عليه شيخ جليل مهيب الطلعة وضّاء الوجه مكبلاً بسلاسل حديدية، يفرد أمامه صفحة تنشر الدماء على وجهه، لينتفض بعدها المعتصم مستيقظا.

 بعد تولى المعتصم الخلافة عرف مَن يكون شيخ الكابوس. فلما أحتدم الخلاف في مسألة خلق القرآن وأستتبت الخلافة في يد المعتصم، استدعى من سجنه الإمام أحمد بن حنبل ليحاوره في المسألة علّه يجد فى رأيه ما يستطيع الإفراج به عنه. حالما دخل الشيخ قاعة الحكم فما كان إلا تجسيداً لحلم المعتصم، الشيخ البهي المُكبل بالسلاسل الحديدية. وبإعاز ممن حوله لم يستطع المعتصم الصفح مباشرة عن الإمام إلا بعد أن أضطر لجلده وأخيرا عفى عنه. وهو نفسه الشيخ الذي أيده وحشد الناس لمعاضدته عندما كان المعتصم يتأهب للخروج إلى عمورية للقضاء على جيش بابك الخرمي قائد حركة الخرامية الأذربيجانية، الكاره للعباسيين، مَن يضرب ولاياتهم ويلوذ للإحتماء بجيش الروم.

الأيقونات: حرب فكرية أخرى

اللمحة التاريخية الهامة أيضا التي سلط العبودي الضوء عليها في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية هي «حرب الايقونات». فعندما اصطحب كبير قساوسة عمورية الترمذي إلى سردابه السري عرض عليه ما يخفيه مِن أيقونات للمسيح والعذراء والقديسين. تلك الأيقونات أو التماثيل التى حرّمتها الكنيسة الأرثوذكسية وقامت عليها الحروب وطارت أيضا في سبيلها الرقاب وكان القسّ يؤمن بها لكن فى الخفاء.

أما السر الثاني الذي أطلع القس عليه محمداً، هو الرقعة الجلدية السرية التي بدأت بها الرواية، والتى أوصى بها محمدا في كهولته وعلى فراش موته، صديق عمره جعفر أن يُكفن بها دون أن يلحظها أحد. أوصاه أيضا وهو الواثق في أمانة المُوصى أنه لن يحاول الاطلاع عليها وأن يظل هذا سراً بينهما. تلك الرقعة التى عرفنا في نهاية الرواية أنها تحتوى على آيات من القرآن لم يعرفها أحد من قبل وبخروجها للعلن ستُحدث أكبر الفتن التي كانت العرب في غنى عنها.

اللغة أيضا مِن أهم ما يميز الرواية. فرغم أنها مكتوبة بالعربية الفصحى القريبة مِن لغة كتب التراث إلا أنها لا تزال سهلة مُعبرة عن قضايا الرواية، ومتناسبة أيضا مع الحقبة التاريخية للدولة العباسية. من دون تعقيد فهمنا ما أراد الكاتب إيصاله عن المعاناة التي عاشها البشر العاديون سكان المدن والقرى مع الغارات الخارجية من جيوش محتلة، والمذابح والقتل والحرق والتشريد، وعن حياة القصور وصراع السّاسة، وحياة الجواري والعبيد والغلمان ومكانتهم وتأثيرهم في تلك القصور.

سماح ممدوح حسن؛ مترجمة وكاتبة مصرية.

رواه الترمذي

خاص قنّاص – أهوى الهوى كتاب

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى