بطاقة:
محمد صباح الدين أبو قوس المعروف باسم صباح فخري
الميلاد: 2 أيار 1933
المكان حلب حارة الأعجام، حي القصيلة.
الوفاة: 2 تشرين الثاني 2021
إنه صباح فخري الاسم الأشهر في عالم الغناء والطرب، الاسم الذي دخل ذاكرة الفن السمعي العربي ولن يغادرها عبر الأجيال القادمة.
موهبة نادرة وصوت صادح صريح كما لو أنه قُد من حجارة حلب وشموخ قلعتها، سيطل واثقاً وهو في لفائف المهد، حيث كانت البداية كما يروي صباح فخري أن أهله اكتشفوا صوته لأول مرة عندما كان رضيعاً. وأنه لدى ولادته وفي عمر الشهر الواحد كان أحد أقربائه يتعمد إيقاظه عبر “قرصه” لأنه يحب سماع صوته حتى وهو يبكي فقد كانت لديه نغمة خاصة في البكاء.. بعد حين وفي الخامسة من عمره وجد الطفل نفسه يغني على شجرة في الدار.. سيدة من زائرات البيت تستمع إلى عذوبة غير مسبوقة، تناديه: تعال، انزل.. تعال أعلمك الموال، وفعلاً كان أول موال تعلمه من هذه السيدة: غرد يا بلبل وسل الناس بتغريدك، ثم تعهدته بالرعاية وتابعت تعليمة مواويل أخرى إلى أن بدأ شقيقه الأكبر عبد الهادي يصطحبه إلى الموالد والأذكار وزوايا الصوفية النقشبندية، وهناك بدأ يستمع بشغف إلى القدود والموشحات والأدوار، ثم تعهده بالتعليم أستاذه الملحن الموسيقي محمد رجب، وأول ما تعلمه منه الموشح: يا هلالاً غاب عنا واحتجب، من مقام الراست، وهنا بدأ الصغير يخطو خطواته الأولى في تعلم المقامات ورافق ذلك بدء حفظه القرآن والتجويد، وعندما اشتد عوده وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل في حلب استطاع أن يجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي “السمّيعة” الذين يتمتعون بآذان لا تخطىء النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينيات القرن الماضي. في تلك الفترة ساهمت “خوانم” أو نساء ذلك الزمن بصعود نجم الفتى صباح الدين حيث أن من العادات الاجتماعية لسيدات حلب تحديد موعد شهري لكل سيدة تستقبل فيه من ترغب من معارفها وتكون الدار مفتوحة على الغناء والعزف والرقص وهو ما كان يسمى “القبول”، وصارت النساء يطلبن من صباح الدين الغناء في هذه التجمعات. وقد شارك في الغناء في حلقة إنشاد وهو في الثامنة من عمره ونال ليرتين سوريتين كأول أجر في حياته، ولم يكد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي ورئيس وزرائه جميل مردم بك خلال زيارتهما حلب عام 1946، ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب، ولعل أهم محطة في حياته الفنية تعرفه إلى الشيخ علي الدرويش وولديه إبراهيم ونديم، وعقب ذلك سيتعهده بالرعاية الملحن والموسيقي سامي الشوا العازف في فرقة أم كلثوم، حيث راح يجول به في المحافظات السورية ثم يهم بأخذه إلى مصر، لكن الزعيم السوري فخري البارودي يعجب بصوته ويتوقع له مستقبلاً ساطعاً ويشجعه ليظل في دمشق، حيث أتاح له الفرصة للاحتكاك بكبار الموسيقيين ودراسة ما تضمه مكتبته الموسيقية الفنية التي تعتبر من المكتبات الموسيقية النادرة في الوطن العربي، فعمل بذلك على صقل موهبته وضمه إلى مجالس الطرب التي كان يعقدها في دارته الغناء في دمشق.
في إحدى الحفلات الإذاعية المباشرة على الهواء والتي كان يقدمها المذيع صباح القباني شقيق الشاعر نزار قباني أراد النائب فخري البارودي أن يتبنى المطرب محمد صباح ويعطيه لقبه فأوعز إلى القباني أن يقدمه باسم صباح فخري، وبه عرف بدلاً من (أبو قوس).
ولعل هذه الموهبة الفذة والمقدرة النادرة في الغناء يعزوها كثيرون إلى حفظه القرآن في الثانية عشرة من العمر، بأحد مدارس حلب القرآنية، ودراسته مبادئ اللغة العربية، وعلم البيان والتجويد، مستمراً في التلقي حتى عام 1947. وكان أول نضوج للموهبة في حلب حيث تلقى أصول الفن في أكاديمية الموسيقا العربية، وفي دمشق انتسب إلى المعهد الموسيقي الشرقي الذي أسسه الشاعر فخري البارودي، وتخرج منه عام 1949، وفيهما أنهى دراسة الموشحات والإيقاعات ورقص السماح والقصائد والأدوار والصولفيج والعزف على العود، على يد ثلة من شيوخ الفن كالشيخ علي الدرويش والشيخ عمر البطش وبكري الكردي وصبحي الحريري ومصطفى الطراب ومجدي العقيلي.. وبدأ خطواته العملية الأولى بمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش حيث وضع أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يناهز الرابعة عشرة، وكانت أنشودة “يا رايحين لبيت الله/ مع السلامة وألف سلام/ مبروك عليك يا عبدالله/ يا قاصد كعبة الإسلام”.
أما أول أدواره القديمة فكانت من ألحان سري الطنبورجي وهو حمصي المنشأ سكن في دمشق وعمل بائع أحذية. وتقول الأغنية: ”أنا في سكرين من خمر وعين/ واحتراق بلهيب الشفتين/ لا تزدني بل فزدني فتنة بالحاجبين”. وقد غدت هذه القصيدة ملتصقة باسم صباح فخري بعد أن أضاف إليها من روحه في اللحن والكلمة.
في انتقاله من الصبا إلى الشباب يصاب صوت صباح بحشرجة وبحة غيرت طبيعة صوته ورمته بالإحباط فساءت حالته النفسية، إذ كلما حاول أن يرفع عقيرته بالغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. إنه ليس صوتي.. لست أنا الذي يغني، ما الذي حصل؟ كلها تساؤلات كان يضج بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق. وأطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مكرها وهو في سن الخامسة عشرة، فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب، واستمر في تجواله القلق المشتت إلى أن التحق بخدمة العلم.. ستمر سنوات وتكتمل رجولة صباح فتعود الحياة إلى حنجرته التي تبلورت واكتمل تكوينها لتعيد للكنز الدفين تألقه.. ها قد عاد صوت صباح فخري الرجل يشق لنفسه مكاناً بين ذكريات سني المراهقة في أحياء حلب وبيوتها.
ورجع صباح فخري إلى أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق وما كان يعرف بخيمة حماد التي غنى فيها مع المطربة اللبنانية صباح، وهناك قدم الموال والقد والموشح والقصائد التقليدية لأعلام من الشعر العربي، لأبي فراس والمتنبي وابن الفارض والرواس وابن زهر الأندلسي وابن زيدون… وبات من أشهر أغانيه الذائعة: خمرة الحب، يا حادي العيس، يا طيرة طيري، مالك يا حلوة مالك، فوق النخل، يا مال الشام، قل للمليحة… إضافة إلى عدد كبير من الموشحات والمواويل والأدوار والقدود التي لاقت شعبية واسعة في العالم العربي والمهاجر العديدة في العالم، حيث استطاع بمعرفته الموسيقية وصوته القادر أن يحافظ على جزء كبير من التراث الموسيقي وأن يحدثه ويطوره، وقد وثّق ما يقارب 160 عملاً فنياً بين ألحان وقصائد وموشحات ومواويل للحفاظ على التراث الموسيقي الذي تنفرد به مدينة حلب.
في فترة متقدمة بات صباح فخري علامة فارقة في التراث الموسيقي والغناء العربي الكلاسيكي وذلك نتيجة معايشته لأرباب الفن ومشاهيره، وقد اشتهر بأدائه المتفوق لتلك الأعمال وبنوع خاص من القدود الحلبية والموشحات الأندلسية والأدوار والقصائد التي أهلته جميعها لأن يحتل المكانة الأولى في الوطن العربي بهذا الضرب من فنون الغناء، متفوقاً على سائر المطربين دون استثناء، وقد ساعده على تبوؤ هذا المركز صوته القوي الواسع المساحات الذي يستطيع أداء أقصى الطبقات العالية والأخرى المنخفضة بسهولة ويسر لا يتمكن منها غيره من المطربين، والتي اكتسبها من خلال مبادئ الإلقاء الغنائي التي درسها على أيدي شيوخ الموسيقا منذ نعومة أظفاره، ويمكن القول على ضوء الحفلات الغنائية الكثيرة التي أحياها في مختلف أرجاء الوطن العربي والتسجيلات المتداولة بأنه المطرب الوحيد في الوطن العربي الذي يستطيع أداء العرض الصوتي الحر (التفريع) بمهارة فائقة لا يجيدها غيره، لأن العرض الصوتي الحر يحتاج إلى مهارة وإلمام متقن وكبير بالمقامات الموسيقية التي يجيدها إجادة تامة، وكثيراً ما أحرج خلال حفلاته الفرقة الموسيقية التي تعمل معه والعازفين الإفراديين الذين يلازمونه في العرض الصوتي الحر عندما يخرج إلى مقامات بعيدة وصعبة ثم يعود منها إلى المقام الأصلي بسهولة ويسر فائقين وكأنه لم يفعل شيئاً.
شارك صباح فخري في عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية والإذاعية، نذكر منها مثلاً: فيلم (الوادي الكبير) مع المطربة وردة الجزائرية، وفيلم (الصعاليك) عام 1965 مع مريم فخر الدين والثنائي دريد ونهاد، ومسلسل (نغم الأمس) مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري، كما شارك في البرنامج التلفزيوني: (أسماء الله الحسنى) مع عبد الرحمن آل رشي ومنى واصف وزيناتي قدسية، إلى جانب مشاركته في المسلسل الإذاعي (زرياب).
وعلى امتداد محطات مسيرته الفنية، تميّز صباح فخري ببراعته الكبيرة في الاحتفاظ بتفاعل حار من الجمهور حين يقف على المسرح، مهما طال به الوقت دون ملل، حتى أنه استطاع تسجيل اسمه في موسوعة «جينيس» للأرقام القياسية، بغنائه المستمر لعشر ساعات متواصلة في العاصمة الفينزويلية كاراكاس عام 1968. كما صنفته موسوعة «ميكروسوفت» للوسائط المتعددة التي عُرفت باسم «إنكارتا» (Microsoft Encarta)، كواحد من رموز الغناء العربي الأصيل.
حاز صباح فخري الكثير من الجوائز وشهادات التقدير، منها شهادة تقدير لغنائه في قاعة نوبل للسلام في السويد على إحيائه للطرب العربي الأصيل، إلى جانب أدائه في قاعة بيتهوفن في مدينة بون الألمانية وقاعة قصر المؤتمرات في باريس، وفق موقع «بي بي سي». كما نال وسام تونس الثقافي الذي قلده إياه الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة عام 1975، ووسام التكريم من السلطان قابوس عام 2000، والميدالية الذهبية في مهرجان الأغنية العربية في دمشق عام 1978، ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة.
وداعاً صباح فخري. رحل الجسد لكن موهبة نادرة فريدة ستظل متربعة على عرش الإبداع الغنائي العربي ما شاء لها الزمن والذوق وأصالة الفن الرفيع.
خاص مجلة قنآص
محمد شويحنة؛ كاتب وروائي سوري.